الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th July,2006 العدد : 161

الأثنين 14 ,جمادى الثانية 1427

قصتان قصيرتان
فاطمة العتيبي
زوجة شماغ
تحمل جرحها في قلبها وتمضي..
تعارك الحياة..
تعارك البلادة في الأشياء حولها..
تستيقظ الصباح.. تضج مع الأطفال.. قررت اليوم ألا تنظر في المرآة علها لا تغالب دمعها المتبقي منذ ليلة البارحة.. انحشرت مع حقائب الأطفال خلف السائق الذي يكابد كثيراً في طرد رائحة التبغ.. بزجاجة عطر رديئة.. تزيد صباحها بهوتا..
تعود.. ولا تعود.. تجمع الأطفال من المدارس، وتؤوب وبشكل دقيق هي لا تدري أهي التي تعود أم امرأة أخرى غريبة عنها؟ بدأت تتخلق في غفلة منها منذ سنوات انحشرت وسطها دون أن تدري.. أهي التي تعود الآن.. أم امرأة مثل آلاف النساء.. يلتحفن العادي ويتوسدن المكرور.. تعبرهن الحياة دون أن تلوح لهن يوماً.. بمنديلها الوردي.. تعبرهن تاركة لهن حرباً باردة يخضنها على جبهات متعددة.. قالت له ليلة البارحة: عد مبكراً فرد بصوته الساخر دائماً: (وشوله)؟.
- أكيد ناسي- خرج لم ينتظر لتذكره.. في الواحدة صباحاً وبعد تفكير طويل وأرق طويل استبعدت تماماً فكرة (المسج) الذي سيدعي حتماً أنه لم يصل.. هاتفته وحين قالت: آلو قاطعها صارخاً: اصبري.. اصبري لحظة.. ثم هدأ صوته، وقال: كان على (السبيكر).. نعم.. وش عندكم؟ كان كل شيء قد تسرب.. وبهت.. وعلى صدى صوته وهو يكرر سبيت سبيت.. سب..ي.. أغلقت الهاتف وأيقنت أنها تغلق صنبور الحياة عن قلبها إلى الأبد.
قلبها الفاتر.. الذي نسي الحب وضجيجه.. قالت: تباً لعقول النساء.. هل ظننت بالرماد خيرا؟؟ هل من بعث جديد؟ هل من حياة تدب في الرمس المعفى؟
تنظر إلى هذا الشماغ المعلق على شماعة بجانب السرير.. ببلادة متناهية وكأنه لا يعنيها الآن.. وكأنها لم تحاول قبل قليل محادثة صاحبه ودعوته ليحتفل معها.. فجأة.. تعود تلك المرأة التي تشبه آلاف النساء تقبل بالرتيب والمكرور وترضى من الحياة بلقب زوجة فلان وأم فلان.. والشماغ الذي يتركه صاحبه بجوارها كل مساء..
ليس بينها وبينه أي رائحة حياة..
أو رمق من تشابه.. أو التقاء..
مرت السنوات وهي لا تدري كيف تخرج؟ والمفازات تنأى والعطش يتوغل..
..كيف تهرب وقد.. اختارته وتحدت المعارضين وحبست الشكوى خشية الشامتين ومضت تحمل جرحها الغائر.. تغالب حبها القديم وخيبتها الجديدة..
بدت الأيام متشابهة.. متماثلة.. تلملم فيها نثار حزنها الدفين..
تعمل وتحبل وتنجب.. والأطفال يكبرون.. والزمن يمضي لا يعنيه إن كنا سعداء أو تعساء.. هكذا قالت لها صديقتها التي تشبهها الآن كثيراً.. ستعود التفاصيل المملة.. إيقاظ الأطفال وزحام الطرقات والسائق وتبغه الرديء والحياة التي تعبر دون أن تلوح بلون وردة..
وينتظم قلبها بالعادي والمكرور.. ويتخذ شكل ساعة عتيقة ينحبس فيها الزمن الرتيب..
لا شيء مختلف.. لا شيء يحمل وتيرة جديدة.. ولا سحابة تعد بالمطر.. حتى هذا الشماغ المعلق بجوارها كل مساء لا يشي بأي شيء.. يتركها بين بين.. تنظر إليه فلا تراه وتتعثر به كلما راودها الفرار.. لا يهيل التراب على قلبها المجروح فيئده إلى الأبد..
ولا يذر الملح على الجرح فيشعله ويوجعه حتى يصرخ.. فيوقظ النائمين..!
****
مخاض
- ماذا تريدين؟
- سأوقظ الشغالة..
- لا لا دعيها.. ينتظرها غد متعب.. اقرأي الورد عليهم.. سيكونون في حفظ الله.
- تحب حنانه.. هدوءه.. نظارته.. غترته التي يسدلها على جانبي وجهه حين يكون قلقا.. مثلما هو الآن..
حمل حقيبة الولادة التي حفظ مكانها منذ شهر..
أمسكها بيده اليمنى وأحاط كتفيها بيده اليسرى..
- قولي : بسم الله كررها كثيراً وهي تنزل الدرج وتركب السيارة وأنينها يعلو تباعاً.. تبتلع نصف ضراوته في جوفها من أجل قلبه الرقيق.
قال لها بعد ولادة ابنهما الثاني (...خ.. لا... ص... بطلنا... لو تدرين كيف كان البيت من غيرك..)
الألم يشتعل في جانبيها وأسفل ظهرها..
- ما عليك.. وصلنا.. كلها دقائ.. ما هذا؟ الطريق (مسكر).. ماذا يحدث؟ كل الجهات. مغلقة. أنزل النافذة.. قال: حالة ولادة.. لابد أن نمر..
- أبداً لا يمكن اخرج حالا.. انجُ بأهلك.. هنا مسرح عمليات.. أرجع.. اخلص يا ولد.. صرف نفسك بعيداً عن هنا.. خطر.. قالها وهو يمضي..
تتداخل عبارات الضابط الحازمة والمشوبة بخوف.. خوف غريب لا يدري.. لا يدري.. لماذا ارتبك له..
- لنعد.. لنعد.. إلى أبنائنا.. سأكون بخير..
- ماذا؟ نعود؟ والولادة..؟ سذهب.. من خلف الأحياء.. الطريق أطول لكنه أأمن.. لا تخاف كل شيء سيكون جيداً.. حاول إخفاء ارتباكه.
تعرفه إذا زاد قلقه يكرر تثبيت النظارة على أنفه كثيراً.. اختلط كل شيء أمامها الآن.. حبها له والطفلين والألم الضاج بضراوة في أسفل ظهرها.. ووجوه رجال الأمن المتحفزين.
علا أنينها.. وتعالت صرخاتها.. - يا رب يا رب.. تنظر إليه وهو يضرب بيده المقود فتمد يدها باتجاهه.. ضغطت بقوة على يده المتعب وعلا صراخها.. يا.. رب
عند باب طوارئ المستشفى هرع راكضا.. كان الزحام شديداً.. ورائحة الدم الساخن تملأ المكان والكل مذهول ويركض..
أراد أن يستوقف أحدا.. يطلب كرسيا.. سريرا.. لكن لا أحد يتوقف.. الجرحى يتوافدون والأنين يعلو.. والدم المبعثر في الممرات يدفعه إلى الصراخ.. وسط الراكضين
- زوجتي تلد.. تلد إنها تموت الآن.. لا تدعوها تموت.. إنها تلد..
انهار باكيا والجرحى على النقالات يعبرونه.. ويتركون دماءهم ساخنة على أرضيات الممرات..
يتجه نحوها.. وصراخ يعلو في الداخل شهيد شهيد - بإذن الله -.. لأول مرة لا يرد على أسئلتها.. يساعدها مع الممرضة على الجلوس على الكرسي المتحرك.. تعبر الممر يعلو صراخها.. ويذهلها الألم وتترك مثل العابرين بعض الدماء على أرضية الممر..
تهدأ زوجته وتصرخ ابنته سريعا صرخة الحياة خلف ستارة أول سرير في الإسعاف..
ويعلو أنين جريح جديد قادم للتو.. يتفرسه جيدا إنه هو.. الضابط الحازم الحاني الذي قال له قبل دقائق: انج بنفسك وأهلك.. وعد من هذا الطريق..
اقترب منه اكثر كان يريد أن يسمع آخر الكلمات التي ممكن أن يتفوه بها شهيد
سمعه من بين النزف والاثنين يقول: (شنطة فلة) إنها في سيارتي.. دعو حياة تفرح بها قبل أن تبكي.. قبل أن تعلم انهم حرموها مني إلى الأبد.. قولوا لها..
إنه يغادر لتعيش هي.. يكفيه أن يترك لها وطنا بلا أفاع أو جحور.. دعوها تفرح الفرح الأخير.. وتعرف أنني لا أنسى طلباتها إلى آخر لحظة.. دعوها تفرح.. ثم غاب عنه في لجة الألم.. وسريره يندفع سريعا نحو العناية المركزة..
وفي المساء ظهرت صورة الضابط أمامه.. في نشرة الأخبار.. يبتسم للكاميرا مع طفلته التي لن يحملها مرة أخرى.. لن يراها حين تحمل شنطة فلة قبل أن تبكي..
لن يراها وهي في طريقها الآمن نحو مدرستها.. لن يراها.. وهي تضرب له سلاما حين يعود وتغنى له نشيد الوطن الذي حفظته لتوها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved