الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 8th December,2003 العدد : 38

الأثنين 14 ,شوال 1424

قصة قصيرة
الرصاصة الصامتة.!
سلوى أبو مدين
بحركة عفوية تحرك جسد «أيّهم» الصغير.. وقف مليا ينظر الى ذاك الجو الملبد بالحركات اللا إرادية، صراخ هناك.. دماء مضرجة في الجانب الآخر، تقهقر في صفوف العدو، أشلاء أجساد مترامية، شوارع تكاد تخلو من المارة.. أقدام فارة تبحث عن مخبأ لها.!
جنود العدو رشقت رصاصها من خلف السور الحجري واختبأت خلفه..! ضباب كثيف يغطي المنطقة.. نظر ببراءة وسط ذاك الركام المتهالك وأخذ يبحث عن لعبة وسط ذاك اللهيب المتقاذف.!
كان يسترق النظر.. ليرى المشاهد التي ترجمتها ذاكرته الطفولية المعبرة لكن شيئاً ما تحرك في داخله، اختبأ وراء تلك الاطلال وبكى كثيراً، بكى أيهم.. ذو الست سنوات، وهو يحاول ان يختلس النظر من وراء تلك الشقوق التي غطاها الضباب. بكى «أيّهم» وهو يرى أجساداً مضرجة بالدماء، تصرع، ويلقى بها.. كل ذلك على مرأى من عينه.!
تلك المناظر المتشعبة المتداخلة، التي بدت وكأنها فيلم يعرض أمامه لأول مرة.!
القيود تحاصره.. الجوع يؤلمه.. اللهفة.. الألم.. كل ذلك وهو رابض تحت قهر الألم والحجارة التي تحولت في لحظة إلى رماد متناثر.
في زوايا المنزل الذي لم يبق منه سوى زوايا متهالكة وحجرة لطخت جدرانها بلون احمر، حاول ان يفهم المعاني التي رسمت أمامه.. لكنه ادرك ان اللون الاحمر هو لون الدم كما تعلم في مدرسته..!
في لحظات متربصة.. خرج بقوة جبرية تدفعه.. ربما ليكتشف الواقع الذي احاط به.. وربما ليغامر مثل الاجساد التي رسمها في ذاكرته. لم يعرف في هذه اللحظات معنى الخوف الذي داهمه قبيل ساعات معدودة.. حرك جسده الصغير المفعم بالتردد والشجاعة.. وهو ممسك بيده قلما التقطته اصابعه الرقيقة من ذاك المنزل الذي سقط فجأة دون سابق إنذار! مشى بخطوات وئيدة واثقة.. مازالت الطلقات تواصل دويّها في الخارج ولا يزال أيهم يخضع لإرادة داخلية تدفع به للتحرر من قيد السجن الذي كبله للحظات..!
كيف وهو ابن السنوات الست..!؟
توقفت اللحظات.. تكاد تموت عندها.. ويلزم الصمت المكان.. الأحياء الطرقات.. حتى الرصاص، توقف صوته فجأة..!
اللحظات الحاسمة تتقهقر الى الوراء.. حتى جنود الاحتلال اختفت صورهم في مدة وجيزة.. لم تبق منهم سوى رائحة الموت.. سلاحهم.. غطرستهم مرت وكأنها حلم.. استيقظ منه..!
توقفت الحياة.. عند أول قنبلة تفجرت.. ولازالت عينا «أيهم» تتابع تلك السلسلة المترابطة من أعمال القتل والتمثيل..لم تستطع عيناه الرماديتان ان تخفي ذاك القمع الذي ربض وراءهما.. فرسم في أعماقه صور قهر الغدر.. ورسم بقلمه مناظر خبأتها ذاكرته لجنود الاحتلال.
انطوت تلك السنون، واصبح أيهم غير ذي قبل.. فقد اجتّرت ذاكرته معنى اللون الأحمر التي اختزنتها، ورسم في وجدانه تلك الأجساد التي لطخت بذاك اللون القاني الذي امسك به ذات يوم.. حلّق مع تلك النماذج والأشباح الخاوية، لم يجد مبرراً لأسئلة دارت رحاها في داخله..!
ماذا يعني.. شجر يقلع.. ومنازل تهدم.. شريد.. طريد.. يتيم.. رصاص مدرعات..!؟
تقاذفت المعاني المبهمة أمامه.. واحتفظ بمعنى واحد «القهر».. حمل لين حنايا نفسه المتأججة المتقدة بالغضب.. وعاهد وطنه أنه سيصمد أمام دوي صوت ط..ر..ا..خ..
صاروخ.. قادم.. وقذيفة.. ثالثة..
وأصوات.. شرارة.. متطايرة من فوهة بركان تتقاذف هنا وهناك..
شربت نفسه كأس المرار.. وحمل بار وده الصامت.. وسار يتخبط في دروب طويلة، لينفذ وعده.. وعادت ذاكرته ترده الى الوراء.. مرات.. مرات.!
رجل هرم تفقأ عيناه..أم ثكلى.. شباب تسحق عظامهم..!
ماذا تعني أرض بلا سلام.. وموجة تغتال كل المكان.. ماذا يعني موت.. أرواح تزهق... و.... ...
افترسته اللحظات وعبّر على المآسي برباطة جأش..!
اطلق بباروده أول مشهد لصور العدو أمامه، بتلك الرصاصة الصامتة..
فأردت الغدر والقهر صرعى.!
تنفيذ سيناريو بطولي فوق تراب أرض لا يقدر بثمن.!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved