الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th January,2005 العدد : 91

الأثنين 29 ,ذو القعدة 1425

صور من أدب الرحلات
عبد الله حمد الحقيل
رحلة ابن فضلان هي أقدم نص لرحلة قام بها غربي إلى الأصقاع البعيدة في العالم، فبلغ بلاد الترك وروسيا في القرن الثالث الهجري. ولقد أمضيتُ وقتاً ممتعاً في مطالعة رحلة ابن فضلان إلى إسكندنافيا، التي اعتبرت أقدم تسجيل وتاريخ كتبه شاهد عيان عربي مسلم عن حياة ومجتمع (الفايكنج) دول شمال أوروبا. فهي بحق وثيقة فريدة تصف بدقة أحداثاً وقعت منذ ما يزيد على ألف سنة. ولقد وصف كثير من المؤرخين تلك الرحلة بأنها المصدر الوحيد لتاريخ روسيا وبلغاريا وتركيا في تلك الفترة من القرن العاشر الميلادي (الثالث الهجري)، وكم فيها من الصور والمشاهدات.
وأهمية هذه الرحلة أنها تزوِّد تاريخ العالم بشذرات نادرة من أنماط معيشة شعوب قلما سُجِّلت، فتسد ثغرة تاريخية في هذا المجال. إن قصة رحلة ابن فضلان مع الفايكنج وتبادل المعلومات معهم والشك الذي تحول إلى احترام قصة مثيرة حقاً، قصة شجاعة وإنسانية تصل إلى ذروة الروعة حينما ينضم ابن فضلان إلى مختطفيه في قتالهم ضد المخلوقات المرعبة. ولقد وصفت جريدة الريلس تلغراف اللندنية الرحلة والكتاب بأنه من أروع روايات السنة، فهذه الرحلة رغم مرور ألف سنة عليها تناولها الناشرون بأكثر من خمس عشرة لغة.
ومن الواضح أن ابن فضلان شخصية ذكية؛ فقد كان يهتم بجزيئات الحياة اليومية وبثقافة وعقائد مَن يلتقي بهم من الناس، وقد صدمه كثير من المشاهد، ويحكي ما يروي بصراحة وبأسلوب مشرق واضح. ولقد شغلت الرحلة حيزاً ملحوظاً في كتب التراث الجغرافي.
حقيقة أن أدب الرحلات لمصدرٌ للمؤرخ والجغرافي وعالم الاجتماع؛ لما يحفل به من الصور والتاريخ ورواية الأخبار وأسماء الكتب والعلماء والشعراء، وكم تفيض كتب الرحلات بالأخبار والقصص ووصف الطرق والآثار والمعالم والحياة العامة والمكتبات وما فيها من كتب ومخطوطات، وما أعظم ما كتبه الرحالة ابن بطوطة في كتاب (تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار). ولقد حفل التراث العربي الإسلامي بالأقوال والأشعار والحكم والأمثال حول السفر والرحلات، ونرى فيه جوانب تصويرية واجتماعية وأقوالاً وحكماً مما تقتضيه المناسبة.
ولقد أوصى حكيم عربي صديقاً له أراد سفراً فقال: (إنك تدخل بلداً لا تعرفه ولا يعرفك أهله، فتمسَّك بوصيتي تُكتب لك السلامة: عليك بحسن الشمائل؛ فإنها تدل على الحرية، ونقاء الأطراف؛ فإنه يشهد بكرم المنبت والمحتد، ونظافة البزة؛ فإنها تنبئ عن النشأة في النعمة، وطيب الرائحة؛ فإنها تظهر المروءة، والأدب الجميل؛ فإنه يكسب المحبة. وليكن عقلك دون دينك، وقولك دون فعلك، ولباسك دون قدرك. والزم الحياء والألفة؛ فإنك إن استحييت من الفظاظة اجتنبت الخساسة، وإن أَنِفْتَ من الغلبة لم يتقدَّمْك نظير في مرتبة). ولقد عُني أسلافنا بالرحلات واهتموا بها؛ لحضور مجالس العلم والأدب أو توثيق الأخبار والأحاديث، ووصفوا الطرق والمعالم والناس، وجابوا الأقطار والأمصار. ولقد قال الرحالة ابن جبير الذي تعب كثيراً من رحلاته:
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر
يرحم الله أسلافنا من الرحالة الذين كانوا ينشرون العلم والدين والفكر والمعارف والآداب خلال رحلاتهم، وما زالت آثارهم باقية خالدة في تاريخ الحضارة الإسلامية، وكم نحن في حاجة في هذا الزمان إلى إعادة قراءة كنوز تراثنا والتأمل والنظر فيه والإفادة منه.
وقديماً قيل:
قُمْ نقِّل العين إن العين تشتاق ومتِّع النفس إن هزَّتْك أشواق
وقيل:
وكتابي الفضاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتُها في كتاب
إن رحلة ابن فضلان تكشف عن همة الرحالة العرب في ارتياد الآفاق، واستعدادهم للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونةً بالمتعة الفكرية ونشدان معرفة الآخر وعالمه؛ مما شكَّل ثروة معرفية تحتوي على الطريف والغريب والمدهش، والشغف للبحث عن الجديد والبحث عن طلب العلم واستلهام التجارب والوعي بالآخر الذي تشكَّل عن طريق الرحلات.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved