الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 8th December,2003 العدد : 38

الأثنين 14 ,شوال 1424

محمد العلي الشاعر: ريادة وتأصيل
د. محمد صالح الشنطي

محمد العلي أرومة إبداعية ضاربة في عمق التاريخ الأدبي الحديث بكل تجلياته وتوهجاته، انطلاقة في فضاء الشعر مرفوفاً بجناحين أحدهما تنتظم خوافيه وقوادمه لتعصف بقيود الصناعة وأسيجتها والآخر يحلق بعيدا ليلامس آفاقاً جديدة بكراً لم تفترعها براعة شاعر من قبل.
لن أستعير ما قاله أحد الشعراء الذين تضخمت ذواتهم وأسنت على حواف البرك الخضراء «أناشيدُ المشيتين» ولكنني أقول: إن محمد العلي أتقن السير على دروب القصيدة العمودية فأضاءها ببصيرته الشعرية، وأخذ يحفر طريقه عبر مفاوز القصيدة الحديثة فأوجد له مساحة بحجم الموقع الريادي الذي احتله في الابداع الشعري العربي المعاصر.
ظل محمد العلي وفياً لمرحلته التاريخية نقداً وابداعاً، فسار في الدروب التي اختطتها ضرورات التطور، ولكنه لم يتمرد على ذوق عصره ومزاج التلقي السائد بل تسلل ليلتقط النبض الجديد الذي خفقت به ابداعات كوكبة من الشعراء ارتادوا أرضا بكرا ليخرجوا من أصفاد الزمن ويفجروا صدفة القيود الابداعية التي حشرهم داخلها تقليد أدبي يتخذ من النموذج الجمالي في مرحلة سابقا مثالا يحتذى.
وقد أطل محمد العلي علينا في مرحلة البدايات شاعراً وجدانيا أضاف الى القصيدة الوجدانية بعداً تحديثيا محدوداً بحدود رؤيته الشعرية ومزاجه الابداعي الذي انبثق من معايشته لمرحلته وانطلق من ثقافته، فكان الانتظام داخل حدود مرسومة تحكم القصيدة وتحافظ على تماسكها ديدنه، فالانحراف عن لغة الشعر القديم كان مقدراً ومدروساً، والترميز الذي أضفاه على بعض عناصر النص الشعري بقي مدركاً ومفهوماً، إذ تدرج في تجديده عبر القصيدة الحديثة مما كان مألوفاً في شعره العمودي حيث تحتل الصورة البيانية التي تطورت أبعادها المشهدية التمثيلية حيزاً لا بأس به داخل القصيدة، وفي مرحلة تالية كان للأمثولة الرمزية والتقرير الحسي الموظف توظيفاً ابداعيا مدهشا حضورا ملموسا منذ أن كتب قصيدة «الغابة» التي اعتقد أنها تمثل انطلاقته الأولى في عالم القصيدة الجديدة مروراً بقصائده الاخرى «الجذر المتعب» و«العيد والخليج» و«سفر» وهيلا هوب هيلا» و«رثاثة» و«غابة الصدأ» «وآه متى أتغزل» «وكنت تقرأ شعرا»و«عروق المدينة» و«أم غوران» و«يا صلاة النبي» و«بحرنا من حجر».. الخ، فالانتظام والانضباط داخل سياق يفصح عن صفاء الرؤية دون تشتت أو تشظ هو الطابع الذي يسم القصيدة، ففي قصيدته «إذا انداحت الهاوية» تبدأ التساؤلات التي تقرر الحقيقة كما يراها الشاعر حاملة الادلة في تمثيل مجازي قائم على عقد المماثلة «المشابهة» أولا، ثم ما يترتب على هذا التماثل من معنى يتلامح خلف الصورة التي تقوم على منطق التشبيه.
«ما الذي سوف يبقى
حين تحبُّ الخيول اعنتها
وتحب الحقول الخريف»
وهو ما يمكن ترجمته على خلفية الواقعة التاريخية، إذ يمضي الشاعر بعد ذلك في تشكيل صوره التي تبدو أقرب إلى الأدلة التي يترافع بها أمام محكمة التاريخ بوصفه مدعياً عاماً، كصورة الضباب والمصابيح التي تحجب الرؤية، وصورة النهر المتقهقر، والنخيل المطاطي والطيور التي تنسى الرفيق، وهنا أمام فداحة هذا الانكسار يفزع الشاعر في التفاتة مرعوبة الى الماضي، ويواجه ذاكرته في سلسلة من الاستفهامات الانكارية ثم يعود إلى المفتتح مكملا لدورة الانفعال:
«هل أنت ذاكرته
وهل أنت تلك التي يرهق الشوق فيها جناحيه»
ولعل الاتجاه إلى النقاط جزئيات الواقع وإدراجها في نسق سردي تتابعي ذي منحى أفقي هو السائد في شعر محمد العلي الذي ينتمي إلى مرحلة الشعراء الواقعيين الذي كان تجديدهم للقصيدة يسلك هذا المسلك الذي بدأ يشكل تياراً زاخراً بهموم الواقع وإعادة انتاجه في نسيج جمالي غير مألوف إذ يتجافى السرد عن القص بمفهومه التقليدي ويكتظ بحمولة دلالية كثيفة نتيجة لعملية الترميز المستمرة لعناصر السرد فيه على الرغم من سيادة البناء الحكائي المتماسك الذي لا تتكسر فيه سياقات الزمن مع الاحتفاظ بالأفق الاستبدالي الذي يتقاطع معه على شكل تداخلات ذات صيغة تناصية في حين تأخذ الصورة طابع التمثيل الكنائي الذي ينازعه الثوب الاستعاري في حدوده المجازية المألوفة والتجريد الرمزي الذي يأخذ طابعا كليا محدودا تمثيلي الطابع كصورة الزورق في قوله من قصيدة في الغابة:
ورف الزورق الظمآن
ومجداف من الضحكات راح يخض أعصابي
ومن الواضح ان التشكيل هنا متجاوز لما هو مألوف لدى الرومانسيين الذين ابتذلوا صورة الزورق في صياغات نمطية أصبحت بالية من كثرة التكرار.
ونقل الواقعة النفسية والحسية في مستواها الدلالي الأول، ثم الخروج على هذا المستوى عبر التداخل النصوصي أو ما يمكن أن يفهم على أنه تضمين للمحكي في اللهجة المحلية واستدعاء النماذج التراثية وصناعة المفارقة عبر تشكيل الثنائيات ثم الاشارات الاسطورية كأسطورة (ديوجين) واستثمار النصوص القرآنية الكريمة، كل ذلك يأتي في سياق أسلوب الكاتب القائم على المزاوجة بين المستوى الوقائعي حيث تأتي بشارته المباشرة أشبه بمفاتيح أو مداخل لفهم المغرى، أما العنوان فيحمل دلالة رمزية ذات أفق محدد، إذ تعني الغابة في العنوان ذلك الجو الصراعي الوحشي الذي يتوه الانسان في شعابه الموبوءة فيفقد نقاءه، وهي دلالة مفارقة، فهي قد تعني في مستوى آخر عالم الطهر والبراءة المبكر خصوصاً لدى الرومانسيين، ويظل الصوت الواحد هو المسيطر على الرغم من محاولات الشاعر تهشيم الغنائية المألوفة عن طريق اقتحامها ببعض الثنائيات المتباعدة الدلالة في إطار من التراسل المفارق.
ولعل لجوء الشاعر الى حقن السياق الغنائي بالثنائيات المفارقة وبالصورة المشهدية وتغييب مرجعية الضمير، وتكثيف التمثيل الكنائي في جدله مع النموذج الرمز والمزج بين الفعل الإنساني والفعل الكوني عبر تفاصيل الصورة والإلحاح الوضعي باستثمار الفعل المضارع واسم الاشارة المقترن بضمير الغائب ووضع الفعل الواقعي في مقابل الحلم، والمواجهة بين الذات والآخر حيث تستنهض للوقوف في وجه التدمير في إطار المنحى السردي الوضعي يسهم في كسر النمط الغنائي حيث يجمع الشاعر بين البوح والطلب الذي يذكي اللحظة في ضرامها وتوقدها والآتي في عدوانيته وتدميره.
وليس من شك في أن التنامي الأفقي يصعد التنامي النفسي والوجداني الذي يظل أسير اللحظة المحتشدة باحتمالات الرعب والخوف حيث التراكم المفضي الى التحول ليس في شكله القصصي المعتاد ولكن على شكل هزة تحدث انعطافا داخليا نفسيا، والقصيدة في هذه الحالة تمضي نحو التجريد من خلال المحسوس.
وثمة ظواهر أسلوبية فارة تتكرر إذ تتقابل معاني الحضور والغياب والاحتشاد والتهيؤ، يتضح ذلك في استخدام الحروف الدالة على الاستقبال، كذلك الاسئلة المتبوعة بالنفي معبرة عن حالة الفقد والضعف في مقابل الحضور والامتلاء، والفعل المضعف الأمري الذي يمثل لحظة الانعطاف التحول:
لماذا ليس لي قمر؟
لماذا ليس لي ريش أطير به إلى النجمة
وتصرخ كل أعماقي
ألا فاغضب.. إلخ
وفي قصيدته النخلة تتبدى ظواهر فنية ذات سمة خاصة تتآزر دلاليا لتفضي الى معانقة المرحلة بشواطئها الزمانية والمكانية دون أن تؤكد تحققها في اشارات حدثية اخبارية أو وصفية عينية أو من خلال الفرضية التقليدية المباشرة، بل إن محور الغياب منها أقوى من ملامح الحضور، الأمر الذي يحذر ملمحها الحداثي.
ثمة مسافة تفصل بين صوتين في القصيدة: صوت الشاعر وصوت الوعي الطالع من البنيات المتشكلة داخل القصيدة والعناصر الكونية بدوالها المتعددة يتم استقطابها في مدارات كلية وشدّها الى محور دلالي خاص له تجذره في المكان والزمان.
والتشكيل اللغوي يتخذ طابع الموجات التي تهز ثبات الاشياء وتنخرها، إذ ان ابرز ما تشير اليه القصيدة عنه الترسخ الدلالي والالتحام بالمرحلة التاريخية واتساع فضاء الدلالة والتحام عملية الابداع بالرؤية والكثافة الغنائية بايقاعها الواضح ومثول محور الغياب، واتساع الشقة بين عناصر الصورة الشعرية والانحراف بالسياق عن النسق التقليدي والبث الدلالي المتجدد.
وهكذا يتبدى محمد العلي سيّدا للحضور الابداعي في القصيدة الحديثة، وهذه اللمحات التي قدمتها عن شعره إنما هي بعض مظاهر شاعريته التي سيكون التاريخ حكماً في تقدير مدى حضورها في الساحة، وما هذه المقالة سوى هامش على رصيف هذا الحضور.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved