الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 10th May,2004 العدد : 58

الأثنين 21 ,ربيع الاول 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي
خفقان العطر

ناجي بن داود الحرز
105 صفحات من القطع المتوسط
إذا كان للعطر شذاه وأقحوانه، فإنه أيضاً له خفقانه متى أطل على نفحات الربيع.. وعلى هبات الأمل. وعلى وجدانيات الجمال والحب.. العطر نفحة ربيعية تبشر بجماليات الحياة تحاول أن تضخ عبيرها قبل أن تعاجلها لفحة الخريف القاسية.. وقبل أن تدوسها الأقدام، وقد تساقطت أوراقها.. وتعرت أشواقها..
العطر الوجه الجمالي لأجمل ما يتعشقه محروم، لا مكلوم.. أو موسوم بعاطفة مشبوبة تشتعل في دواخله تطرق بوابة القلب ساعة انتظار للحظة منتظرة.. ماذا عن خفقان عطر شاعرنا ناجي الحرز..؟! وماذا عن عطره المذاب في كأس العذوبة أو العذاب؟ هل أمكن له استغراقه من خلال مفردات شعره..؟ هل توصل إليه؟ هل منحه الوصل والتواصل؟ وبأية لغة تحدث؟ قريباً من حقل الأرض المُنبت للورد راح يقارع السحر.. في مقطوعته «على قارعة السحر»، ماذا يعني بتلك المقارعة أو المصارعة أيهما يهوى؟
«في ليلية ندية
واثقة مضية
وفي ظلال نجمة
حالمة شقية
تحفز الشعر على ال
قارعة السنية»
حسناً جاءت البداية.. وحسناً لو أنه وظف مفرداته الشعرية بشكل أكثر دلالة «مضية»، يقصد بها مضيئة.. ويمكن إحلال مفردة غير مختزلة كمفردة «بهية» ومثلها كلمة شقية لا أعرف للنجم شقاوة، وإنما طراوة.. يمكن وصفها بالسنية لو رغب.. الأمر متروك له.
يسترسل في مقطوعته وبين يديه كوكبة متخمة بالصدق جاءت من أجل تلبية نهم خاطرته الظمية أي الظامئة نفس الإشكالية ولكي تستل وحي عالمه الساحر وتراتيله التي تنطق عبقرية.. يا سيدي ما هكذا تورد الإبل.. لعلي أجدها أمام وِردها في محطات قادمة أكثر إشراقا، واستشراقا لأدبيات الشعر..
مع شاعرنا نطل مع الشاعر ونبحر معه على أشرعته إلى ضفته المشرقة كما قدّم لمقطوعته «أطلي»
« أطلي من رؤى حلم قديم
أناشيدا تهدهد من جحيمي
أطلي غيمة خضراء تغفو
على همساتها النشوى كلومي!
لقد طال انتظاري. والليالي
تقلبني على جمر الهموم..
وأنتِ بكل أمنية لروحي
هناك بقبضة القدر العقيم»
القدر عظيم يا شاعرنا.. العقم خارج إطار دائرته.. لولا هذه الهنية لقلت: إنك أبحرت على زورق شعري نحو مرفأ السلامة اللفظية والشعورية معا..
«أنا مازلت ألمح من وراء ال
غيوب بريق نظرتك الرؤوم..!»
الغيب يا شاعرنا لا تدركه الأبصار ولا الحواس، لأنه غيب.. حسنا لو أبدلت كلمة غيوب بكلمة «البعيد»، القصيدة محاولة لرسم صورة حب لم تكتمل.. إطارها اللفظي يحتاج إلى مراجعة من شاعرنا وهو اهل لها..
«خفقان العطر» عنوان ديوانه.. وعنوان قصيدته التالية:
«خطوة واحدة ما بيننا
تتمطى الآن مليون طريق
خطوة واحدة ما بيننا
أصبحت أبعد من وهم غريق
الضبابات التي كانت لظى
ينتشى في حضنه العهد الوثيق
خمدت نيرانها. وانكفأ ال
لهب المحموم في واد سحيق
وافترقنا لا الجوى جاء.. ولا
سورة الشوق أرادت أن تفيق
وتمرين كأنا لم نكن
خفقان العطر في صدر الرحيق»
هكذا أريد لشعرك أن يكون نابضاً، معبراً، رومانسياً، وصادقاً في التصوير.. إلى المزيد من هذا النموذج الذي اشعر أنه يبني اطاره بتدرج سنوات ولادته.
«الدمعة الرابعة» عنوان جديد.. حجب عن عيوننا الدمعات الثلاث التي سبقته.. هل انها تجمدت في محاجر عينيها، أم أنها قفزة إلى الأمام استوعبت كل دموعه.. واستغرقت كل أوجاع وجده؟
«قالوا: أطلَّ فماه أذيعَ نشيدُ
ودنا فأطرق واله غريد
وتُهامسوا ما باله متجهما
ما بان فيه وفاؤه المعهود
أوليس هذا من بكى لفراقه
حتى بكى لبكائه الجلمود؟
الله أكبر. كيف صرمت النوى
نارا، فشاخ على البعاد وقيد
فغفت عيون حرمت طعم الكرى
وأناخ في أجفانها التسهيد».
ملاحظتان عابرتان.. العيون لا تحرم طعم الكرى.. وإنما تحرم منه لأنها متلقية لا صانعة.. الملاحظة الثانية إهماله لعلامات استفهامات، وردت في أبيات مقطوعته الأولى استدركها في الأبيات التالية.. القصيدة بناؤها الدرامي جيد، وتماسكها العضوي جميل تستحق الإشادة.
«حسبي» إحدى محطات شعر شاعرنا ناجي الحرز من خلال ديوانه «خفقان العطر» هل « حسبي» بالنسبة إليه تعني الكفاية.. أم التحسب.. لننتظر قبل أن نكتشف السر..
«عيناك؟ أم نافذتا حنان؟
تطل من أفقهما الأماني.؟
وثغركِ الباسم، أم سلافة
ملت جحيم القهر في الدنان؟»
تساؤلات كثيرة أشبعها وصفاً، كما لو كان فنانا تشكيلياً يحفر بأدواته جسم حجر يعيد إليه ملامح صورة يتعشقها..
«إني أنا الظمآن يا حسناء، والو
يل من الشوق لمن سقاني
أبقى على الشط فلا يمتد كفاكِ
إلى الماء ليروياني
وحاذري أن تطفئي النار التي
أشعلت يا سمراء في جناني»
لوحة بانورامية من التوصيف والتوظيف لمفرداتها تحسب لرصيده الشعري الرومانسي.. استرعى نظري في قصيدته الجميلة هفوة بسيطة تتمثل في قوله.. «فلا يمتد كفاكِ» المخاطبة مؤنثة، وما دامت كذلك «فيمتد» يحسن أن تكون تمتد.. ومن مقطوعة حسبه إلى محطة «حنانك يا شهي».. لا بد من أنه مشوق إلى ما بين يديه، أو ما بين عينيه، ولكنه يطلب فرصة استجماع لحواسه كي ينطلق بمداده واستعداده إلى رسم الصورة الشهية..
«أراوح بين عينك، والأماني
فتهرب من يدي كل المواني..
ونظرتك التي ما زلت أعيا
بفك رموزها قلبت كياني
عرفتك، فاكتشفت هناك جهلي
بأسرار الدقائق، والثواني»
ليس الجهل وحده. وإنما عمره الذي صار بين يديها أشبه بالحلم.. حتى أشعاره، وقد همت أن تفصح عن هواها تملكتها الحيرة، وجف مخزون نبع معانيها.. كل هذا كثير كثير عليها يا شاعرنا.. إننا نغرق في وصفنا خيالا.. وننهزم في وصفنا واقعا.. نسرف فيه شعرا.. ثم نستلبه على أرض الواقع.. هكذا نحن والمرأة.. نحبها إلى درجة الجنون في وصفنا إلى درجة مثالية الكمال.. ثم يذوب ركام الكلمات على وقع الواقع.. ليس لدينا نحن الشعراء وسط».. خير الخيال أصدقه وأدناه إلى العقل، ومع هذا الشعراء في كل واد يهيمون.. ويقولون ما لا يفعلون..
ومن رسم الصورة إلى محراب الذكرى:
«أيها المفارق في سفر الحياة
يتملى في العهود الماضيات
ويناغي ذكريات عبرت
يا سقاها ربها من ذكريات
ويشاكيني وجداً لم يزل
عاصفا كالريح في كل الجهات
لتشب النار في أوردتي
ويسيل الدمع فوق الوجنات»
شاعرنا يتمنى أن يكون شهيد حب.. هذا كثير يا صديقي.. إنك أيا كانت عاطفتك مشبوبة مجنونة، لن تقدم على النار كي تلتهم أوردتك.. ولن تستسيغ مرارة الدمع إلى درجة الجفاف.. فمجنون ليلى الماضي، انقرض، ولم يبق له من ذكر إلا في القريض.. وفي القصيد.. لا أحد يحب الموت من أجل من يحب.. أي حب يبقى له بعد موته؟!!
شاعرنا ما زال يهوم في بحر هيامه إنه يستعذب الخواطر التي تكويه بنار الخطرات.. إنه لا ينسى ذلك السرب من الظباء في الفلوات بخطاهن الرشيقة.. وقوامهن الممشوق.. كل هذا التيتم، والنجوى، والنار، والدموع من أجل ماذا؟ من أجل:
«علنا نحظى بيوم واحد
عند ذاك الظبي، أو تلك المهاة»
كثيرة عليك المعاناة يا صديقي.. حب يوم لا يدوم.. إنه ينطفئ بسرعة.. وأحياناً بصرعة.. نتجاوز محطته التي علق عليها عنوان تساؤله «إذن متى؟» وجارتها «انكسار» فقد شبعنا طرحاً للتساولات.. ولهزيمة الحب الصيفي الذي لا يمطر.. حتى مقطوعته «قالت سأرحل عنك» تقطع القلب بشجنها لأنها لا تخلو من مشروع قتل لذيذ لدى شاعرنا لا أستطعمه وللناس فيما يعشقون مذاهب الحب الذي لا يستجدي ولا يركع هو الحب الذي تحترمه حواء حتى ولو جاهرت بضيقها منه..
يبدو أن شاعرنا استمرأ القتل اللذيذ، واتخذ منه محور خطابه الشعري.. إلا أنه في قصيدته «فقلت أواه» اكتفى بآهاته.. ودموعه.. وهما أخف الضررين.. وأهون الشرين..
«قالت: أراك على الأشواق ذا جلد
تقوى التفلت من سلطانها العاتي
فقلت: أواه من وجدي، ومن ولعي
لكنني أتمادى في معاناتي..
أخشى أطيع فؤادي كلما عصفت
أشواقه فتملوا من ملاقاتي
فرح شوق أهاج النار في كبدي
هدهدته بدموعي.. أو بآهاتي»
ماذا أبقيت إلا الموت.. إذا كانت دموعك، وآهاتك أدوات هدهدة؟ ومع هذا فإنني أشد على يدك شاعرا رومانسياً تملك ناصية التعبير من جانبه الضعيف الذي لا يقوى على المواجهة والمجابهة حتى في ساحة الشعر.. فالحب له جناحان.. أو جانبان بمعنى أصح.. جانب مقاوم.. وجانب ضعيف مسالم هو الضحية دائماً.. وهو المهزوم دائماً.. جرب يا صديقي أن تشهر سلاح المقاومة في حبك.. شريطة ألا يصل إلى جرح القلب.. وإلى قتل مشاعر من تحب.. قل لها في شعرك إن المشاعر لا تباع.. ولا ترتهن.. ولا تذل.. ولا تنال من كرامة المرأة. ومن أحاسيسها.. أبداً.. نقطة التقاء بين جانبين لا انتصار في معركتهما ولا هزيمة..
الآن.. أكبرتُ فيك مقطوعة «الآن» قصيرة جداً.. وجميلة جداً.. لأنها موحية بجانبيها الحسي والنفسي:
«قالت كأنك لم تكن
لما هجرت الشعر شاعر؟
فرجعت أسأل هل كبا
باللحن قيثار مكابر؟
قلت: القوافي كلما
هاجرتِ عن حرفي تهاجر
الآن أمسك ريشتي
وأعيد للنار الدفاتر!»
إمساك بالريشة يعني العودة.. لماذا إذاً وقد عادت ملهمة أفكارك.. وعادت ريشتك بعودتها تعيد إلى النار دفاترك؟ أتراها نار الحب.. لا نار الموقد؟! مجرد سؤال..
من «هنا» محطة لقاء عابر بين الشاعر ومعشوقته الشعرية امتد بهما الضياء وتجمع الرباعي هو. والحب. وليلى. والوفاء.. إلا ان اللقاء عكرته ليلة شتوية سوداء باردة تركت فارسها فريسة للذهول والشقاء..
قصيدته الصمت من فصيلة ما يسمى الشعر المنثور.. أي النثر الفني لا تخلو من وصفات معبرة.. ونبضات جميلة..
«الصمت. الصمت. وأشرعتي
والحبر الثائر في عينيكِ
الصمت. الصمت. وهكذا القلب الخائف
من نزق المجداف يعرقل آيات جنوني
يمنعني من كسر ظنوني
والموج الدافئ في عينيكِ
يغازل شاطئ أوجاعي
يغمر الورد. لهذا الليل
لهذا الوجد.. فلا أتوغل في الآهات»
صبابة مكتومة انفجرت في أعماقه حية تلامس شغاف وجدانه، وتحد من إغراقه واستغراقه في بحيرة الشكوى لماذا؟ لأنه يعاند إلحاح المأساة.. ويحاذر من تكرار المأساة.. خاطرة جيدة لشاعر تملكه انفعاله. وليس افتعاله بعد أن أسرج خيول عشقه وأرخى أعنتها وترك لخياله أن يسبح في فضاءات التساؤلات الكبيرة..
«من يضمن لي موتا أطوع؟
من يضمن لي كفنا أنصع؟
من يضمن لي لحداً أوسع؟
من يضمن لي اسما بشفاهك مخضل القسمات؟
فأطفئ إلحاح المرساة
وأشعل قنديل المأساة..
لا أحد يضمن لأحد..، فالكل في هم الهوى، كما في هم الحياة سواء.. نحن مسيرون لا مخيرون يا شاعرنا..
ويحاول أن يجيء كما لو أنه لم يذهب في قصيدته.. «محاولة للمجيء» كيف عاد؟ وبأية؟
«عندما أدفن في عينيك يأسي
تنتشي الأحلام في صدر السفينة
يصهل الموج. وأمتدُّ على
صهوة البحر قناديلا حزينة
فتجول الشمس في أوردتي
تحصد الثلج. وأكواخ السكينة..»
أليست الشمس، وقد اخترتها سكنا لأوردتك أفضل من الموت الذي سبق أن اخترته نزيلاً في أوردتك، كما في مقطوعتك «محراب الذكرى» الضاربة في يأسها وبؤسها وبكائيتها.
شاعرنا يحب الصمت، ولكنه يقوضه بصوت شعره، فما يدع له لحظة استرخاء، هكذا جاءت المفارقة اللذيذة في مقطوعته «الجدار» حيث تحدث عن الصمت القادم الأشبه بالحائط القائم.. دم مشحون بالأظفار.. وألف ستار تموج بالأسرار.
«في الصمت القادم قنديل
مبتور الجبهة. والساعد
ولواء مطوي. عائد
وجدار يبحث عن حاصد
ولهيب منتل الأزرار
إكليل شرقي. وثلاث قصائد. وفؤاد مقروح»
ومع هذا، ولهذا اختار السير على الوهج المذبوح تذكيه ريح مولولة.وعتمة. وغضب. وجروح.. هكذا تكون المغامرة.. محطات اختصرتها مدارات الرحلة الموشكة على النهاية «مدارات» «رحيل معلم» «الوهم الكبير» اختار من مدارات هذه الأبيات التي تتحدث عن الليل من خلال مصباح شعري سحري رومانسي..
«في الليل.. إذا انطفأ الأطفال
ألملم حزمة ضوء أصفر
من ذيل القمر المغلول.
وأدخل غرفتهم أزحف
لأخبئ بعض الضوء الخافت
تحت وسادتهم..
لكن الشمس تفاجئني»
على ضوء قنديله الراعش الذي عاجلته الشمس بوهجها واستلبته طاقته الهزيلة.. لا أملك إلا أن أكبر في شاعرنا قدرته على رسم الكلمات..وحسم المعاناة الشعرية التي عايشها وعاشها بصدق واقتدار.
متعتي مع رحلتي مع ديوانه لا حدود لها.. لقد جدفت على بحره.. الأمواج فيه متحركة.. والربان يمسك بمقود قاربه في ذكاء حتى لا يغرق.. واخاله وصل إلى شط الأمان.. له مني تحية السلامة.. وتحية السلام.. والمزيد المزيد من شعره الجيد بعيداً عما يربك.. وبعيداً أيضا مما يحتاج إلى فك رموز مستعصية برزت خلسة في القليل القليل من أبياته الشعرية..


الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved