الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th April,2006 العدد : 148

الأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

شِعْرِيَّةُ القِيَم
(قراءة في خطاب حمزة شحاتة نموذجًا)«1»

*د. عبد الله الفَيْفي :
كان العنوان المقترح على (حمزة شحاتة) لمحاضرته التي سيلقيها في (جمعية الإسعاف) بمكة، في ذي الحجّة 1359هـ، هو- كما نشرت ذلك جريدة
(أُمّ القُرى) - (الخُلُق الكامل عنوان الرجولة) إلاّ أن شحاتة عَدَل عنه إلى (الرجولة عماد الخُلق الفاضل) (1) فلِمَ فعل ذلك؟
على الرغم من محاولته تسويغ اتكائه على مصطلح (الرجولة) في حديثه عن القِيَم، وجعله (الرجولة) عماد الخُلق الفاضل، من خلال قوله:
(الرجولة في ميزان الاعتبار الأدبي، ليست هي الفارق الطبيعي بين جنسين، ولكنها مجموعة من الصفات الرائعة في الرجل الرائع) (2) فإن المرأة قد بدت غائبة من حسبانه كُلّيًّا، أو كأن على المرأة لكي تكون على خُلُق فاضل أن تغدو (رجلاً رائعًا)، أو مسترجلة! ولا غرابة في خطاب كهذا وريث قِيَمٍ عتيقة، نُظر إلى الرجل فيها وإلى الرجولة على أنهما معيار الفضيلة، وأن المرأة، إن لم تكن عكس ذلك، فهي دون الرجل في التقييم الاجتماعي. حتى لا مبالغة إذا قيل إن القِيَم، العربية بخاصّة والإنسانية بعامة، هي قِيَم ذكوريّة بامتياز. فإذا أُخِذَت قيمة (الشجاعة)، مثلاً، تبيّن أنها قيمة ذكوريّة، حتى لقد زعم (ابن فارس) (3) عن (أبي زيد) أنه قال: (سمعت الكلابيين يقولون: رجلٌ شجاع، ولا توصف به المرأة).(4) بل إن هذه القيمة حينما ترتبط بالمرأة تصبح قيمة سلبية تعني قلّة الأدب مع الرجال؛ فالشَّجِعَة من النساء: الجريئة على الرجال في كلامها وسلاطتها).(5) وكذا القول عن قيمة (الغيرة)، أو (الكَرَم)، أو (البشاشة)، أو غيرها من القِيَم الاجتماعية.
ولهذا ارتبطت قِيَم (الخوف) و(الضعف) بالمرأة، في جانب القيمة الإيجابيّ والسلبيّ؛ فكان من الإيجابيّ قيمة (الحياء)، التي تُعدّ قيمة أنثويّة، تقابل قيمة (الشجاعة) في الرجل، إلى درجة أن المرأة صارت المثلَ الأعلى الذي يُضرب للحياء، على حدّ قول (النابغة الجعدي) (6)، في مدح نساء تميم:
ومِثْلُ الدُّمَى، شُمُّ العَرَانِيْنِ سَاكِِنٌ بِهِنَّ الحَيَاءُ
لا يُشِعْنَ التَّقَافِِيَا
وقالت العرب في أمثالها: (أحيَا من بِكْر)، و(أحيَا من فتاة)، و(أحيَا من كَعاب)، و(أحيَا من مخدّرة)، و(أحيَا من هَدْيٍ)، و(أحيَا من مُخَبَّأة) (7). في مقابل ما جاء عن حياء الرجل، كقولهم: (حياء الرجل في غير موضعه ضَعْف)، و(الحياء يمنع الرِّزْق) (8).
ويركّز شحاتة على أهمية قيمة (الحياء) في البناء الاجتماعي، فيقول عنها: (وللفضائل في رأينا جماع هو الحياء، والرحمة، والعدالة، وقوام هذا الجماع: الحياء) (9) حتى لقد عمّم ما يعرفه في المجتمع الحجازي ولهجته من انتهار الخارج عن القِيَم بالأمر بالحياء في كلمة (استح)، ليستدلّ من ذلك على أن الحياء هو القوام في جماع الفضائل (10) بل أوشك أن ينسب إلى الحياء الإيمان كلّه، مستشهدًا بأحاديث نبوية (11) ولم يقتصر على أن يجعل الحياء قرينًا للإيمان، بل أراد أن يجعل بين الحياء والإيمان تطابقًا أو اتّحادًا، فلماذا بعد هذا كله لم يجعل (الحياء) عماد الخُلُق الفاضل؟ فما دام الحياء يحمل تلك القيمة التي ركّز شحاتة على أهميتها كثيرًا، فلقد كان يمكن أن يجعل عنوان محاضرته: (الحياء عماد الخُلُق الفاضل)، لولا إدراكه أن الحياء لدى العرب قيمة ضَعف، نموذجها الأعلى المرأة. إن ذكوريّة الثقافة لم تكن لترضى له أن يمنح هذه القيمة الأنثوية منزلتها.
وقد كان من هدفه العودة إلى القانون الثقافي الأوّل، بدليل ما يَنُصّ عليه من أن العودة إلى الرجولة عودة إلى الأطوار الأولى؛ ف(الرجولة كالجَمال قانونها فيها؛ ولذلك كانت أساس نشأة الفضائل في الأطوار الأولى). (12)
فإذن لا غرابة أن يأتي خطاب (الرجولة عماد الخُلق الفاضل) يمتح من التراث العربي الشعريٌّ، الذي تستقي جذوره من مياه الجاهلية، لا من استقراء طبيعي أو اجتماعي، وهو تراث تحوّل إلى ثقافة عروبيّة عامّة، لا ترى في الأنوثة إلا الضعف والنقصان والقصور عن أن يكون لها تعلّق بعماد الخُلُق الفاضل، القائم في الرجولة، ولا أدلّ على هذا من استفهام المؤلّف الاستنكاري: (أللغدِ نعتدّ الإناث؟! استحِ!) (13) وعليه لن يرى للمرأة شخصية أو مسؤوليةً، وإنما هي صنيعة الرجل، فهو يقول عنها: (فإن كانت جاهلة، أو محتاجة، أو ضعيفة، فذلك ذنب الأُمّة التي لا يكون فيها رجال، وإن كانت طائشة بها مسٌّ من طبيعة الشيطان فيها، فذلك ذنب الرجل الذي يراها جسدًا فتنقلب به حيوانًُا بقرنين.. وبنفسها حيوان لا يستحي.
(ولو أنصفَ المؤلّف لجعل الرجل بالأحرى صنيعة المرأة: أمًّا، ومربية، وزوجًا صالحة. بل إن شحاتة ليبدو مُلْغِيًا شخصية المرأة الاجتماعية إلغاءً، وكأن المجتمع بفضائله ليس إلا رجالاً، والنساء أشياء من أشيائهم. يدلّ على ذلك قوله: (عودوا الآن إلى كلمة الأستاذ العقّاد: (ليس بحيّ الضمير من لا يسمع صوت ضميره مرةً)، واجعلوها: (ليس رجلاً ذا ضمير، من لا يسمع صوت حيائه دائمًا)).(14) فإذا هو يلحّ على حصر الحياة الاجتماعية الإنسانية - كما عبّر عنها العقّاد - في الرجل، وجَعْل الضمير الذي نداؤه صوتُ الحياء متمثّلاً في الرجولة. كيف لا، وهو لا يرى في المرأة إلا بنت حوّاء غدّارة، ينطق بذاك النثر كما يفعل الشعر. فهو حتى حين يستخدم صورتها في شعره على سبيل الاستعارة - وإنْ للتعبير عن حُلُم غيبي جميل، كما في قصيدته (نفيسة) (15) - يصوّرها أحبولة شيطانية للرجولة. وذلك ما سنستقرئه في المساق الآتي، بإذن الله.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved