Culture Magazine Monday  09/07/2007 G Issue 206
الملف
الأثنين 24 ,جمادى الثانية 1428   العدد  206
 

الهاجس اللغوي في شعر آل عمر وفكره
أحمد بن عبدالله التيهاني

 

 

أستطيع أن أقرر- في البدء - بأنّ ما أكتبه -هنا- ليس عملا نقديا متكاملا من حيث المنهج ، والعمق، وإنما هو حياةٌ مع النصوص الشعرية لعلي آل عمر عسيري -رحمه الله-؛ والحياة داخل النصوص أو معها تعني يُسْرَ التناولِ، وقُرْبَ المأخذ، دون استعادة المقومات المنهجية للعمل النقدي القادر على اختراق التحصينات اللغوية للنصوص، ولذا سأقصر العمل القرائيَّ على تدوين الأثر النفسيّ للنصوص الشعرية وحسْب، وهي كتابةٌ آنيّة الفعلِ عتيقة التراكمات التأثريّة إذا تعلّق الأمر بعلاقة الاستمتاع والتذوق والصداقة التي تمتد نحو عشرين عاما.

وحين أباشر مهمة كاتب الانطباع فإنني أقرّ بأن المرء يقف مشدوها أمام لغة البداية وقوتها من خلال بعض النصوص التي ارتأى صاحبها-رحمه الله-عدم نشرها، ونلت شرف قراءتها حين خصّني بها الراحل -رحمه الله-، ومنها نصوص مميزة نظمها علي آل عمر عسيري وهو حينئذ طالب بالمرحلة الثانوية.

ولعل من أهم الظواهر التي يمكن لمحها بسهولة في شعر علي آل عمر عسيري -رحمه الله- ظاهرة وضوح الهاجس اللغوي لدى الشاعر؛ فهو دائم التداخل مع اللغة بوصفها أداةً إبداعية، حيث تشكّل اللغة هاجسا ذاتيا بالنسبة إلى علي آل عمر عسيري، وهي هاجس جمعي يؤرِّق بقضاياه المتشعبة أبناء المجموعة اللغوية الواحدة، وكلٌّ منهم يريد المثال بأسلوبه.

وتواجه القارئ في النتاج الشعري لعلي آل عمر عسيري قضية اللغة منذ الإهداء في ديوانه (قصائد غاضبة) (ص5) وكأنه يريد أن يضم الكلمة المبدعة إلى أسرتها وسرِّ كينونتها حين يقول في نص إهدائه: (إلى تلك الشجرة الصامتة.... تلك التي وسعتني صبرا وأنا أنقش جذعها كلَّ مساء في انتظار قصيدةٍ لم تكتمل).(ملحق الأربعاء، 20-6-1411هـ).

يقول الأستاذ الدكتور صالح زياد الغامدي عن هذا الإهداء: (ذلك أنّ هذا الإهداء لا ينغلق في شيء بعينه، بل ينفتح على الاخضرار الحي، والصمت، والصبر، ومضارعيّة النقش المتصل كل مساء... ونضع هذه اللغة التي تقف قبل الشاعر وبعده وخلال وعيه وعبر نسيجه الثقافي والفني).

وتطل على القارئ اللغة بوصفها قضية في (لافتة) التي تأتي لتقدِّم لنا الشاعر شاعرا، لا قرويّا مايزال يحاول التخلّص من عوامل الجذب الريفي زمانا ومكانا وأحداث ماضٍ تقابلها تحوّلات الحاضر، فهو في لافتة القصائد الغاضبة يبسط أمامنا طقوس الحالة، وأسرار لحظات الكتابة التي تشبه الحمّى أو الصرع الجسدي، أو سريان المجهول مع دماء الشرايين حتى تنزف الذاكرةُ بالرؤى، يقول : (ص8 قصائد غاضبة):

محمومٌ برؤى..

يهتزّ لها سرجُ الكلمات..

وتئنُّ مفاصل إلهامي

ترتعش النفثات

وأحسّ بمجهولٍ يتمتطّى

في كلِّ خلية دم

وحوارٍ...

في أنسجة الهمْ

ونزيفٍ يتدافع من ذاكرتي

نحو أصولِ المأساة

أنزعُ نفسي من رؤيا تخنقني

حتى الموت

حتى الموت

على أن النزول إلى عمق الحالة في (لافتة) يُواجهُ بالجانب العقلي في العملية الإبداعية، وذلك من خلال قصيدة (قلم الشعر) (ص14) الذي اكتفى بتقديم الموقف الفكري، والفلسفة الخاصة بالشاعر-رحمه الله- تجاه المهام الحياتية للفن، وسلبيات الاستخدام الإبداعي، وكأنه يؤيد المهام الحياتية أو الإصلاحية الوعظية الأخلاقية للفن، وهو ماعبّر عنه نثرا في إحدى مقالاته حين قال: (في نظري أن النظرة المتوثبة من عيني الأديب لابدّ أن تتضافر معها رؤيةٌ فكريّةٌ متّزنةٌ هادئةٌ تتفاعل مع قضايا الأمة كهدف سامٍ، وغاية رائدة، ثم تدنو، وتدنو، حتى تقترب من خصوصيات الإنسان كشاهدٍ مُستَخلف في هذا الكون، ثم كلّ ما يتعلق بالتعامل الإنساني مع كل ما حوله... تأملا وتبصّراً وتفاعلاً ورؤية تقنين وشمول) (البلاد14-ربيع الآخر-1416هـ).

وقد يثيرك أيها الأديب هذا النص المحشو بالفكر والمعاني، وتتساءل فيما يشبه اللوم، وأين الفن في خضم كل هذا الفكر؟.. فتكون الإجابة في صدر هذا المقال حين يقول: (نعم إن مهمة الأديب شاعرا كان أم ناثرا تتأكّد في أن يرى بعين مجتمعه، وينطلق من الأمة وآمالها لا على سبيل التصوير الفوتوغرافي، ولا بالتقريرية الجافة، ولا باعتساف أعناق الأفكار لتطويعها وإلباسها ثياب المواقف، والمناسبات الجامدة، بل ويمكن أن يصنع من المناسبة وهجا يبهر الأضواء).

وتقود هذه الفقرة النثرية المنقولة من إحدى مقالات علي آل عمر عسيري - رحمه الله- إلى تفسير الحس الجمعي الذي اتسمت به معظم قصائده، فهو لاينفكُّ عن الشعور الجمعي حتى عند الغوص إلى أعماق همِّ الذات التي تضيء في جنبات سواد همومها أحاسيس الألم الإنساني.

وإذا كانت اللغة هاجسا جماعيا يئنّ مع آلام قضاياها فكرُ كل من تعاملَ مع مفرداتها؛ فإننا قد لانحتاج إلى تلك الخطابية التي عالج بها شاعر النيل القضية على الرغم من شهرة النصّ التي ناسبت وجع المرحلة، وفنية عصر محاولة البعث، أما اليوم فإن الأمر مختلف جدا؛ ذلك أن دخول الهاجسين اللغوي والفني إلى بهو القصيدة يجعلان الحالة الشعرية تتجه صوب التظير الذي سئمت الأمة سطورة، وسفسطة لغته.

ويمكن أن نبرر دخولَ هذا الموضوع إلى فهرس المقاصد الشعرية لعلي آل عمر عسيري -رحمه الله- بألم شخصي أفرزه خللٌ فكري واجتماعي ما، جعل الأباعد عن جمالية اللغة والفن يُحسبون من الأدباء، ولذا جاءت المعالجة في قصيدة (قلم الشعر) هجائية مغلفة تلوك مرارة واقع المجتمع الأدبي، كما رأتها عين الشاعر في لحظة تأمل عبر منظار يميل إلى اللون القاتم الذي نهض بنبرة اليأس الغريبة عن الاتجاه المعنوي القائم على الإصرار على شموخ الحرف وقدرته على التخطّي، والثبات، انظر إليه يقول: (ص149):

أطوي على قلمي حداده

وأطوف من يشري مداده

ما عاد يلهمني الرؤى

ودمي نذرتُ العمرَ زاده

وتنتقل ذاتية الحديث عن الهم الفني إلى المحيط الذي فتح على الشاعر نيران المعاناة مع دم القلم:

هذا يؤوِّل ما كتبت

وذاك يستعدي مراده

ويظنّ أن صنيعه

بالغافلين من العباده

إلى أن يصل إلى حد الحق في اتجاه القلم:

ياأيها القلمُ اعتزل

لغة التكلّف والإشاده

واحمل رسالة شاعر

متمسّك يهوى بلاده

لم يتخذْ لهوا ولم

يسلمْ لشهوته قياده

واصدح بجلجلة الوضو

ح ودع لغيرك ماأراده

وتتبع قصيدة (قلم الشعر) قصيدةُ (غربة الحرف) (ص20) التي تتضمن لغة شعواء، وهجوما آخر يؤيد القول بأن النصين كانا ردة فعل مباشرة لحدث نفسيّ ما، أو لتغييرٍ طرأ على القناعات المنهجية الفنية برغم عدم وضوح التحوّل في المسار الشعري بعد هذين النصين مما يدل على أنهما قيلا عند الوصول إلى رأس هرم الأزمة، لتعود النصوص إلى جماليتها المستقرّة عند العودة بالتدريج نحو سفح الأمن الفني الذي يرتضيه شاعرٌ مجددٌ لنفسه، وهو الاستقرار الذي اتسمت به نصوص المرحلة اللاحقة مما نشر وما لم يُنشر، الأمر الذي يدل على تجاوز التشتت المرحلي الذي أفرز الغضب في نصين هما (قلم الشعر) و(غربة الحرف). انظر إلى الغضب الغيري في قصيدة (غربة الحرف) (ص20):

أيها الآتون من أشباهنا

تُغرقون الماء في كيف لمه؟

كم يشيخ الحرف غمّا عندما

ينخر التسطيح عظم الكلمه

إذ تخطّون فراغا شاحبا

تتدلى فيه نار الحطمه

ومهما يكن أمر الحدس الذي سمحت لنفسي بأن أثبته -هنا- فإن النصوص التي عالجت قضيّة اللغة تنتح صدقا، وتنقل بعض مشاهد العراك الواقعي الصاخب حول أصواتنا اللغوية استخداما ودلالة وتأريخا.

وبعد، فقد شكلت اللغة بالنسبة إلى علي آل عمر عسيري هاجسا وهما ككل الهموم التي كان يحملها شاعرنا رحمه الله.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة