الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th January,2005 العدد : 91

الأثنين 29 ,ذو القعدة 1425

حريم..نساء..وحلم
أمل زاهد
من داخل جدران الحريم التي تحدق بها وترتفع شاهقة منيعة أمام ناظريها، ومن لجة ذلك الجب العميق الذي تكون داخله مأزق ذاتها كطفلة تعيش في مجتمع أبوي ذكوري تكبل فيه المرأة بصنوف القيود وبشتى أنواع الأصفدة التي يلتبس فيها الاجتماعي مع الديني والعرفي مع الشرعي، تأخذنا فاطمة المرنيسي يف سيرتها الذاتية (نساء على أجنحة الحلم)، فنمتطي معها صورة الكلمة ونبحر في عوالمها الساحرة، ونجوب معها أرض الحريم.. تلك المفردة التي ترهق وعيها كطفلة، فتحاول جاهدة أن تجد لها تفسيراً واضحاً يفك طلاسمها ويحل عقدها, فنفاجأ بأن لها صوراً متعددة وأشكالاً مختلفة تتباين من مكان إلى آخر ومن عائلة إلى أخرى، وإن كانت تجتمع كلها في جانب واحد يتجسد في أسوار الممنوع وسياجات المحظور التي تحيط بالمرأة في عالم يسمونه الحريم ويقبع على بوابته حارس عملاق يشهر سلاح السلطة التي تأخذ شكل المقدس الذي لا يجوز المساس به ولا الاقتراب من حدوده.
وهو أبداً ذلك المأزق الذي تجد المرأة العربية نفسها تغوص في متاهاته وتغرق في غياهبه وتفاصيله، مهما تباعدت المسافات ونأت المجتمعات العربية أو اقترب بعضها عن بعض، ومهما تباعدت واختلفت الأزمنة أو دنت واقتربت. فالكاتبة تعود بذاكرتها في سيرتها الذاتية إلى الأربعينيات من القرن الماضي مما لا نجد فيه إلا اختلافاً طفيفاً عما يدور الآن في الحريم سواء كان حريماً حقيقياً في بعض
البلدان العربية أو عقلياً وهمياً في أخرى، فالهيكل العام متوحد في جوهره وأساسياته وإن كان ظاهره يختلف في فروعه وتشعباته، لتبقى المرأة رهينة للحريم حتى وإن زالت عنها الحواجز الشكلية والحدود الظاهرية، فتظل دائماً أسيرة عقلية لتلك السياجات والممنوعات. وهو ما دفع فاطمة المرنيسي هي وباقي رائدات الحركة النسائية في العالم العربي إلى محاولة تهشيم هذا الاطار العقلي الذي يحيط باللاوعي الجمعي، وإزالة تلك الحواجز الوهمية في شكلها والحقيقية في مضمونها، والسعي حثيثاً إلى فك الالتباس بين العرفي التقاليدي والديني الشرعي.
وحريم الطفلة فاطمة مزروع بنساء تتنوع ملامحهن النفسية وتختلف قسماتهن الشعورية وإن كانت تجمع معظمهن الرغبة في امتشاق الحلم، والتوق إلى امتطاء المستحيل، والهاجس الذي يستعر داخلهن راغباً في التغيير وكسر المألوف الجامد، وذلك الحنين إلى الانعتاق من القيود التي فرضها عليهن تواجدهن في الحريم، فينسجن من الكلمات أجنحة يستطعن بها الطيران والتحليق في عوالم بلا مدى، إلى حيث تلعب الكلمة دور البطولة في خلق وصنع الأحلام، وتكون بمثابة الحسام الحاد النصل الذي يهشم أي عائق قد يقف في وجهه، فيرسمن بالكلمات أماكن يتقن إلى الذهاب إليها، وحيوات تهفو أنفسهن إلى سبر أغوارها والاستمتاع برغد العيش فيها بعيداً عما تضيق به صدورهن وتنوء به ظهورهن.
في ذلك العالم تشكل الحكاية والثقافة السمعية التي تختلط بالتشخيص المسرحي دوراً رئيسياً في رسم خيوط الحلم، حيث تجتمع النساء في السطح، يرقبن بنفوس تواقة كيف تتشكل أنسجة الحلم بين يدي تلك الأيدي الماهرة في صنعه والحاذقة في سبك
خيوطه والمتمثلة في تلك الشخصيات القيادية الموجودة بينهن، واللاتي يقمن بعرض مسرحي ينقلن به متلقيهم من النساء والأطفال إلى عالم من الدهشة التي لا ينطفئ بريقها ولا يخفت وهجها، معتمدات على ما قرأنه من أحداث التاريخ وما سمعنه من الأساطير أو ما تتناقله الأخبار عن هذه الشخصية المشهورة أو تلك، خاصة أولئك النساء الرائدات في مجال المنافحة عن حقوق المرأة، أو الشخصيات التاريخية لسلطانات ساحرات أمثال شجرة الدر أو شهرزاد التي كانت حكاياتها تدرأ الموت كل يوم عن احدى بنات جنسها وهنا تدرك الطفلة فاطمة سحر الكلمة وتلك القوة الكامنة بين طياتها، فتبجلها وتقدس تلكم الحروف القادرة على صنع المستحيلات وهي ترى ما تفعله بأولئك المتلقين وكيف يرنون بأبصارهم إلى تلك النقطة في السماء.. تلك النقطة التي تجذبهم وتشدهم من أماكنهم التي طال مكوثهم فيها، فتنتشلهم من ضعفهم وعجزهم وقلة حيلتهم.
من أهم الاشكاليات التي تضعها السيرة تحت دائرة الضوء: اصطدام الثقافة الإسلامية العربية بالحضارة الغربية وثقافتها والذي كان الاستعمار السبب الرئيسي في حدوثه، ففي ذلك المجتمع المغاربي الذي يتصارع عليه كل من الأسبان والفرنسيون فيقسموه إلى قسمين،
لا بد وأن تولد تلك الشخصيات الرافضة كلياً للحضارة الغربية وما تجلبه معها، فتتخندق على موروثها وتتمترس وراء عاداتها وتقاليدها حتى في حالة ادراكها لتنافي تلك العادات مع الدين أو عدم ملائمتها للمصلحة العامة، فتتمسك بأهداب كل ما هو قديم ورجعي عله يقشع عنها ظلمة المحتل ويدرأ عنها خطر الاحتكاك بثقافته التي ترى فيها انتهاكاً سافراً لقيمها ومبادئها، وهنا ينشأ الصراع بين الشخصيات التقليدية المتعلقة بكل ما هو قديم حتى لو أثبت عدم صلاحيته، وبين تلك الشخصيات الثورية الراغبة في التغيير والتواقة إلى الخروج من قمقمها والالتحاق بركب العصر وهو صراع لا تزال تدور رحاه حتى يومنا الحالي في عالمنا العربي، نرزح تحت تعقيداته واشكالياته مع أن حلوله جلية واضحة وتتجسد في أخذ كل ما ينفعنا وما يتواءم مع مصلحتنا سواء أتتنا هذه المنفعة من كنوز تراثنا أو من جديد عصرنا.
من أجمل ما في هذه السيرة هو نقلنا إلى تلك الأجواء المغربية الجميلة بأصالتها وعبق تاريخها، وجمال جغرافيتها، وحمامتها، وطقوسها، وحفلات زارها، وأسواقها، ونسائها وأحوالهن، وذلك الوصف الدقيق للمجتمع بمختلف شرائحه والتحولات الجذرية التي كانت تصطخب فيه ابان تلك الحقبة، وذلك الحس الانتقادي الجارح المشرح للعلل والواصف للعيوب.


amalzahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved