الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

مسيرة عطاء بلا حدود
د. خالد حسين البياري

بدأت علاقتي بفقيدنا أستاذاً ومعلماً منذ التحقت بالمدرسة العزيزية الابتدائية في عنيزة واستمرت صداقة مليئة بالحب والوفاء على مدى أربعين عاما كان (أبو إبراهيم) رحمه الله فيها بالنسبة لي ولكثير من أبناء جيلي.. كان رجلا اختزل كل ما نملك وكل ما نفتقد من قدرات فكرية واجتماعية لتفيض ينبوعاً من العطاء المتفاني لكل من عرفه ولكل من جمعته به الأيام.. إن محاولة الإلمام بشخصية (أبو إبراهيم) هي نوع من الإبحار في جزر الأحلام.. فأنت دائماً في حيرة من أمرك..أي الجوانب أهم..وأيها أجمل..لأنه كان مزيجا نادرا من القدرات الذهنية الفذة.. والجوانب الإنسانية الرائعة..
موسوعيته مشهود له بها ومعرفته بميادين العلوم المختلفة كانت دائما مقصداً لطالبي المعرفة.. فمن تاريخ الحضارة.. إلى تاريخ الجزيرة.. إلى تاريخ عنيزة.. ومن أسرار الفلك.. إلى أسرار حياة أصغر مخلوقات الكرة الأرضية.. كما تميز، رحمه الله، بحبه ومعرفته باللغة العربية وشعرها وشعرائها.. إضافة إلى تغنيه بالشعر الشعبي وجمال صوره التي كان يُبهر بها سامعيه من جلسائه. عرف أيضا بمرجعيته وعلمه بأجناس العالم..وقبائله..وأديانه ومذاهبه.. في أنحاء المعمورة.. ومرجعيته في أنساب قبائل الجزيرة العربية.. وعوائل نجد والحجاز.. وغيرها.. والسلسلة... تطول.
ولم تكن موسوعية (أبو إبراهيم) هي ما يميزه فقط بل كانت قدراته التحليلية الرائعة.. بمعنى القدرة على ربط هذا الكم الهائل من المعلومات للخروج بفكرة واضحة وتفسير منطقي.. وتحليل علمي غاية في الدقة للكثير من الأمور التي كانت تثار في مجلسه.. سواء ما يتعلق منها بالحياة في هذا الكون أو الأوضاع الاجتماعية والفكرية والسياسية... إضافة إلى قدرته النادرة على سبر أغوار النفس البشرية بطريقة علمية.. حيث كان دائما يؤمن بالتحليل العلمي المنطقي للأشياء.. ولعلي أذكر إحدى نظرياته التي أخبرنا بها في إحدى جلساته في مزرعته (مطله) عن اختزال الوجود كله في شكل (دائرة).. وكيف أن الدائرة تمثل البداية فيها النهاية.. مستشهدا بما ورد في القرآن {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ...} فالأرض دائرة.. والكواكب تسير في دوائر.. ومسار الذرة حول النواة هي دائرة.. وحياة الإنسان ما هي إلا دائرة..
بالرغم من هذه القدرات التحليلية الفذة.. والعطاء المتدفق.. والقدرة على دعم نظرياته وآرائه بالحقائق العلمية.. والظواهر المادية الواضحة.. بالرغم من هذا.. فلم يكن (أبو إبراهيم) يرى في أن ما يقوله.. يستحق التدوين!! ولعله هنا كانت تكمن مشكلة الكثير من مريديه في عدم استطاعتهم إقناعه بتدوين هذه الأفكار وكتابتها.. ومن المؤكد.. أنه لو تم تدوين هذه الأفكار.. وهذه النظريات.. لكانت إرثا إنسانيا مميزا.. علَّمنا هذا الرجل أن نحب الوطن.. من أجل الوطن.. أن نحب هذه الأرض.. أن نكافح.. أن نسعى للتغيير الإيجابي.. بلا كلل أو ملل.. أن نعطي.. ونعطي في أي موقع كنا فيه.. ولعلي الآن أتذكر موقفا حدث لي عندما كنت على مشارف نهاية المرحلة الابتدائية في المدرسة العزيزية حينما استدعاني لمكتبه وأهداني مجموعة من الكتب الجميلة لازلت أحتفظ بها.. عندما أخبرته عن مدى تعلقي بهذه المدرسة وأمنيتي لو كانت تحتوي على مرحلة متوسطة وأخرى ثانوية!! عندها قال لي (أريدك أن تكون مثل السحابة الممطرة تسير.. وتوزع مطرها على كل مكان تزوره).. كلمات (أبو إبراهيم) أصبحت درسا لي في حياتي...
فالعطاء بلا حدود..كان يتمثل لي دائما في شخص (أبو إبراهيم).. فقد أعطى.. وأعطى.. وأعطى الكثير.. لا أقول جُلَّ حياته بل كلها.. أعطاها لمن حوله.. لأجيال عاصرته.. سواء في (العزيزية).. أو جلسات (المسهرية) أو جلسات (مطله) أو للكثير ممن كانوا يقصدونه.. من شتى أنحاء البلاد وخارجها.. ولعل هذا الكمَّ الهائل من العطاء.. يتجلى في إحساس كل من عرفه عن قرب.. أن له موقعاً خاصاً في قلب (أبو إبراهيم).. كل واحد منا كان يحس أنه الأقرب له!!
كان له أيضا قدرة مميزة على التعامل مع جميع أطياف المجتمع.. فنجد في مجلسه أستاذ الجامعة.. وتجد طالباً في مقتبل عمره.. تجد ابن البادية.. وتجد المثقف والأديب والمفكر.. تجد رجل الأعمال والطبيب.. وتجد صاحب الحرفة البسيط.. ومع ذلك.. كان (أبو إبراهيم) قادرا على إيجاد تناغم طبيعي بين كل هذه الأطياف.. بقدرة فذة سرها حبه للعطاء.. بدون حدود..
ومن المفارقات أن يتجلى عطاء (أبو إبراهيم) حتى في يوم وفاته.. ففي صباح ذلك اليوم كنت على موعد أن أتذوق لأول مرة ما طرحته نخلة (البرحي) التي أهداني إياها لأزرعها في حديقة منزلي... ستُذكِّرني هذه النخلة صباح مساء.. بهذا الرجل.. وكما قال أحد الأصدقاء القريبين له جداً.. كان (أبو إبراهيم) تجسيدا حيا لمقولة (شمعة تحترق لتضيء لمن حولها)... أكاد أجزم كذلك أني والكثير ممن عرفوه، لم يستوعبوا حتى الآن معنى رحيل (أبو إبراهيم) عنا.. فما زلنا نحس وكأنه سُرق منا..!! كيف سنذهب إلى عنيزة.. ولا نراه؟؟ هل انتهت فعلاً جلسات (مطله) وسهراتنا تحت ضوء قمر ليالي الصيف.. أو حول نار الحطب في ليالي الشتاء؟؟ وأيضا أكاد أجزم، وبعيدا عن أي صورة للمبالغة أننا وعلى الأقل في ما تبقى من أعمارنا لن نرى رجلا عظيما مثله استطاع أن يجمع بين كل هذه العناصر التي ذكرتها من موسوعية متعمقة وقدرة على فلسفة وتحليل هذا الكون.. إلى شخصية إنسانية تعطي بلا حدود.. تلك كانت كلمات وفاء.. لم ولن توفي هذا الرجل حقه.. إنما هي خواطر.. من أعماق ذاتي استلهمتها.. لأني فعلا بدأت الآن أحس بمدى الفراغ الذي سيتركه رحيل (أبو إبراهيم) رحمه الله في حياتنا.. وإذا كان لنا من عزاءٍ.. فهو أن يتم تخليد ذكراه.. بأي صورة تليق بما أعطاه لأجيال رافقته وأجيال تتلمذت على يديه.


* أستاذ سابق في جامعة البترول
قيادي في القطاع الأهلي حالياً

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved