الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th July,2006 العدد : 161

الأثنين 14 ,جمادى الثانية 1427

البحث عن الحقيقة
قاسم حول *

تنتهي مهرجانات السينما ويصار إلى توزيع الجوائز.
فهل كل جوائز المهرجانات تمنح لأسباب ثقافية وفنية؟
هناك أفلام تستحق الجوائز فعلاً وتأخذ مكانها في قلوب المشاهدين ومكانتها في الصالات، ولكن الكثير من الأفلام التي تحصد الجوائز الذهبية إنما تمنح لأسباب غير ثقافية، وهذا شأن سارٍ في أغلب أو ربما جميع مهرجانات السينما في العالم.
على سبيل المثال، فإن مهرجان كان السينمائي الذي انتهت دورته قبل بضعة أسابيع هو مهرجان للأفلام الروائية، ولم تمنح فيه جائزة لفيلم وثائقي تسجيلي سوى مرتين: المرة الأولى منحت في الستينيات لفيلم (كلكتا) للمخرج الفرنسي لوي مال، وكان سبب منح الجائزة هو عمق الوثيقة التي حقَّقها لوي مال، والطريقة المثيرة التي شغلت الصحافة في تصوير الفيلم؛ حيث وقع المخرج عقداً لتصوير إعلان عن معالم كلكتا في الهند لصالح شركة طيران، وعادةً فإن مبالغ الإعلانات في الغرب هي مبالغ كبيرة جداً قد تصل ميزانيتها إلى مستوى ميزانية الأفلام الكبيرة. وعندما ذهب المخرج إلى كلكتا مع فريق التصوير وشاهد الناس مصابين بالجذام في الشوارع وفي بيوت انتظار الموت رفض تصوير معالم المدينة ووجَّه الكاميرا نحو هؤلاء البؤساء، وخرج بفيلم تسجيلي مدته ساعتان جرح فيه ضمير الإنسانية، ما حدا بمهرجان كان للخروج عن التقليد ومنح هذا الفيلم التسجيلي الطويل السعفة الذهبية.
حديثنا هنا يأتي صوب المخرج الأمريكي (مايكل مور) صاحب فيلم فهرنهايت 11-9 الذي هاجم فيه الرئيس بوش والسياسة الأمريكية في حربها ضد العراق والعالم. لم يكن في تصوري منح الجائزة لأسباب فنية تليق بمهرجان كان السينمائي الذي يتحمل مسؤولية ثقافية كبيرة إزاء جمهوره وإزاء تأريخه، بل كان منح الجائزة بدوافع سياسية.
ومايكل مور مخرج عمل على كشف الحقائق الموضوعية من منطلق المسؤولية الثقافية ومن منطلق البحث عن الحقيقة. ولكننا لو أردنا أن نزن الثقافة بميزان الجائزة لما حصل هذا الفيلم على السعفة الذهبية على رغم أهميته السياسية. ولقد تحول الفيلم في حد ذاته إلى قضية سياسية وعمَّق الخلاف الأمريكي الفرنسي، ثم بدأت المناورات والتكتيكات للتوصل إلى صيغة من التسويات بين البلدين الكبيرين. بعدها غاب مايكل مور عن الشاشة وغاب عن التألق وغاب عن الإعلام تماماً مثلما غيِّب مايكل جاكسون عن الأضواء لسنوات كثيرة لا أحد يعرف حقيقة أسباب ذلك الغياب.
البحث عن الحقيقة هو أمر صعب قد يودي بصاحبه إلى (درب الصد ما رد) كما يقول المثل. يذكرنا موضوع البحث عن الحقيقة بمراحل مرت بها البشرية؛ حيث اضطربت الحياة في مراحل من الزمن وكتب يومها عمانوئيل روبلس مسرحية (الحقيقة ماتت). اليوم، فإن الحقيقة قد شبعت موتاً، والبحث عنها أو التقرب نحو البحث عنها يشكل مشكلة لصاحب البحث قد تودي بحياته وقد تودي بحرمانه من الخبز. لذلك ينصح الأهل والأجداد بالابتعاد عن هذا الطريق حفاظاً على النفس والأهل، ولهم في ذلك حكم ومقولات.
ليست هذه دعوة للسكوت، ولا هو تحريض على السكون، لكن قول الحقيقة يحتاج إلى رحلة في درب قد لا يعود فيه ماشيه. لقد خسرت البشرية رموزاً كبيرة ودفنت أسماؤهم معهم، ذلك بسبب البحث عن الحقيقة. عندما نشاهد ندوات تلفزيونية فإن المتحدث كثيراً ما يبدأ حديثه (الحقيقة، أن..) أو (في الحقيقة، أن..)، ولكن كل الذين يبدؤون حديثهم بالحقيقة فإنهم يغيبونها.
ولعل أهم ما تحققه السينما التسجيلية أو البرنامج التسجيلي التلفزيوني هو كشف الحقيقة الموضوعية، لكن كل البرامج الوثائقية وكل الأفلام التسجيلية تظل تدور وتلف وتدور دون أن تلامس جوهر الحقيقة؛ لأن ملامسة الجوهر والوصول إليه يمثل ضرباً من المقامرة الخاسرة مسبقاً. والإعلام القائم الآن هو إعلام دوغماتي - تضليلي، فمن مهامه تغييب الحقيقة؛ لأن ما يجري الآن على الساحة السياسية شيء خطير وينطوي على أبعاد مستقبلية غاية في الخطورة، والحقائق فيه مغيبة وممنوع الاقتراب منها. ومن المؤسف جداً أن المثقف العربي أصبح مساهماً في هذه الظاهرة الإعلامية وصار يعرف لعبة الإعلام ويدرك تماماً أن جوهر الحقيقة مطلوب التعتيم عليه وتغليفه وعدم لمسه والمرور من جانبه دون النظر إليه. ومن هنا يأتي تغييب اسم مايكل مور عن الشاشة وعن الأضواء، يأتي بسبب بحثه عن جوهر الحقيقة والجميع ساكتون.
ابحثوا عن الحقيقة.. ولكن ممنوع ملامسة جوهرها!!!
إن الحقائق التي يمر إلى جانبها المثقفون هي أضواء مؤجلة الإشعاع منطفئة بشكل مؤقت، ولكنها لو ظهرت من مخابئها وصارت تحت الشمس فستحرق الأخضر واليابس لا سمح الله. ومطلوب الآن وقبل فوات الأوان أن نتحدث عن الحقيقة دون أن ننهي رسالتنا.. عزيزتي الحقيقة، إن سألت عنا فلله الحمد نحن بخير ولا يهمنا سوى ألم فراقك الغالي علينا.


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
Sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved