الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th April,2006 العدد : 148

الأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

في الجوف.. نقد وطفولة

*سعد البازعي:
في الجوف كنا قبل أيام، صحبة من الأصدقاء المستضافين ورعاية من الأصدقاء المستضيفين الذين يضجون كرماً وحباً للثقافة. كنا برعاية مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، وبالتحديد في دار الجوف للعلوم، إحدى منجزات تلك المؤسسة الرائدة التي دعتنا إلى الحوار حول قضية ثقافية: أ.د. ناصر الرشيد، د. سعيد السريحي، الأستاذ حسين بافقيه، وكاتب هذه المقالة. كانت القضية: (النقد الأدبي والنقد الثقافي) التي شغلت، على ما يبدو، واضعي البرنامج الثقافي المنبري للمؤسسة مثلما اهتم بها حشد من محبي المعرفة والمهتمين بالشأن الثقافي في مدينة سكاكا وما جاورها. كانت أمسية مبهجة بحضور متميز، أحسن الصديق الدكتور السريحي أثناء إحدى مداخلته في الندوة بأن هنأ المؤسسة على اختلافه من حيث هو حضور مختلف حقاً بتفاعله غير العادي مع أطروحات المنتدين.
أسعدنا جميعاً أن نكون هناك، وأن نتحدث في قضية مهمة، لكن ما لم يسعدنا هو أن ندوتنا جاءت بعد أيام قليلة على رحيل باني تلك المؤسسة المتميزة، معالي الأمير عبدالرحمن السديري. وكان لي من بين الحاضرين أن أحزن حزناً مضاعفاً، ليس لأن صلة قربى وثيقة تربطني بالفقيد الكبير، وإنما أيضاً لأنني ذهبت وفي خاطري ضجيج من الذكريات التي ارتبط بعضها بالفقيد رحمه الله، وارتبط البعض الآخر بطفولة كنت أطاردها، كما لاحظ الصديق الدكتور الرشيد، كما يطارد الشعراء الجاهليون أطلال الأحبة المتواربة، أو كما طارد محمد الماغوط دراجة الطفولة التي توقفت عندها في المقالة الماضية في هذا المكان من (الثقافية).
في دومة الجندل كنت أبحث عن بعض تلك الطفولة العالقة في جدران منزل عتيق كنت آمل أن أجده قائماً، فطلبت، بل كدت أتوسل، سائقنا الشاب أن يوقفني على المكان لعل الطلل ما زال قائماً. وكان أن ذهبنا فوجدنا أطلالاً حقاً، زحمة من الذكريات: شخوص جلسوا هناك، أحبة توسدوا الأماكن، أحبة عرفتهم كما لم أعرف أحداً، وأحببتهم كما لم أحب أحداً، أحبة ذهبوا الآن ليتوسدوا الأرض التي أنجبتهم ويتركوا على مداخل القلب ضجة من الحنين والحب الذي لا ينتهي.
في ذلك المكان الذي قضيت فيه عاماً واحداً فقط أواخر الدراسة الإعدادية، رأيت بقايا هي من أجمل ما تتركه الأعمار وتصوغه العلاقات وتُنعم به الدنيا. واستغربت من نفسي وأنا أجري في المكان ممسكا بآلة تصوير رقمية ألاحق الزمن، الدقائق التي تبقت من الرحلة، قبل ترك المكان للحاق بطائرة الرياض، أفكر بالصديقين اللذين جاءا معي ولا شأن لهما بما كنت أطارد. الصور تتالى والمكان القفر يتأبى على الانقياد لمن تركه كل هذه العقود. كنت كمن يتوسل المكان صوره والزمان لحظاته الغائبة. لم تكن لي دراجة كما للماغوط، فقد كنت في مرحلة المكابرة على الطفولة، أعد نفسي ناضجاً وأنا في حقيقة الأمر أبعد ما أكون عنه، لم يكن في المدرسة المحلية حينذاك صفاً للثالثة الإعدادية فاضطر والدي - رحمه الله - إلى طلب مدرسين من المدرسة المحلية ليدرساني الإنجليزية والرياضيات، وكان علي القيام ببقية الجهد وحدي لخوض امتحانات الكفاءة المتوسطة (منازل)، كما يقال. وتضحكني الآن صورتي التي لم تستطع الهرب منذ ذلك الحين، وأنا أمر أحيانا بالمدرسة، أنظر إلى الطلبة في فصولهم بغير قليل من التعالي، كما لو كنت طالب دراسات عليا؛ فالعلم الذي كنت أتلقاه كان بعيد المنال عليهم!.
أتذكر كل ذلك في لحظات تختصر سنين من الأحبة والذكريات، في مسعى مستحيل للإمساك بما لا يمكن الإمساك به، واستعادة ما لا يعرف معنى الاستعادة، ذلك المعنى المركب الذي لم يستطع أحد صياغته كما فعل أبو الطيب حين قال:
أود من الأيام ما لا توده
وأشكو إليها بيننا وهي جنده
يباعدن حِبّاً يجتمعن ووصله
فكيف بحب يجتمعن وصده
أبى خلق الدنيا حبيباً تضمه
فما طلبي منها حبيباً ترده
الحزن الذي امتشق ملامحي منتصراً حين عدت من تجوالي السريع على ردهات الطفولة هو ما لاحظه الصديقان وجاهدت لإخفائه. أجل كان لا بد من رحلة إلى الرياض وعن الماضي الماثل - المتواري في آن. لكن أين هي العودة يا ترى؟ هل هي في الرحلة إلى الرياض، أم إلى الماضي؟ ثم إلى أين هو المضي؟ وهل ثم علاقة بين المضي إلى الأمام والماضي؟ هل نمضي إلى الماضي أم إلى ما لم يمض بعد؟ إنني حين أمضي من هنا سأكون ماضياً لماضٍ جئت أبحث عنه، ماضٍ يبحث عن ماضيه، ومستقبل ينتظر دوره في المضي، مستقبل هو الماضي المتشكل في أفقنا الغافل، المتهيئ للرحيل بالمزيد منا، المتناهب لحظاتنا.
لكن ما لي ولكل تلك الاشتباكات الزمنية، اللغوي منها وغير اللغوي (أم أنه لا يوجد في النهاية غير اللغوي، كما يقول التقويضيون؟). ما لي أشغل نفسي بماضٍ وأنا في ماضٍ آخر يستحق أن اقتنص منه ما يمكن اقتناصه؟. في الليلة السابقة كنا قد اقتنصنا لحظات للمعرفة والمحبة في حوارٍ مثرٍ، لنصنع ماضياً يستحق البحث عنه، فلأنشغل به وبغيره مما هو على أهبة المضي. فشكراً لكل تلك اللحظات، وشكراً لمؤسسة أتاحت لنا فرصة التأمل في ذواتنا واختلاجاتها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved