الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th April,2006 العدد : 148

الأثنين 12 ,ربيع الاول 1427

استراحة داخل صومعة الفكر

*سعد البواردي:
انتفاضة القصائد صنو لانتفاضة المقاصد. إنها حركة ديناميكية لتحقيق أهداف وغايات محددة شتى.. منها ما ينزع إلى الوجدان حيث العاطفة.. ومنها ما ينزع إلى حرية الإنسان حيث العاصفة.
شاعرنا الحميد انتفض بقصائد شعرية مجليا حامل سيفه في ساحة اختلط فيها الدم بالدمع.. والآهة بالشوق والشوك.. هذا ما يمكن أن ننتزعه معاً من خلال تجاديف مشاعره:
(الشهادة وسام الشهادة، وسام الفرح) هذا هو العنوان لأولى رسائله الشعرية:
أشعلوا فينا القصائد
كل جرح فيكمو - أيها الأبطال شاهد
قاتلوا عنا..
وليته قال: (قاتلوا منا) إذاً لكانت دائرة فرسانه أوسع لا نريد اختصار مساحة المقاتلين.. كلنا مُطالب بدخول ساحة النضال لأننا مُستهدفون.. ولكن شاعرنا بهذا التحديد أومأ إلى حقيقة مؤلمة ان فيها من ينتظر من غيره القتال بينما هو قاعد يتفرج.. معه الحق..
فما فينا فدائي مجاهد! إننا محض جلامد
همنا الشكوى البليدة
والبطولات الأثيرات الفريدة
نرمق التاريخ.. والذكرى الشهيدة
أو نناجي النصر ما بين الوسائد
ليس غير الوجد يشقينا. وأهات المواعد..
قال عنا شاعرنا القديم المتجدد وهو يهزأ بواقع مسكون بسكوت الأموات:
لقد ناديت، لو ناديتُ حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي..
الذين يعزفون على أوتار الخطأ عناهم شاعرنا بقوله:
في طريق الخطأ نصبوا لي مجزرة
حولوها مقبرة
عن طريق الخطأ شتتونا زمرا
أخرجونا في العراء..
سياسة أعدائنا الماكرة تأخذ بمثل (فرِّق تسد) إنهم بخبثهم يعزفون لنا على أوتار التشاحن والتطاحن كي لا تقوم لنا قائمة.
كل جرح فوق أشلاء جراحاتي خطأ
وصفوني انني الوغد الصيفق!
إنني الإرهاب!!! والإرهاب مني لا يفيق
لم يثرني ذلك الوهم العميق
بلادة الحسن والنفس يا عزيزي لا تشهد إلا الضعف والاستكانة دارا.. ودُوارا..
(سقوط أشلاء الحاخام) مشهد ثأر لمن مارس لعبة الموت المقززة القذرة فصرعته:
كاهانا، يرفض حلا..
كاهانا، يقتل طفلا
كاهانا، شوّهنا..
ورمى اسبال الحقد علينا
أوسعنا ركلا
ويتساءل بصرحة مشبوبة:
من يمنح (ميئير) وسام الرفض؟
من يفتح في أفق الحاخام نوافذ بلا قناع؟!
ويقتل مجدول النقض؟!
النقض.. أو الفيتو فتح لكل حاخام نوافد الأطماع.. وما زال يلعب لعبته الخاسرة حتى وان جاءت مختصرة كاسرة.. لأنها لعبة الأغبياء يهي مقطوعته المعبرة بنهاية الحاخام الذي أردته رصاصات الثأر
اخرج مقتولا، مأفونا، فزي جبان
واسقط في اقبية النسيا، يا حاخام
وقد سقط حاخام واحد.. والحاخامات كثيرون ما زالوا يمارسون لعبة القتل الجماعي، (صدى الصهيل) يقول فيها شاعرنا الحميد:
من كهفه قام الهمام عنتره!
وأسرع الخيلُ، والخيال، والشجون
ليته أبدل مفردة (الخيال) بالمفردة (الخبال) كي يكون لمثلث الأبعاد الجنائزي توافقا أكثر: (عنتره الحاضر) لا الماضي جال وصال يبحث عن جنون عنترة أخرى لا تمت لسابقتها بصلة.. يبحث عن معادن الرجال! والبغال، والخيل.. ويسأل الناس عن الديار.
وعن الأطلال يسائلها في حسرة عن فارس لا ينام في عالم مسكون بالنعاس.. يبحث عن ملامح الفخر، والوفاء، والسلام..
يبحث عن مضارب بلا حدود
فتنبح الكلاب في طريقه.. وتزأر الأسود
وتنسج الأشراك الف حد فاصل محصن، عنيد
عنترة.. يعود حائراً.. يتطلع إلى المقبرة الموحشة الصامتة.. يتذكر الموت البطيء لعالم يجهل في واقعة آثار عبسه.. وأثر كليب!
مقطعان من الهواجس النارية.. مقطع أول يقول:
وتأخذني الحمَّى إلى حيث لا أدري حدودا
ولا يفنى الخيال الذي عندي
فأطفو بوجداني
على هاجس اللظى (بحيفا)
ويرسو بي على شاطئ السند
كأني أسراب السلام..
الحمام، رمز السلام في أقفاصه ينتظر الالتهام بأفواه شرسة لا تعرف غير لغة القتل، والازدراء والاحتواء..
المقطع الثاني يقول:
سمعت المذيع يردد (دان) فرددتُ أصداء دان
وذكرى الخئون الجبان
تمازح فيها خيال الهوان..
ولحن الادانة يعزف في كل آن ادانة
ثم ماذا؟ كلنا كأنت نعزف، ونرجّع ايقاعات دان.. إلى أن يأخذ الله عنا بالشفاء.
(تساؤلات على جبين قانا)
صرخت طفلة
ضجت الدنيا لصوت الصرخة الملأى بأحزان الفجيعة
عبرت طفلة تتهادى.. دون أن تدري المصير
بين أشلاء من القتلى، وأكوام الخراب
ذلك البيت التراب كان ظلا
نعم كان ظلا آمناً عاجله غدر الجناة وأمسى طلاً.. وفي النهاية تصيح قانا ذكرى.. ولكن من دون ذاكرة.. ونعود نردد:
دان.. ما قال.. ولم يدر عن القول المدان.. ومضى يتجرع هوانه على نفسه، وعلى غيره..
ولأن مأساة ملجأ قانا تستنطق الحجر.. وتستفز مشاعر البشر كان لشاعرنا تساؤله:
أين أزهار البراءة؟!
أين نخوات الرجال القادمين؟!
من خلايا عمر، وابن الوليد؟
لقد استنهضتهم المأساة.. انتفضوا، وانقضوا. وحرروا جنوب لبنان من غاصبيه وجلاديه..
(صوت الجرح).. كل ما في ديوان شاعرنا الحميد أصوات جرح صاعقة فمن حيفا والقدس، وإلى قانا.. إلى لبنان الذي مزقته حرب أهلية نأمل معا ألا تعود.. ويبقى بعافيته رئة صالحة نتنفس من خلالها.. ونتنسم نسيم الجمال، والسلام..
شمس على لبنان غابت ظهيرة يوم
فانشقت الأحزان، واهتزت الأرجاء
بين انشطار الضوء غامت بها الأجواء
كان يعني بريق المدافع وهي تمزق بحممها أجساد الناس.. دخانها المتصاعد من فوهاتها حجبت شمس النهار..
طيف الهوى الشفقي
يجلي شموس الأمس
يتلو على قلقي..
لبنان.. مثل الهمس!
(صمود) صوت دفاع ومقاومة لا تعرف الكسل ، ولا تؤمن بالدجل.. لأنها تعشق حياة الحرية.. وتكره حياة العبودية:
سأظل في ثغر الزمان قصيدة متململة
سأظل مسرح القتال - على القذيفة - قنبلة
سأظل قنديلا يشع جوانب الدرب الفسيح
سأظل تيارا يهب مدمرا نزق النزوع
صوت حياة نفتقر إلى سماعه في زمن تناسينا فيها أناشيد الحرية. الهوية تعاني من غياب لابُدَّ من استرجاعه كي لا تضيع..
(الصحوة أمل) و(الأمل يدفع إلى الصحوة).. شاعرنا تغنى بالأمل اللأمل:
حطين، يا أملا تشرب في دمي
وهوى في اللقب وهج ضرام
وجوى يدب رسيسه بجوانحي
ورسيه نسج من الإلهام..
أهفو له والقلب يخفق لوعة
من وقعه فيزيد من ايلامي
وددت لو أن شاعرنا الحميد أبقى على أبياته متماسكة دون تقطيع في أوصالها.. أحسبها أجمل.. وفي النهاية:
حتى متى يبقى الذل تاج جباهنا
وترابنا حلم من الأحلام؟!
سماء عالمنا العربي والإسلامي تضج برعود أرضية تمطر رصاصاً.. وتنبت أطلالا وأشلاء ورعبا.. هذا هو مشهد حاضرنا.. مشهد ما حولنا..
والعاقل من وعظ بغيره.. (البكاء بين يدي الخسناء)
تحاضر الحبيبة عيناكِ شمعتا بكاء
وأعين الذين غادروا - وحبهم مستوطن - في هاجس أضواء
وأنت يا حبيبة العمر الجميل باقة مشرقة ورقاء
ونسمة بريئة تمر في شمائلي كالماء.
ماذا بعد هذا التوصيف الجميل لجمال البراءة؟
في هاجس للحزن الف شمعة تضاء
من شهقه الطفولة المنداح ظلها الكئيب
بكيت حين طيفك الحبيب يكتظ بالنحيب عند باب الروضة الجميلة
حين احتوتني ربكة الروتين..
يستعرض مع طفلته الكثير من مشاهر حياته.. وخيالاته الضاربة في البعيد.. يريدها - أي صغيرته - أن تكون القدوة والاسوة كما تاريخ الخنساء التي ضحت بأطفالها في سبيل نصرة الحق والعقيدة.. وفي النهاية يخاطب الخنساء:
سيدتي الخنساء بكيتُ إذ بكيت صخرة الفداء
وعدت بعد أحمد فرحانة تودعين آخر الأبناء
سيدتي الخنساء هذي صورة فياضة لموسم الثواء
حانت (ساعة الصفر) لدى شاعرنا المجيد الحميد ماذا عن الساعة؟
تجاوزت الزوابع حين هبت
وجرفت الكواسر بالدروب
ذرى الارهاب في صهيون شر
تجذر بالخيانة والندوب
كلنا معك نعي الحقيقة المرة.. خنجر زرعه في خاصرتنا من لا يملكون لمن لا يستحقون.. إنه قدر الذي يتوقف على قدر اقتدارنا..
شاعرنا يعتذر عن رسم وردة براءة مغتالة.. فهو يكره البشاعة وما توحي به من وجع.. كما أنه لا يستطيع أن يرى وجوه الجلادين المنتفخة ورماً كوجه الجلاد شارون ومن على شاكلته..
لا أستطيع أن أرى البراءة الممزقة
طفلا يُغري جسمه البريء
يخرق الرصاص هيكله.. خريطة مهتله
يخاطب (شارون)
شارون يا شارون يا نقمة التهويد
أحجارنا تنعيك، والأرض، والزيتون
والدمعة الثكلى، والطفل، والعرجون
حين يغضب الغادون..
مهما افترى الطغيان لابر أن يرديك
أمنيات.. والأمنيات، والأغنيات وحدها لا تصنع نصراً.. إرادة الحياة وحدها مفتاح النصر..
وأخيراً.. مع شاعرنا القادم بقصائده المنتفضة نصل إلى ختامها.. وكلها مسك لأنها صوت يقظة ترصد.. وتزكّر.. وتستفز..
(البديل) آخر قصائده:
يريدون غيري - الحياة بديلا
يلمُّ الشتات, وينهي الفصولا
أحسب انه يعني بالفصول، الانفصال.. إذا كان ما يقصده فإن مفردة (الشمولا) من جمع (الشمل).. أنسب:
يريدون غصنا طري التثني
فقد ملَّ صحبي الكرام الكهولا
يريدون بدرا عليَّ المجالي
يضيء على ذروتيه السبيلا
كل هذا يريدونه.. منهم؟ ومن المُخاطب؟
وصار رفيق الدروب عصيا
شديد المراس، يريد الوصولا
وكنت خفيف الظلال ولكن
تفلت، وهم يكرهون الثقيلا
لا أدري كيف جاء الحظ على ما لا نرغب.. فجو البديل مبلل.. والحوار فيه معلل.. هم يريدون.. وآخرون لا يريدون
أتينا إليهم فرادى بصوت
وحيد فجاءوا إليَّ قبيلا
ربما يعني (قبيلة بأجمعها) نسترسل مع شارعنا نستقصي الأمر.. إن شاء الله خيرا..
وخضت مياه السلام إليهم
وخاضي بدمعي، ودمي سيولا
جزاء سنمار تلك هي حكاية شاعرنا.. يريد لهم السلام.. ويردون عليه بحرب شعواء تسيل الدم، وتهرق الدمع.. إنها قصة الأمس، وقصة اليوم، وقصة الغد.. ألم يقل شاعرنا القديم
أريد حياته.. ويريد قتلي!
الشاعر ينادي ولكنه في واد.. أشبه بمؤذن مالطة لا أحد حوله ينصت
أنادي فيرتد صوتي صدى
يجلجل لا شيء يرضي الدخيلا
سئمت الحلول، رهان التحدي
وكان فؤادي يحب الحلولا
ينشد السلام.. يُهرع إلى مؤتمراته فتصرعه مؤامراته.. هذا ديدن واقع المشهد السياسي الحاضر.. القضية الفلسطينية أحد مشاهده وواحدة من شواهده.. شاعرنا الحميد ناشد ضمير العالم.. ضمير العالم في ثلاجة!
دعوت الضمير، ولات مجيبا
وصار اللبيب يناجي العقولا
من حقه أن يحتار.. لقد فشل في أن يختار لعالمه صوت ضمير.. وخطاب عقل..
رحلة أمتعنا بها الصديق عبدالله سالم الحميد،زادنا فيها شعره الجميل،مشاعره القومية القوية.. وهذا يكفي.


* الرياض: ص.ب 231185
الرمز : 11721 فاكس :2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved