الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th April,2006 العدد : 148

الأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

التراث الأدبي

*د.سلطان سعد القحطاني:
لا شك في أن الأمة العربية الإسلامية - اليوم - بأمس الحاجة إلى من يبعث مجدها الذي اندثر بعضه، وبعضه الآخر في طريقه إلى التهميش والتغييب، ثم الاندثار، في ظل ما يسمى بالعولمة، التي لا يزال الجميع مختلفين على مصطلحها وأهدافها ومراميها ومقاصدها.
والذي لا يختلف عليه اثنان، ما يشاهده العربي في كل يوم على أرضه من تغييب وتهميش كانا بالأمس من خلف ستار، أما اليوم فجاهر بها الكثير من المحسوبين على الأمة العربية، من خلال الوسيلة الإعلامية الرخيصة وما وراءها من وسائل إيضاحية تشد من أزر هذا المشروع الهابط، المكرس لنشر اللهجات العامية الرديئة، وبهذه الطريقة تسابق أبناء العرب أنفسهم إلى المساعدة في تغريب لغة العرب التي كُتب بها أشرف كتاب وأقدس دين جمع بين دفتيه خلاصة الديانات السماوية.
ولم يجد شراح القرآن الكريم حرجاً في تطبيق لفظه على ألفاظ الشعر، حيث نزل على اللغة المحكية بين قبائل العرب، والشعر - في ذلك الزمان - هو الفن الراقي وهو لسان العرب وديوانهم، فاستشهدوا به في تفسير آيات الكتاب الحكيم، سواء أكانت في الأحكام، أو في الزجر والوعيد، أو في التشريع..، وليس بخافٍ على أحد شدة التآمر على هذه اللغة وتراثها الفكري الغني، وعلى أهلها وما تحتويه أرضهم من الخيرات وموقعهم الفريد في العالم بين شرق وغرب، ليس لأنها كأي لغة تعيش وتندثر، ولكن لأنها تحمل فكراً أقره سيد البشر - محمد صلى الله عليه وسلم - وورثه لمن تبعه إلى يوم الدين.
والقضاء على هذه اللغة (وهذا من المستحيل) يعني القضاء على الفكر الذي تحمله في بنائها الفريد بين اللغات، ويزعم البعض أن القضاء عليه مركب سهل ومطية عسيف، وما علم أن الله تعالى قد تكفل ببقائه في قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (9) سورة الحجر، وقد حاول البعض منذ القدم طمس هذه اللغة، ثم جاء بعض المستشرقين في القرن التاسع عشر الميلادي لإحلال اللهجات العامية مكانها ففشلوا، وكيف القضاء على لغة تقرأ في اليوم خمس مرات على الأقل!!
ولكن يبقى تراث هذه الأمة في خطر، فقد انقطع عن بعض أجزائها فترات من الزمن، بفعل التخلف والجهل والعزلة، والخوف ليس من القضاء على لغته، ولكن من تشويهه وإهماله، وأول المهملين له هم أبناؤه، وحتى الدين يعملون عليه يعملون بصورة مشوهة وفكر مسطح، يلقن إلى الناشئة تلقيناً ممسوخ المعالم، وما تحمله المناهج الضعيفة البناء يعد غريباً على أذهان الجيل الجديد، فالمنهج يقدم بطريقة فجة تنفر من المتابعة، والمفردات لا تلبي احتياج الطالب، والبحث في الجامعات العربية ناقص، ومعدوم في الكثير من الأحيان.. وليس هناك من تقدم لأي أمة ما لم تسلك تراثها من أول الطريق، وتعرف السبيل الصحيح في كيفية التعامل معه على أحدث الطرق العلمية، وذلك مرهون بأمرين: الأول، الاعتزاز بالتراث والأمة بصفتها أمة قائمة بذاتها، وبصرف النظر عما يحدث فيها من سقطات وانحرافات لا تقلل من قيمتها كأمة لها تراثها وثقافتها، واتخاذ التراث مرجعاً خاصاً.
والثاني، التطبيق الفعلي للتراث، قراءة وثقافة عامة (قراءة القرآن الكريم والشعر العربي) وما تحويه من مفردات ومعانٍ ودلالات، من عصر ما قبل الإسلام إلى عصر ازدهار الثقافة العربية، والبحث فيما بعدها من منظوم القول ومنثوره، وهذه عوامل مهمة في تقويم اللسان العربي وتنشيط الفكر، وأما دون ذلك فقشور وتسطيح ثقافي بلا مرجعية تمكن العربي من بناء نهضة خاصة به، كما هي حال الأمم الأخرى.
لقد غاب التراث العربي واختفى في مجاهل التاريخ منذ أن حلت الكارثة بالعاصمة العربية الإسلامية في القرن السابع الهجري وكانت مهيأة للسقوط، فمنذ القرن السادس والخلافة في انحدار، وتشتّت الثقافة في أصقاع الوطن العربي، وتفشت العجمة في أقطارهم، في ظل حكم العسكر والرعاة الذين لا يحسنون نطق اللغة، فضلاً عن تذوق الشعر وتقديم الهبات للشعراء وتشجيعهم، وقد حفظ لنا التاريخ أقوالاً كثيرة في هذا الصدد، لبعض الشعراء يشجبون هذا الوضع المتردي في تذوق الشعر عند متلقيه، فهذا المهذب ابن سعد يُطلب منه أن يقول قصيدة يمدح فيها السلطان صلاح الدين بمناسبة انتصاره على الصليبيين، فيرفض المهذب الطلب ليقول:
أأمدح الترك أبغي الفضل عندهم
والشعر قد كان عند الترك متروكا
وظلت هذه الحال إلى أن أشرق عصر النهضة العربية في القرن العشرين، حيث عكف الدارسون - في الجامعات والدوائر الثقافية العربية - على دراسة التراث، وقامت هيئات البحث العلمي في الأقطار العربية بدورها في توثيق التراث ودراسته، بعد أن فتح بابها المستشرقون، الذين حققوا الأدب (شعراً ونثراً) من المخطوطات المتناثرة في الخزائن وعند بعض الأفراد - وبعضهم لا يعرف قيمتها العلمية - وقام الباحثون - ومنهم طلبة الدراسات العليا - بدراسة التراث العربي في مصادره الأساسية، على الطريقة التي رسمها لهم المستشرقون، كما أسلفنا، وأغلب ما درس كان من مصادر الجزيرة العربية، في مكتبات مكة والمدينة المنورة، إضافة إلى اسطنبول، والقاهرة ودمشق، واهتم المؤرخون للأدب العربي بشعر الأقطار الثلاثة، مصر وبلاد الشام والعراق، وأهملوا ما سواها، ومنه شرق الجزيرة العربية.
وقامت مراكز البحوث في الأقطار المذكورة بدراسة العصر الوسيط، أو ما يسمى (عصر الانحطاط) الذي عاصر الشعر في شرق الجزيرة العربية، ولن نتحدث عن الجودة النوعية بينهما، لكننا نتحدث عن الرصد العلمي لحقب من التاريخ الأدبي، كما أن بعض شعراء تلك الأقطار قد ذهب إلى شرق الجزيرة العربية وما جاورها، كإيران والهند، ومنهم من رجع ومنهم من مات هناك، مثل سبط ابن التعاويذي وابن الساعاتي، ولو كان شعراء شرق الجزيرة العربية في واحد من تلك الأقطار لكان لهم شأن عظيم، ليس لأنهم شعراء، ولكن من حيث دراسة وتوثيق إنتاجهم.
وقد تعلم أبناء الجزيرة العربية في جامعات تلك الأقطار، على أيدي أساتذتهم هناك، مما جعل البعض يتفاءل بأن ينجز أحد من هؤلاء شيئاً من تاريخ هذه المنطقة الأدبي، لكنهم لم يفعلوا، وبقيت الدراسات متفرقة، هنا وهناك، على شكل اجتهادات فردية، لم تثر الحياة العلمية لأدب هؤلاء الشعراء، سواء أكانت مراجع للدراسات العليا أو للثقافة العامة.. ولنا حديث مطول في الحلقات القادمة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved