الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th July,2006 العدد : 161

الأثنين 14 ,جمادى الثانية 1427

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

شموخ في زمن الانكسار
عبد الرحمن صالح العشماوي
187 صفحة من القطع المتوسط
***
الشموخ في زمن الانكسار مواجهة هزيمة من أجل هزمها.. ومجابهة أخطار من أجل دحرها.. الانكسار مذلة.. والشموخ مدلة يقظة لا ترتضي عن النصر بديلاً.. شاعرنا العشماوي أوحى لنا من عنوان ديوانه بمنازلة بين ما هو واقع ذليل وآخر ينتفض عليه ليزيحه عن درب الحياة من أجل الحياة.
أمام قامة فلسطيني صغير رفع راية نضاله سعياً لتحقيق آماله جاء صوته:
سحبٌ تلوح ورعدها يتكلم
والأرض تسمع ما يُقال وتفهم
وأيضاً تسمع ما يُفعل:
كانت ربوع القدس أرضاً حرة
تُرعى كرامتُنا بها وتُعظم
ومضت بنا الأيام مركب حسرة
ينجو.. وزورق فرحة يتحطم
ودقت ساعة الكفاح المقدس:
وإذا بجبهة فارس متوثِّب
يدنو ويرفع رأسه ويُسلم
مَن أنت؟ وانبهرت حروفي والتوى
وجه السؤال وأثبتتني الأسهم
مَن أنت؟ مَن أنت؟.. ومَن أنت يكرِّرها في لهفة الصدى الجميل لقدوم فارس شبَّ في أحضان النكسة والنكبة.. وبقي واقفاً على قدميه يتحدى:
طفل صغير غير أن شموخه
أوحى إليَّ بأنه لا يهرم
طفل صغير والمدافع حوله
مبهورة والغاصبون تبرَّموا
وتأتي الإجابة قاطعة لا وجل فيها:
أنا من ربوع القدس طفل فارس
أنا مؤمن بمبادئي أنا مسلم
لغة البطولة من خصائص أمتي
عنَّا رواها الآخرون وترحموا
ناديت قومي والرياح عنيفة
والصمت كهف والظلام مخيم
ورأيت أعدائي صغاراً كلما
واجهتهم بيقين قلبي أحجموا
وإذا سألتم عن بني قومي ففي
كتب الحقيقة ما يُمضُّ ويؤلم
لو كان أمر الناس في أيديهمو
ما سفَّه من ترب الهزيمة رستم
سكت الرصاص، فيا حجارة حدِّثي
إن العقيدة قوة لا تُهزم
تلك خلاصة الخلاصة لقصيدته الطويلة الجميلة: سيوف تغمد.. وحجارة تنتفض في وجه الجلادين.. مفارقة بين ضعف القوة وقوة الضعف. هذا هو صوت فلسطيني يرفع عقيرة حجارته يقذف بها وجه العدو متسلحاً بإيمانه.. وطفل فلسطيني آخر يتحدث عن وطنه.. المضمون واحد.. كلاهما يُمسي ويُصبح للوطن فلسطين..
يستخرج لنا فارس رحلتنا قصاصات من حقيبة ذكراه اخترت منها بعض مقاطع لطولها:
حرب.. ولكن الفوارس يلعبون!
والواقفون على خطوط النار لا يتلفتون
والسذج البسطاء باللحن الدخيل يدندنون
(يحيا أباة الضيم، يحيا الجائرون)
هذا مقطع.. وآخر:
قوم يهزُّون السيوف على رقاب الآخرين
والآخرون يحرِّكون المطرقة: تقسو، تلين
مليون راحلة ودرب الشوق أشواك تعوق الراحلين
ومقطع ثالث:
شفة إلى لغة الهوى عطشى وقلب فيه نار
والمعصم المقتول يخنقه السوار
والصورة الشوهاء ضاق بها الإطار
نور.. ونار
ومقطع رابع:
قدم تحن إلى الوقوف.. ولا يطاوعها الوقوف
قلم يحن إلى الحروف.. ولا تطاوعه الحروف
شمس يروعها الكسوف..
ورؤى بأعيننا تطوف
مقتطفات من لوحته البانورامية ذات الألوان الطيفية في إطارها سواد.. وفي داخلها حنين.. وأنين.. وبعض من حلم لا لون له..
في مقطوعته (دمع ودم) يقول العشماوي:
دمع ودمع وصحيفة بيضاء
في شوق إلى شفتي قلم
وقصيدة ما زال يهجرها النغم
وجدار أسئلة يقام
إنه الحرمان.. والعطش.. حين تلقى الماء دون إناء.. وتجد الغاية دون السبيل إليها.. أمام هذه الحيرة يتساءل:
من أين أبدأ يا مدى؟
ومتى أرى الأزهار ضاحكة الندى؟ دمع ودم
والكاتبون على المناضد يكتبون
باعت عبارتها الممثلة القديرة!
رفعت عقيرتها المغنية الشهيرة!
ذهبت إلى باريس راقصة!
وأسمعنا مُرَقصها شخيره!
هذا هو زمنهم.. إنهم النجوم الشارقة بنجوميتها شئنا أم كرهنا.. دخلُ ليلة واحدة يساوي أجر ألف نهار عمل ونهار.. تتقاطع صور الشكوى في مخيلة الشاعر، تارة يلتفت إلى أمه يبثُّها شكواه:
أماه، هذا المعتدي وحش وليس له خلاق
فقفي على جبل الصمود أمام جائحة الفراق
وثقي بأن الحق منتصر.. وأن الله باق
ومرة أخرى يلتفت إلى بني قومه:
أوَّاه من قومي.. يعون ولا يعون
ما عاد وجه القدس يحمل غير خارطة الألم
يرمي إلينا قطرة مزجت مدامعها بدم
وبعد أن أنهكه التطواف الطويل صرخ:
يا بسمة الأحلام في ثغر الزمن
لا تتركيني في مهب الريح يقتلني الوهن
يا عزيزي، ما تخشاه تحوَّل إلى طوفان كطوفان تسونامي.. اجتاح أكثر من قدس، وأكبر من بغداد.. إنه يزحف دون صدّ أو ردّ إلا بعض من مقاومة هنا وهناك تشير إلى أن في جسدنا الكبير بقية من بقايا الحياة:
أيكون القلب صخراً؟ سؤال.. هل أعطى عليه لنا مجتمعين الجواب؟
شاخت الأوهام في عينيكِ، ما أبصرت دربي!
وادَّعيتِ الحبَّ، ما أدركتِ حبي!
وتحاملْتِ على قلبي.. ولم تستشعري لهفة قلبي
إنها أبداً ليست حواء العاطفة.. أخالها الوطن في عيون حبيبته.. الحرية في مشهدها:
أين ألقاك؟ ومن حولي ظلام
وبلادي أصبحت موطن حراب
أصبحت قصعة أعدائي تداعوا حولها من كل حدب
لا وقت لحب القلب.. حب العقل والحياة أولى، هذا ما أوحت به أبياته.. وبياته العاطفي:
كل يوم دائر أحمل في كفيَ حجرا
كلما أطفأت ناراً أشعلتْ ذكراكِ أخرى
كل يوم وأنا أنفث إحساسيَ شعرا
كل يوم وأنا أغلق باباً وأنا أسدل سترا
كل يوم وأنا أفرغ في قلبيَ صبرا
وأرى اللحظة شهرا..
ما أن يندمل له جرح حتى ينفتح في جسده جرح أكبر وأخطر.. يعود إلى دوامة ألمه وعلى فمه لغة ساخرة:
يا إلهي.. أيكون المرء وحشا؟!
أيكون القلب صخرا؟!
أيكون العدل في عرف طغاة اليوم إرهاباً وقهرا؟!!
آه.. ممن يتغنى بجراح الناس ذكرا
أيها الجيل الذي تغمره الأوهام غمرا
دعك من يأسك وافسح
لنسيم الأمل الصادق صدرا
أنت أولى باحتمال العبء لو تدري وأحرى
مقطوعته جميلة وموحية بدلالاتها، فيها الذكرى.. والتذكير.. فيها العظة.. والخشية.. وفيها الدعوة إلى الصحوة.
(فلسطين) في ديوانه القاسم المشترك الأعظم.. رسائله إليها ومن أجلها متتابعة.. الواحدة منها تختط لنفسها منحى له ملامحه.. هذه المرة يحاورها:
أين أهلوك يا فلسطين؟ قالت:
بعضهم أجهزت عليه الرماح
وبقايا منهم يُسامون ظلماً..
وكثير منهم على الأرض ساحوا
أين أهلي؟ يطرزون الأماني!
والأماني عن دربهم تنزاح
أين أهلي؟ مشرَّدون، وبابي
مقفل، والتئامهم مفتاح
مفتاح القضية ما برح ينتظر التئام الشمل الكبير كي ينفتح الباب المغلق.
أتجاوز مقطوعته الشعرية المجزأة الأوصال بعنوان: (أيُّ ليل تمطَّى فوق أرضي؟)؛ ليل مجموعة قصائده، وأتوقف بكم أمام سرادقات العيد الباكي.. الأشبه بسرادقات العزاء:
أقبلتَ يا عيد.. والأحزان أحزان
وفي ضمير القوافي ثار بركان
أقبلت يا عيدُ والرمضاء تلفحني
وقد شلَّتْ من غبار الدرب أجفان
أقبلتَ يا عيدُ والأفراح نائمة
على فراشي.. وطرف الشوق سهران
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي
قلوبنا من صنوف الهم ألوان؟!
من أين نفرح والأحداث عاصفة
وللدمى مُقَلٌ ترنو وآذان؟!
المسجد الأقصى محطم الأمل، فؤاد القدس والهٌ! الأمة نائمة! الليل نشوان بنومها! الذل منتجعات تُسكن! الربح خسارة:
أصبحتُ في يد عيدي والسؤال على
ثغري يئن.. وفي الأحشاء نيران
أين الأحبة؟ لا غيم، ولا مطر
ولا رياض، ولا ظل وأغصان
أين الأحبة؟ لا بحر، ولا جزر
تبدو، ولا سفن تجري وشطآن
ألم نقل: إنهم نيام؟ والنيام غائبون عن الوعي.. أو مغيبون عنه..!
لنعطِ القوس باريه.. ولننتظر ماذا يفعل الفارس بسهمه؟
سلام الله يا قدسي
سلام الله يا حيفا ويا يافا
سلام الله نبعثه وليل البؤس يغمرنا
سلام.. وعتب.. وصلات.. وصلاة. كلها مجتمعة أمام محراب الإيمان تتبتل وتتوجع.. حيفا ويافا لن ترجعا.. أمام المشهد الفلسطيني أبواب أربعة لا خامس لها: باب شاروني يفضي إلى دولة عنصرية يهودية لا موطئ قدم فيها لديانة أخرى.. وباب فلسطيني يفضي إلى دولة عاصمتها القدس حدودها ما بعد ثمانية وأربعين من باب ما لا يُدرك كله لا يُترك جله.. وباب ثالث ليبي قذافي يفضي إلى إسراطين؛ دولة فلسطينية يهودية تذوب فيها العقائد والأجناس.. وباب رابع يطمع في فلسطين واحدة كما كانت، وهو مطلب تحقيقه أشبه بمعجزة في ظل التوازنات الدولية القائمة، لا أدري إلى أين، وإلى أي شكل، وإلى أي زمن يتمخض الجبل فيلد.
أشعارنا هي إشعارنا بخيبة أمل مشوبة بانتظار دون مرارته وحرارته النار.. يتحدثون عن مشروعات سلام تطبخ على نار دافئة. أما شعر الشعراء فإنه وحده لا ينضج الوجبة.. وإنما يدفئها.. وقصيدتك يا عزيزي دافئة وجميلة، عابها تقطيع أوصالها إرباً إرباً كما هي الحال بالنسبة لفلسطين المجزأة والمقطعة الأوصال.
نقش على حائطه الجراح.. لن يكون النقش إلا شاكياً وباكياً:
ما جئت أسأل عنكِ التين والعنبا
ولا أجادل فيك الترك والعربا
بل جئت أسأل إحساساً يحركني
إليك.. أسأل جرحاً صار ملتهبا
يسأل عن طفل مكتئب.. وعن أيتام بُحَّت حناجرهم من وحشة اليتم.. ورياح ظلم عاصفة.. وهاربون استلذُّوا مذاق الخوف والهرب.. خطابهم شعارات.. وخَطْبهم لا يحرك فيهم ساكناً.. إنه يستصرخ:
يا أمة العرب أفناكم تسابقكم
إلى الخلاف.. فمن ذا أحرز القصبا؟!
لا أحد.. وفي مقطوعة (تألَّقي يا حروف الشعر) يقول العشماوي:
لا تطفئي شمعة، لا تغلقي بابا
فقد عرفتكِ، وجه الفجر ما غابا
ومذ عرفتكِ عين الشمس ما انطفأت
ومذ عرفتكِ قلب الحب ما ارتابا
تألَّقي يا حروف الشعر واتخذي
إلى شغاف قلوب الناس أسبابا
تألَّقي يا حروف الشعر واقتحمي
كهف المساء الذي ما زال سردابا
وخاطبي قلبيَ الشاكي مخاطبةً
تزيده في دروب العزم إذوابا
ويتساءل:
فكيف تغرق في بحر جعلتُ على
أمواجه مركباً للصبر جوَّابا؟!
هذا لا يكفي.. ماذا يصنع مركب صبر لا يقدر على مواجهة الموج والاقتحام.. والالتحام.. الصبر أحياناً لا يكون مفتاح فرج.. وإنما مفتاح تفرّج!.
وعن مخيمات الشتات يقول:
نصب الليل خيمة الظلماء
وأبان الصقيع جور الشتاء
وصغير يخبئ الليل منه
تحت إبطيه باقيَ الأشلاء
وبيوت تبرَّأ الأمن منها
وكساها الإرهاب ثوب الشقاء
والعذارى نحيبهن نداء
أين مَن يفهمون معنى النداء؟!
لا مجيب، يا صوت ليلى وسعدى
مات مَن يستجيب للضعفاء
مقطوعة طويلة جميلة، أبياتها الخمسة تختصرها.. فارس رحلتنا يتجه إلى أمَّته عتباً.. وإيقاظاً:
خجلت درب البيت من حال أوطاني
فلا الحرب أرضتني، ولا السلم أرضاني
فلست أرى إلا وجوهاً كئيبة..
ولست أرى إلا صراعات إخوان!
ولست أرى إلا خلاف وفرقة
أعدنا به أيام عبس وذبيان
رصاص، ولكن في صدور أحبة
وعزم، ولكن في موالاة عدوان!
وأخيراً مع صرخته في زمن الهمس يقولها هازئاً بالضعف والهوان:
اضربوا؛ فالخضوع يلوي الرقابا!
والشعارات تملك الألبابا!
اضربوا؛ فالنسور طارت بغاثا
والهزار الجميل صار غرابا!
اضربونا؛ فقد غفونا وسارت
في يدينا سيوفنا أخشابا
يا أذل العباد إلا علينا
مذ غدونا لغيرنا أذنابا!
أبيات مليئة بالوجع يوجِّهها إلى المفسدين في الأرض الذين أذلونا وهم الأذلاء، لا لقوة فيهم وإنما لضعف فينا.. ويلتفت إلى قومه:
يا بني أمتي علام التغاضي؟
ولماذا صار اليقين ارتيابا؟
نحن أقوى بحقنا، فلماذا
نجعل الذل منهجاً وكتابا؟
وإذا استسلم العظيم بأرض
فسيغدو الذليل فيها مهابا!
نيابة عن شاعرنا أكملت علامات الاستفهام والتعجب اللازمة، وأكملت معه رحلة مطيَّتها أحلام أمة.. ومستلزمات وطن.. وأدبيات حياة علَّها تحرِّك السواكن.. وتستنهض الهمم.. شكراً لشاعرنا؛ فقد أدى ما عليه.


الرياض - ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved