الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th January,2005 العدد : 91

الأثنين 29 ,ذو القعدة 1425

وقفة أخرى مع أبي تمام
للنُّقاد والخصوم وقفات طويلة مع أبي تمام، حلّلوا خلالها أدبه ووضعوه تحت المجهر وفي الميزان النقدي الدقيق.. لكنّ كفّة الاعجاب الناطقة بالأصالة والبراعة هي الحكم النزيه الذي ظفرت به شاعرية أبي تمام رغم التباين والاختلاف والتشيع من حوله، وتلك ظواهر نقدية شغلت الباحثين والمهتمين بالأدب في عهده وفي العهود التالية له.
أما النقاد المحدثون فقد أنصفوا الشاعر حقه في غير تحيز ولا انسياق عاطفي مجرد من الموضوعية الأدبية والنقدية، وأحلّوه مكانة تتفق مع ما خلفه من تراث قيم وآثار محققة، ويكادون يجمعون على أن أبا تمام كان (مجدّداً في الشعر العربي مغيِّراً لمناهجه وأساليبه..) أراد له أن يصور الحياة والحضارة المعاصرة وأن يعكس على شاشة شعره معالمها وفنونها وأن يكون أدبه زاداً وجدانياً وفكرياً غنياً باللذة والمعرفة.. ومع هذا المنحى فقد أراد شاعرنا الطائيُّ وقد تحققت إرادته ان يرتفع بمستوى أدبه وفكره إلى منزلةٍ فنيةٍ رفيعة دون اللجوء إلى التعقيد والفلسفة والإجهاد وان اغمض في بعض الأحيان قليلاً وجلاء هذا الحكم يتبين في ذلك الحشد من الصور البلاغية ومن التشبيهات الجميلة وفي ابتكار المعاني والأجراس التي تنطق بها بائيته البارعة التي يصف فيها فتح عموريّة ويمتدح أمير المؤمنين المعتصم بالله.. ومطلعها:
السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
إلى:
تخرصاً وأحاديثاً ملفقةً
ليست بنبع إذا عُدّت ولا غرب
عجائباً زعموا الأيام مجفلةً
عنهن في صفر الأصفار أو رجب
وخوفوا الناس من دهماء مظلمةٍ
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلةٌ
ما دار في فلك منها وفي قطب
ويمضي مخاطباً يوم النصر ذلك اليوم العظيم الذي مجّده التاريخ العربي والإسلامي وتغنى به الكون واصفاً تلك المنى الحُفّل التي أفاء الله بها على مواطن الإسلام بالعز والتمكين والتي كانت نتيجة رابحة لما قدّمه الأسلاف الراشدون والبذل والتضحية والفداء خدمة لدينهم وأمتهم التي هي الآن في مسيس الحاجة ليتذكرها المعاصرون فيحتذوها:
(يا يوم وقعة عمورية انصرفت
عنك المنى حُفّلاً معسولةَ الحَلَبِ
أبقيتَ جدَّ بني الإسلام في صُعُد
والمشركين ودار الشرك في صبب
أمٌّ لهم لورجوا أن تُفتدى جعلوا
فداءها كلَّ أم بَرَّةٍ وأبِ)
وعندما يمتطي أجنحة الخيال ويذهب في نقلةٍ عقليةٍ ممتعة، يصف فيها أهوال الطريق آنذاك ووعورة التجربة الذاتية وهو راحل إلى الممدوح فإنه حينئذ يزود الأفهام الواعية المستقبلة بالإمتاع الأدبي والوصفي، ليقضي في رحلته هذه فصلا مثيرا ويحكي رواية مطربة ألقت إليه الزّمام ليقودها إلى ممدوحه أبي العباس بن مصعب:
إذا المرءُ لم تستخلص الحزمَ نفسُه
فذروتُه للحادثات وغارِبُه
أهنّ عوادي يوسف وصواحبه
فعزماً فقدما أدرك النجحَ طالبُه
أعاذلتي ما أخشنَ الليلَ مركباً
وأخشن منه في الملمات راكبه
ذريني وأهوال الزمان فإنها
فأهواله العظمى تليها رغائبه
وركب كأطراف الأسنة عرَّسوا
على مثلها والليل تسطو غياهبه
على كل موَّار الملاط تهدمت
عريكتُه العلياء وانهدّ حالبه
رعته الفيافي بعدما كان حقبة
رعاها، وماء الروض ينهلّ ساكبه)
وهكذا تمضي شاعرية حبيبنا الطائي ويمضي معه العقل والخيال مجنحين، يلتمسان منه المزيد وينعمان من صوته وصداه برحلة طرب واستمتاع تنسي ما تصيدته الجوانح قبلُ من غثاء بائس وشجو يائس وعزف ناشز بليد.

عبدالله الجلهم

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved