الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th July,2006 العدد : 161

الأثنين 14 ,جمادى الثانية 1427

أعر اف
الحقيقةُ والسراب!!
محمد جبر الحربي

لدينا، كما لدى غيرنا نماذج عجيبة غريبة من أدعياء الثقافة، سيماهم في وجوههم من أثر الكذب والنفاق والتملق (والتشعلق) بقشور الثقافة وبريقها.
تجدهم يدسون أنوفهم في كل مكان للتمظهر والتشخيص، وإضفاء طابع الأهمية والمعرفة على الخواء المزخرف كما يقول البردوني رحمه الله.
ولا يمكنك تفويت مظهرهم المخادع في المجالس والمنتديات والمناسبات، ولكنهم ما ان يفتحوا أفواههم حتى يعرف القاصي قبل الداني زيفهم وبريقهم السرابيّ الكاذب، ومواقفهم التي يندى لها الجبين.
وقد كنت أحسب أنهم بعد بلوغ أرذل العمر يعقلون، أو يكتشفون أنفسهم، أو يكفرون عن غيهم وسباتهم الطويل في الوهم، إلا أنني كنت مخطئاً لأنني صادفتهم كما هم بمزيجهم الدبق من ضحك وابتسامات صفراء، وفوقيتهم وغرورهم كأنما هم الأولى بزمام المعرفة والقول.
ما أثار هذا الموضوع في داخلي هو موقفان حدثا قبل أيام في مناسبة عزيزة.
كان أحد الحضور يرتدي قميصاً عليه خارطة فلسطين فما كان من أحد النابهين من الصنف الذي ذكرناه إلا أن علق ضاحكاً: إلى الآن مع فلسطين؟.
تخيلوا كم من البؤس يصدم من ملاحظة الفارغ هذه.
أما الموقف الآخر فقد كان معي شخصياً، إذ ما انفك الجالس بجواري بعد الأمسية الشعرية من شتم العرب، ووصفهم بأقذع ما يمكن، ليقول لي بشكل متعجرف: لماذا كتبت قصيدة زمان العرب يا محمد، أو هكذا أراد!! أما النوعية التي سقاني الله القدرة على إخراجها من كل مكان أقرأ فيه، وذلك مما يمتعني ويطربني في الحقيقة، فهي التي تحترق كلما قرأت هذه القصيدة، وتنسحب كما ينسحب اللصوص، أو الذين يحسبون كل صيحة عليهم.
ذلك لأنها لا تشير إلى نفسها ومواقفها المعادية لكل ما هو عربي جميل، فيما كانت تخبئ هذا العداء في الداخل لسنين، ولكن لأنها كما يتضح مسرورة بالوضع الذي أضحى عليه العراق اليوم تحت الاحتلال، وهذا لعمري أسوأ السوء الذي يمكن أن يصل إليه إنسان سواء كان مثقفاً، أو مدعياً للثقافة.
فعندما يريدُ أحدهم أن تصبح فلسطين نسياً منسياً، أو عندما تصبح فلسطين قيمة مضحكة في النفس المريضة!! أو عندما يتطاول أحدهم على الهوية العربية ضمن نظرية الذوبان، أو الاستسلام، أو التندر!! أو عندما يصبح الاحتلال الأمريكي لدار الخلافة العباسية، ومركز الحضارة العربية وسيلة لتحقيق أوهام أيديولوجية أو طائفية مريضة لدى بعض المرضى بعمى البصائر!! عندها يتكشف كل ذلك المسكوت عنه عبر هذه الشخصيات الهزلية المفضوحة أينما حلت، ويتأكد لك أنك أمام أدعياء ثقافة، ومستغلين للقيمة الثقافية لتمرير ما لا علاقة له بالثقافة، أو الأرض، أو الانتماء للقضية المركزية وهي قضية فلسطين.
وحينها تخرج رائحة الحقد، ورائحة الفكر الضيق المختنق، ورائحة الطائفية، ورائحة اللا مبالاة التي تصل إلى حد العبث.
لكن ما يفرح القلب، ويسمو بالروح هو أن الأغلبية الساحقة ليست كذلك، وأن هؤلاء لا يشكلون إلا قلة زائغة، ولا يمثلون إلا ذواتهم التي رتعت في العتمة، وتربت على العمى الداخلي.
فعتمة في الخارج، وعتمةٌ في الداخل.
أما الجواب المليح الذي أضاء الفرح تلك الليلة، فهو جواب الإنسان الذي كان مرتدياً ألوان فلسطين حين قال:
فلسطينُ اسمي، وأنا لا أنسى اسمي.
هذا الإنسان الذي لا يتصدر الأمسيات منظّراً!!
ولا يتبجح بالبطولات والمقولات الكبيرة بمناسبة وبدون مناسبة!!
ولا يدعي أنه الأول والأعلم والأعرف بالقضايا وحلولها!!
هذا الذي ملك الجواب الحاسم، وأسقى المستهتر من كأسٍ لم يتعود عليه أمثاله!!
هذا الذي يبدو بسيطاً ومسالماً وعفوياً كان المثقف الحقيقيّ ليلتها، وهو وأمثاله هم الذين تعول عليهم الأوطان.
لأنهم الحقيقة والنبض والأمل..
ولأنهم الذين يكشفون ويمحون السراب من حياتنا التي يريد لها بعض المتخبطين أن تكون ذليلة باهتة منكسرة تخدم هروبهم وزيفهم وانكسارهم أمام شمس الحقيقة.


mjharbi@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved