الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th January,2005 العدد : 91

الأثنين 29 ,ذو القعدة 1425

إرهاصات الحداثة «22»
حركية الواقع.. وأزمة المصطلح
سحمي الهاجري
الحداثة والتراث وجها لوجه. يالها من مصطلحات مصقولة!
بدا كأن الجميع يتصارعون على شيء لا يدركون كامل أبعاده، أو لا يريدون أن يدركوها.. تم التعامل مع كلمتي الحداثة والتراث بصفتهما رمزين لشيء في نفوس الفريقين أكثر من النظر إليهما بمنطق علمي تحليلي واع كمصطلحين فضفاضين.. فريق رأى أن الحداثة من محدثات الأمور، وتعامل معها باعتبارها نازلة من النوازل التي يجب أن تواجهها الأمة، وفريق رآها بمثابة البشارة المنتظرة.
التراث والحداثة بينهما شبه كبير. لأنهما يستبطنان تناقضات كبيرة.
فالتراث هو ذاكرة الأمة التي تستمد منه جذورها وأصالتها، ولكنه ينطوي على الكثير من العجر والبجر، والمغلطات والأكاذيب والخرافات.. والحداثة تبلورت بعد انتهاء عصور العزلة التي عاشت فيها الأمم قديما، فبشر تقاربها رغم تنويعاتها الثقافية واللغوية والإثنية بتعميم مفهوم الإنسانية التي تربط الأمم بقيم موحدة.. وهذا انعكس بدوره على المعرفة التي تجاوزت البحث عن ماهية الأشياء، إلى كيفية ترابط أجزائها، وعملها مجتمعة؛ فصارت العلاقة وثيقة بين المدركات، والإدراك، والذات المدركة الفاعلة، والوسيط الذي يهيئ عملية الإدراك وهي اللغة.. واحتفلت بالعمل العقلي وكان عالمها هو عالم المثال والبحث عن المتطابق والمتجانس مع هذا المثال.
لكن فكر الحداثة واجه مآزق كبيرة وأنتج حربين عالميتين، وكشف عن هوة واسعة بين ما اصطلح عليه دول الشمال ودول الجنوب.
وهي الأمر التي ردت عليها ما بعد الحداثة باعتمادها على الانفتاح المستمر والتأكيد على التشويه والمجاز والتحاولات، والسخرية من مفهوم المعاني المحددة المتسقة.. كانت ما بعد الحداثة قد بدأت ترد على الحداثة قبل الجدل الذي دار في المملكة حول الحداثة. ونستطيع أن نجد في شعر الحداثيين في ذلك الوقت ما يمكن إعادته إلى ما بعد الحداثة ربما أكثر مما نجد فيها مما ينتسب إلى الحداثة. مثل نبرة السخرية العالية من التوحد والتكامل، وتداخل العلاقات وتكاثرها وتشتتها وطغيانها لأن الشاعر كان يتأثر بتشتت وعشوائية الرسائل التي يتلقاها، فكان البديل هو التوسل بالغموض والتعتيم والإخفاء وتغييب المعنى بحيث ينفرد بالسلطة الخطاب والمجاز والعلاقات، وتمجيد الهوامش والمجتمعات المحلية والفرد..مهما يكن الأمر.. فرغم الجهود الكبيرة التي بذلها هؤلاء الناشطون إلا أن التيار المناوئ تمكن من احتواء هذه الجهود وتشتيتها، وزاد عنفوانا على عنفوانه السابق بتحالفه مع أفراد ومنظمات قدمت من الخارج بفعل قوة جذب الملاءة المالية للدولة والمجتمع.. وبقيت الفجوة بين الحداثة المادية والحداثة الفكرية كبيرة جدا. وصارت المسألة ربما أكثر ضبابية من ذي قبل.. في عام (1408هـ 1988م) اجتمع عدد من المثقفين السعوديين في أحد الفنادق الفخمة في الرياض على هامش مهرجان الجنادرية، وكان جدول الأعمال يتكون من بند واحد هو: البحث عن اسم آخر للحداثة.
وكانت الأسماء البديلة المقترحة على النحو التالي:
الشعر الحديث الواقعية السحرية التخييل التخييلية.
وبعد جدل طويل وأخذ ورد استقروا أخيرا على تسميتها: (الواقعية التخييلية).
(جرى الاتفاق على ذلك، مع الاتفاق على عقد جلسات مستمرة لتطوير الفكرة وتسويقها، وقرر المعنيون بالصحافة نشر هذا اللقاء في ثلاث مطبوعات هي؛ جريدة الندوة، وجريدة المدينة، ومجلة اقرأ على أن يصدر في يوم واحد في المطبوعات الثلاث) (حكاية الحداثة ص 216).. تفتح هذه الحكاية أفقا من الإحالات العديدة.
وسأختار واحدة منها.
ماذا لو نظر المجتمعون حولهم؟ هل يمكن أن يسألوا أنفسهم عن المكان الذي يجتمعون فيه؟. ما معنى وجود فندق من سلسلة فنادق عالمية ذات النجوم الخمس في حجر اليمامة؟.
هو ليس نزل أو خان بالتأكيد، بل يمثل منظومة متكاملة، تنتسب إلى منظومة أخرى أكبر.. ثم ماذا لو جاء السؤال الصعب وهو: كيف سيطبق مصطلح (الوقاعية التخييلية) على هذه المنظومة؟ أو كيف لا يطبق؟.
هل كانت المسألة من أغرب العلاقات بين مولود ومكان ولادته؟.
هل أضاع المجتمعون وقتهم في حل المشكلة الخطأ. كما تقول أدبيات علم الإدارة؟.. سأقترح تفسيراً آخر.
أزمة المصطلح غالباً أزمة فكرية وذهنية ونفسية، وهنا يأتي دور التمسك بالرموز. أحياناً يكون التمسك بالرموز بديلا للنفاذ إلى العمق.
أي حتى لو كانت الحداثة موجودة في صميم الواقع. لايهم. المهم ألا نسميها حداثة..هذا يشبه ثنائية السفور والحجاب.
فالحجاب قد يتحول أحياناً إلى شعار أو شعيرة أو رمز لابد من التمسك به والذود عنه. حتى لو كانت سوف تمارس خلفه الأخطاء، بل حتى لو كان قد يسهل هذه الممارسة.. لا بديل عن التمسك بشدة (بالرمز). ما دام لا يمكن السيطرة على ما وراء الرمز بنفس الدرجة. بالتالي يصبح السفور بمثابة الثورة الكاملة، وهذا ينطبق على الحداثة. الكل يعرف أنها موجودة في الواقع، بل لا حيلة في منع وجودها، أي لا يمكن السيطرة عليها، ولكن من الممكن العودة للتقنية المجرية، وهو تحديبها، باختيار اسم آخر لها. لأن السماح لها بالسفور يعني الهزيمة الكاملة.. تكملة الحكاية السابقة فيها نوع من استلهام التاريخ. والحكايات التي تتوالد من الحكايات..الذي حصل أن الاسم الجديد (الواقعية التخييلية) نشر في جريدة المدينة ومجلة اقرأ في اليوم الموعود، حسب الاتفاق. أما جريدة الندوة التي تصدر بالقرب من مرابع بني العاص بن وائل بن سهم فقد خلعت الاتفاق ولم تنشر.
سرد الغذامي كثيرا من الحكايات الطريفة المتعلقة بالحداثة أبطالها باقادر وابن تنباك ومحمد رضا نصر الله وسعد البازعي وسعيد السريحي وعلي العمير وآخرين..وها هو يجد نفسه من حيث لا يحتسب بطلا لحكاية مماثلة، توايز في طرافتها ومدلولاتها طرافة حكايته عن الآخرين.
كل ما سبق يحيل إلى طبيعة الجدال حول الحداثة بالنظر إلى طرفي المعركة وموضوعها وأدواتها في ذلك الوقت؛ فكتاب (الخطيئة والتكفير) مثلا في المحصلة النهائية لا يرقى إلى ما أنجزه الغذامي فيما بعد في مجالات النقد الثقافي والدراسات النسوية، وهذا الكتاب في قسمه الأول عبارة عن تلخيصات مترجمة لنظريات مثل البنيوية وما بعد البنيوية.
أما القسم الثاني وهو الجانب التطبيقي فقد تراجع عنه مؤخرا واعتبره نوعاً من الاعتساف، وإن كان يرى أن الاعتساف قد يكون قيمة في حد ذاته بصورة أو بأخرى. (مقابلة في مجلة اليمامة شهر شوال 1425هـ).
أما خصومه في ذلك الوقت فقد وصفهم بأنهم:
( لم يكونوا يملكون تعريفا عن الحداثة يؤسسون عليه نظرتهم،وكل ما يصدرون عنه هو تصورات عامة تستند إلى اقتباسات، وعلى إحالات شخصية، ولا تستند على مفاهيم يمكن الاحتكام إليها) (حكاية الحداثة ص 34).
ولذلك لم يحظ ما حصل باهتمام (أهل الشأن من الساسة والعلماء) (حكاية الحداثة ص34) حسب عبارة الغذامي.
من الواضح إذن أن الأخذ بمظاهر التحديث على المستوى الإداري وتأخر ذلك على المستوى الفكري، كان له تأثيرات حاسمة، الأمر ليس مجرد مفارقة درامية، وبيئة لسرد القصص والحكايات. قد يكون هذا هو الجزء الجيد من الخبر.. الخبر السيئ أن هذه المفارقة تسببت على الأرض في تعثر جهود الدولة نسها وتأخر عمليات الإصلاح.
المملكة حققت على الجانب المادي إنجازات ضخمة، ولكن بسبب تأخر الوعي الفكري انطوت هذه الإنجازات على مشاكل ضخمة تتناسب طرديا مع ضخامة المنجز المادي، وقطاع التعليم خير مثال على ذلك؛ فبالعودة لأرقام ميزانية الدولة فإن المخصص للتعليم يمثل 25% من الدخل الوطني والميزانية العامة في حين لا تتجاوز النسبة أكثر من 12.5% في أكثر الدول تقدما في العالم ومع ذلك تفوق جودة مخرجات التعليم فيها من الناحية النوعية نظيرتها في المملكة .. كانت الحداثة التي تم حولها العراك تفصيلة أو جزء من حركة الواقع، ولكنها كانت أشد الجزئيات ضمورا. لأنها تدور في الإطار الفكري والإبداعي الذي يعاني من مشاكل حقيقية تكمن في صميم البنية.
التفاصيل الأخرى كانت حقائق على الأرض؛ فالدولة كانت جادة في مشروعها التحديثي الواعي، بالتلاحم مع الطلائع المستنيرة من كافة فئات الشعب، ونجحت إلى حد بعيد في جعل كل مواطن شريكا في المكتسبات المتحققة، بحيث يدافع عنها بصفتها جزءا من مكتسباته الشخصية. رغم المشاكل المصاحبة لكل عمل خلاق، كما كان أصحاب الخطاب المضاد جادين أيضاً، وعبروا عن هذه الجدية في ثلاث مناسبات معروفة؛ موقعة السبلة عام 1347هـ، واحتلال الحرم عام 1400هـ وأعمال الإرهاب الحالية. وإن كان ينتظم كل ذلك تغير نوعي ففي المرة الأولى كانوا من الناس المعروفين وفي الثانية خليط من المعروفين والمجاهيل وفي المرة الثالثة من المجاهيل.. هذا وقد يؤيد ماذهب إليه فرانسيس فوكوياما في كتابه الأخير (مستقبلنا بعد الإنسان) بقوله (الراديكالية تقوم بعمل يائس، لكنها مع الوقت ستغرق في سعة التحديث ورحابته)..هل يمكننا الآن العودة إلى فرضية الورقة؟ وتحويلها من عبارات طلبية، إلى عبارات تقريرية؟
مبدئيا أقول: نعم.
مع الإقرار بأنها في حاجة إلى المزيد من الدرس والتمثيل والتحرير والنقاش. خصوصا أن مدخلات الموضوع تنطوي على أمشاج من التجديد الواعي والتجديد غير الواعي والتقليد الواعي والتقليد غير الواعي، تختلف في درجاتها وأنواعها بين الجانب المادي والجانب الفكري.. نعم نحن في المملكة منخرطون في الحداثة على المستوى المادي منذ بداية نشوء الدولة.. شعرنا أو لم نشعر.. أما على المستوى الفكري فلا زلنا غير بعيد عن مرحلة الإرهاصات حتى يوم الناس هذا.. اعترفنا أو لم نعترف).
والهامش بين الأمرين، أو بين هذه الأمور جميعا هو البيئة الخصبة التي تترعرع فيها الكثير من المشاكل، كما أنه ميدان واسع للمزيد من البحث والدراسة والتحليل.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved