الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th January,2005 العدد : 91

الأثنين 29 ,ذو القعدة 1425

نقد القيم
مقاربات تخطيطية لمنهاج علمي جديد «7»
د. عبد الله الفَيْفي
1
.. وإذ يناقش (فيلي willi) أربع نظريات ظهرت منذ القرن الثامن عشر حول نشأة القيم، هي: النظرية الفردية (1700 1850)، ومن روادها: (هوبز)، و(روسو)، والنظرية الطبيعية (1850 1910)، ومن روادها: (سبنسر)، (هوتنغتن)، و(مالينوفسكي)، والنظرية الثقافية (1920 1950)، ومن روادها: (شبنغلر)، (سوروكين)، و(الفرد فيبر)، والنظرية السوسيولوجية (1900 1930)، يظهر للقارئ أن النظرية الثقافية التي ترى أن الثقافة هي المصدر الوحيد للقيم تلبس بين حقيقتين، الأولى أن القيم مكون ثقافي، والثانية أن الثقافة مؤثرة في القيم. ذلك أن الثقافة في مفهومها الشمولي تنشأ عن معطيات مختلفة، من ضمنها القيم الدينية والاجتماعية، وقيم أخرى ترسبت من تجارب الأشياء. ليصبح ذلك كله بدوره مؤثراً في صيرورة القيم وتجلياتها. إلا أن التفريق ضروري بين سؤال النشأة والصيرورة. فالسؤال الأول كالسؤال عن مكونات (الماء)، مثلاً. بينما السؤال الثاني كالسؤال عما يمكن أن يؤثر على طبيعة الماء، فيغير من لونه أو طعمه أو رائحته. فإذا قيس النظر إلى القيمة، في علاقتها بالثقافة، بالنظر إلى مثال (الماء)، أمكن القول: إن الثقافة بمفهومها الأشمل من القيم تناظر (الجو) الطبيعي بمكوناته الغازية الأشمل من مكونات (الماء)، إذ لا يمكن أن نقول: (إن الماء ينشأ عن الجو)، وإنما (عن عنصرين من عناصر الجو، هما الأوكسجين والهيدروجين)! وإن كان هذا لا يقصي فكرة تأثير الجو بكليته على طبيعة الماء، كتأثير الثقافة بكليتها على طبيعة القيمة واتجاهاتها المتجددة. ولذلك كان علم الاجتماع أقرب إلى الدقة حينما بحث نشأة القيم في الإطار الاجتماعي لا في الإطار الثقافي العام.
بيد أن (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية)، (الرياض: دار رواح، 1421هـ 2000م)، وقد قدمت ذلك العرض شبه التفصيلي عن حركة البحث في القيم، قد آلت إلى حيث انطلقت، قائلة: (ويبقى السؤال الذي بدأنا به.. حول نشأة القيم، ولا نملك من الإجابة إلا أن نكرر ما قاله الأولون: بأن الدين، ومثاليات المجتمع، وظروف البيئة واقتصادها، مع اعتبار المستجدات المعاصرة، مثل ثورة الاتصالات والمعلومات، كل تلك تحدد قيماً وأخلاقاً تسود في مجتمع أو تنهار في آخر). (1: 94). وبهذا يتضح أن الإجابات على اختلافها توشك أن لا تخرج عن تلك الأصول الثلاثة: التي كان قد قررها الخطاب الفلسفي، والسابقة إليها الإشارة، وهي: (الدين العقل المجتمع). فهذه الأقانيم الثلاثة تظل سواء اتسع مفهومها أم ضاق هي مولدات القيم في كل زمان ومكان.
2
ويتخذ الباحثون في تصنيف القيم ثلاثة منظورات: يتعلق الأول بمنشأ القيم، فردية، اجتماعية، أو ثقافية. والثاني، من حيث الحقول التي تنتمي إليها أشكال القيم، وهي حسب (شيلر): (القيم الشخصية، وقيم الأشياء، والقيم الذاتية، وقيم ردة
الفعل، والقيم الوظيفية، وقيم النجاح والفعل والتفكير، وقيم الحالة الراهنة، والقيم القصدية)(1).
والمنظور الثالث من حيث وظائف القيم: أخلاقية، جمالية، أو نفعية. ويتداخل في هذا التصنيف الأخير تصنيف متفرع، يميز فيه بعض الباحثين بين القيم الخارجية الوسيلية، المتخذة إلى غاية، (كالكرم، والشجاعة)، والقيم الداخلية الغائية، المنشودة لذاتها أصلاً، مستقلة عن أي غاية، وإن تحققت بها بالضرورة غايات اجتماعية، وذلك (كالحرية، والكرامة، واحترام الآخرين، والحكمة، والوحدة، والعدالة، والسلم)، (وتسمى القيم من هذا النوع الأخير بالقيم والمثل العليا((2).
غير أن (موسوعة القيم) تكتفي بذلك العرض التصنيفي دون تفصيل أو تمثيل، ودون تحليل أو تعليل، متكئة على النقل دون النقد. ولو عاد القارئ إلى التصنيف الأول، الدائر حول ذلك السؤال المهم، وهو: (ما الأساس الذي يقوم عليه تصنيف القيم؟ هل هو المجتمع الذي يحدد القيمة ويعرفها، أو (كذا) هو الفرد، أو الثقافة، أو غير ذلك؟)(3). لتبدى أن القيمة في أصلها تنشأ عن ممارسة فردية، يستحسنها المجتمع، لتتحول إلى قيمة ثقافية. صحيح أن القيمة كما يراها الوضعيون وتراها المدرسة الاجتماعية معطى اجتماعي، وأن حكم الفرد فيها إنما يعكس ما تواضعت عليه الجماعة(4)، ولكنه صحيح كذلك أن ليست هناك قيمة ثقافية إلا وقد نشأت فردية، ثم انتقلت إلى كونها جماعية، قبل أن تصبح ثقافية. فليس السؤال إذن هاهنا، وإنما السؤال: هل هناك في المجتمع والثقافة قابلية لاحترام القيم الفردية والأخذ بالصالح منها، لتصبح قيماً اجتماعية ثقافية، أم أن عائق (الثبات)، والتبعية للجماعة، سيحولان دون نشوء قيم جديدة، أو حتى نقيضة، من خلال الأفراد. وعلى محك هذا السؤال يختلف المجتمع العربي التقليدي عن مجتمع الغرب والمجتمعات المتأثرة به. وهذا ما عرضت إليه الموسوعة، في مسعى منها إلى القول إن القيم العربية هي قيم عليا، ثابتة، سائدة، دائمة، استمرارية، أزلية، أبدية، وليست عابرة كالقيم الغربية. ذلك لأنها قد نسبت إلى (الجاحظ) دون توثيق جعله القيم العليا في المجتمع العربي التقليدي: القيم الدينية، وقيم الشرف، والأصل، والأسرة، والثأر(5). وفي المقابل، كما تقول الموسوعة: (نلاحظ المجتمعات الغربية المعاصرة تنظر إلى أن القيم العليا فيها هي: قيم العمل، والحرية، والفردية. وفي هذا يكون من السهل أو المقبول بعد الاستقراء الذي لا يبعد كثيراً عن الواقع أن يقال: إن القيم غير المادية هي العليا في المجتمع العربي أو في المجتمعات الصحراوية والتقليدية. ويقابل هذه القيم قيم الحضارة أو قيم مجتمع الرفاهية، وهي التي يعيشها مجتمع الغرب، والمجتمعات المتأثرة به(6).
وسبب الاختلاف هنا أن الثقافة العربية لا تعترف بالقيمة إلا حينما تغدو جزءاً من النسق الاجتماعي، تقليداً في المجتمع، وعرفاً في الثقافة. أي حينما تصبح ضمن (ميكانيزمات) القوى الاجتماعية، التي لا محيص عن الامتثال لمتطلباتها(7). ولذلك ترى قيمه تلك التي نسبت إلى (الجاحظ) قيماً جماعية ماضوية، تبلغ من جماعيتها وماضويتها حد الهلامية التي تستعصي عن التحديد، فإذا هي تتيح لكل أن ينظر إليها بحسبه ويتأولها كما يشاء، كقيم الشرف، والأصل، والأسرة، والثأر.
ولو أمعن النظر في هذا التصنيف المروي عن الجاحظ، لتبين أنه تصنيف ينتمي إلى ما قبل الإسلام، وأن قيم العمل، والحرية، والفردية، والمساواة، هي قيم إسلامية، لا غربية، انبثقت في الأساس من القيم الدينية، التي تنطلق من قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات، وقوله عز وجل: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة (78) سورة الزلزلة، وقوله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة التوبة. (والحديث مستمر).
إحالات:
1 الموسوعة، 1: 76.
2 انظر: م.ن، 1: 7577. وقارن: كلاّب، إلهام، (1994)، (نسق القيم في لبنان)، مجلة المستقبل العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، ع 183، ص 92.
3 موسوعة القيم، 75:1.
4 انظر مثلاً: بيومي، محمد أحمد، (1981)، علم اجتماع القيم، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية)، 46.
5 موسوعة القيم، م.ن.
6 م.ن.
7 انظر مثلاً: بيومي، 21 25.


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved