الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 8th December,2003 العدد : 38

الأثنين 14 ,شوال 1424

البعد الأبوي
رياض محمد العلي
إنه الأب!
في البداية، نظرة خاطفة الى الوراء، كان الوالد يتفهم الطفولة، يرى احتياجاتهم، تعامله ابوي ممتزج بالعاطفة المرهفة. كان ولا يزال يحمل النظرة المتفتحة حول التربية مما يجعله مميزاً جدا متجاوزاً للمفهوم التقليدي السائد نحو التربية. كان يحاول اشراكنا في كل القرارات المتصلة بحياتنا، وكان يتمتع بالنظرة الشمولية للتربية الواعية. وبالرغم من ضعف امكاناته المادية آنذاك، كان يوفر كل ما يمتلك لرغبتنا ومطالبنا الآنية.
كما كان محمد العلي ولا يزال واسع الأفق، ديمقراطي الاسلوب فهو لا يتدخل مطلقا في اختيارات او تصرفات الابناء، بل يترك الفرصة متاحة لابنائه وبناته لمواجهة الحياة وتحدياتها، لاختيار الاصدقاء ونمط الحياة التي تتلاءم مع كل فرد من الاسرة. كما كان يناقش المواضيع بشكل سهل وبسيط، ويسمح للجميع بابداء آرائهم. وكان يحرص على الجلسة العائلية، وهو ما يسمى في وقتنا الحالي عند علماء الاجتماع «الاجتماع العائلي» «Family Meeting» يترك فيه المجال لطرح مختلف المواضيع، ويشارك هو دائما في رواية ما بعد الغداء، وهي جلسة يطلق فيها الوالد لنفسه العنان يحكي مختلف الروايات الخيالية التي يرمز منها ومن الكثير من الاسئلة التي تتخللها الى اعطائنا الفرصة للتفكير، للتعليم، للابداع، لمزاولة الخيال الافقي الذي يسمح بتنمية القدرات والادوات الفكرية والابداعية مثل قصص طرزان، جزر الواق واق، السندباد البحري، الحيوانات المتصارعة.. الخ. كما كان يحرص الوالد العزيز على اثارة جلسة عائلية اخرى لطرح مواضيع تمس الاسرة للنقاش والحوار المتبادل في التفاصيل اليومية لحياة العائلة، وفي احيان اخرى تراه يطرح للنقاش كتب الاطفال المختلفة، كتباً كان قد احضرها هو ليساعدنا على تبني القراءة الجادة منذ ذلك الحين.
ماهو الشيء؟
سؤال غالبا ما كان يطرحه على اطفاله لاستثارة خيالهم المعرفي وللتواصل العاطفي معهم عن طريق النكتة، مثل:
ماهو الشيء الذي يصعد ولا يقفز؟
ماهو الشيء الذي يجوع ولا يأكل؟
ما الشيء الذي ينزل ولا يسقط؟
ماهو الشيء الذي يطلب منكم الابوان اكله ولا تأكلونه.
وعلى هذه الشاكلة تجد كوكبة من الاسئلة التي تتيح المجال للاستمتاع والتفكير في الاشياء غير المألوفة.
وبيت القصيد انه كان اباً غير تقليدي ليس لانه يزاول التربية الحديثة والتداخل الحيوي مع اطفاله فقط، بل وايضا يعوضهم عن احتياجاتهم المعرفية والفكرية والتنموية التي كانت شبه معدومة في البيئة الخارجية آنذاك.
اما قراءة الشعر، فكان متوهجا حقا تلك الفترة التي كنا فيها ما نزال نزاول الطفولة. فهذا هو ينتقل مثل النحلة الباحثة عن العسل بين اشعار السياب الى توفيق زياد الى الرصافي الى المتنبي الى باقي الشعراء الآخرين، وتراه يقتنص من كل ديوان او قصيدة بعض المقاطع التي كانت تؤرقه، فهو ينتقل من الفرح الى الحزن الى الغزل.. الخ.
أما انفعالاته
فعلى الرغم من انه سريع الغضب والانفعال كمن تراكمت في داخله بعض من شهقات الطفولة، الا انه لا يلجأ الى العقاب البدني. وفي ضبطه لسلوك اطفاله كان يعتمد على اسلوب الحوار والتفاهم من خلال فتح آفاق التفاهم والتبادل الفكري. انه لا يحب فرض آرائه او حتى اعلانها الا عندما يتهيأ الجو لذلك.
اذاً كيف يجب ان نصف محمد العلي الأب؟.. يجب ان نقول انه يتبنى المفهوم الديمقراطي للحديث الابوي يقارع الحجة بالحجة ويتبادل الحوار دون فوقية او حتى ابوية.
أما كيف يرى محمد العلي المادة..
فهو لا يرى المادة حتى من الجانب الشكلي. لا يراها حتى كوسيلة، فهو غارق في النظرة الى الحياة نفسها. ولذا فهو لا يرى الاستراتيجيات البعيدة المدى كما يراها الآخرون من حوله. انه يرى جمال الحياة في التخطي على الجانب غير السريالي منها. فهو لم يوفر المال قط. ولذا فهو لا يمتلك منزلا، او فيلا في الضاحية، انه غارق في الذي سوف يأتي، يمتلك تلك الزرعة التي ان نمت اغصانها تمددت جذورها.
وكيف كان يلعب الشطرنج؟
انه يحب الشطرنج في جميع مراحل حياته. فهو يلعب مع اطفاله واصدقائه وابنائه واحفاده، واظنه يلعب حتى مع زوجته. فهو يعشق هذه اللعبة. والذي يعرف شخصيته يستطيع ان يتلمس لماذا كان يحب هذه اللعبة على الاخص. الا ان محمد العلي وعلى الرغم من توافر هذا اللعبة على اجهزة الكمبيوتر في هذا الوقت، رفض التعامل معها لما فيها من الابتعاد عن الافق والتداخل الانساني.
العلاقة مع المرأة
لم يكن محمد العلي «سي السيد». انه غير تسلطي، انه غير تملكي، انه انساني يحمل ذلك البعد الروحي والاخلاقي للمرأة. نظرة المشاركة، نظرة الاحترام، نظرة الاحساس بالنصف الآخر، بالتكاملية، بالرفقة، بالدائرة المغلقة.
فها هو محمد العلي يترك زوجته واطفاله الثمانية في احضانها ولا يشكل ذلك هاجسا له، انه لا يرى سوى النور في الحياة. اما الظلام فقد جاء عليه ضياء المرأة واما الخوف فقد خرج فارا منذ الزواج بها.
«وعلى الرغم من ذلك الفارق المعرفي والدراسي بيني وبينها الا اني اشعر الضياء واشعر الحب واشعر الزمن ولا اشعر غير ذلك حين اكون معها».
وكيف كانت علاقته بالكتاب
انه يحب الكتاب، يستقيم كالرمح عندما يفتحه وتراه يسارع في خفاياه كالصياد يبحث عن فريسة، انه يبحث في اوراقه عنه يسأل في كل كتاب يفتحه «اين الكتاب»؟ اما ما يجول في خاطرها هي : «انه يريد الغداء بعد قليل، وهو يحب المحشي وعلي ان اذهب الى السوق لان المطبخ يكاد يخلو مما يحب».
* كم قرأت في عطلة العيد؟
7 مجلدات.
* ماهي؟
الحيوان للجاحظ.
انها مقدرة رواد الفضاء، هؤلاء الذين جندوا انفسهم لذلك الهدف دون الاكتراث لماهيات الحياة: الاكل او النوم او، او.. هذا هو الكتاب، وتلك هي القراءة. انها المقدرة على التجدد الدائم مثل الرمح الذي لا يضيره الحراك، وتلك الزهرة التي لا يتوقف شذاها عند الصباح، انها مترعة بالنضج، مترعة بوهج النار المشتعلة. ترى انعكاساتها جلية في افق التربية. انه يعدو ويقفز ويمضي فوق هؤلاء المهرولين. انه لا يرى الوقوف. انه يبحث عن كل شيء. يستمع، ثم يعيد نشارة قلمه ثم يفكر، ويحاور، ويقرأ، يعيد استقراء افكاره، وهكذا، كما تفعل الحجارة في الماء الآسن، تزفه من دائرة الى اخرى اكبر حتى تستنهض الماء الراكد فتجعل منه بحيرة هادرة.
انه يمتلك المفهوم والتعريف. فهو اذ يمسك بالجذر منذ نعومة اظفاره، جعلت منه صادقا شامخا ذا حرارة مرهفة ورؤية افقية تبحث في كل الاشياء، لا يقتنع بالقوالب الجاهزة، رقيق، ذو حس اجتماعي مميز، فنان، بعواطفه واحاسيسه.
الدراسة الجامعية
لان جميع ابنائه الثمانية اكملوا دراستهم الجامعية او فوق الجامعية للبعض، تجد هناك روعة الابوة، وقنواتها. انه كان يعطي، لا يدري من اين. لكن كانت الاشياء مزروعة فيه، لا يملك اكثر من نفسه. ولذا كان يقسم نفسه لينجح الابناء، يقسم نفسه الى اجزاء حتى تتحقق السعادة الاسرة لابنائه.
انه الاب!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved