الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th October,2005 العدد : 126

الأثنين 7 ,رمضان 1426

تأسيس الذاكرة
قاسم حول *

نحن أمة كتب عليها عدم الاستقرار، فأصبحنا أمماً. وهذا هو واقع الحال، فعلينا أن لا نزعل كثيراً، بل أن نبني هذه الأمم بشكل منفرد منطلقين من الظروف الموضوعية لكل بلد من بلدان المنطقة. وإذا كان ثمة ما يجمع هذه الأمم هو غياب الذاكرة. ويشكِّل تأسيس الذاكرة سياج الحماية لأية أمة من الأمم ولأي بلد من البلدان سيما في مرحلة العولمة المعاصرة ووسائل انتشارها وتأثيرها.
تأسيس الذاكرة ينبغي أن يبنى على أسس هندسية ثقافية محسوبة أكثر من الأبنية العملاقة والجسور المعلَّقة عبر المحيطات. فانهيار جسر ما يصار إلى إعادة بنائه ولكن احتراق مخطوطة يعود تأريخها لفترة بزوغ الإسلام لا يمكن إعادة الحياة لها ثانية.
وتأسيس الذاكرة للشعوب ليست مسألة حفظ وثائقي فحسب، بل هي برمجة قائمة ليس فقط على مبدأ الحفظ، بل على مبدأ العلاقة بين الماضي والحاضر لكي يبني الجيل حاضره ومستقبله على أسس مجذرة تمتد عميقاً في التاريخ البعيد والقريب.
وتتبنى وزارات الثقافة في البلدان المتحضرة فكرة تأسيس الذاكرة وتضع الأسس المادية لهذه الذاكرة عبر لجان متخصصة في شتى المجالات.
فوزارات الثقافة في البلدان غير الشمولية تدعم الثقافة ولا تنتجها ولكن تأسيس الذاكرة يقع في أولويات مسؤولياتها الثقافية والحضارية، ولذا فإن بعض البلدان تطلق على هذه الوزارات اسم (وزراة الثقافة والحضارة)، فالجانب الحضاري يتمثَّل في تأسيس الذاكرة كبناء المتاحف بطريقة نظامية وتأسيس بنوك الصورة الثابتة والمتحركة وبنوك حفظ الوثيقة المخطوطة.
ولقد عمدت بعض البلدان في بناء هذه البنوك على شكل كهوف متباعدة نسبياً بطريقة أفقية بجدران سميكة يصل سمكها متراً بوسائل تبريد درجة حرارتها ثابتة 16 مئوية مزودة بأجهزة امتصاص للرطوبة.
وفكرة البنوك الصغيرة والمتباعدة والأفقية هي وسيلة من وسائل الأمان ضد الحرائق والتخريب، ذلك أن وضع الوثيقة وتأسيس الذاكرة في بناية واحدة هي عملية خطيرة لا ينصح الخبراء بها، وحيث يتم اختيار المكان بالأساس في المنطقة الجافة من البلاد بعيداً عن المناطق الرطبة القريبة من البحار وتكون عادة معزولة عن مواقع السكن، وتعتبر من المواقع المحظور التجول حولها وتتمتع بحماية دولية، حيث يرفع عليها علم خاص يشير إلى خضوعها للحماية أثناء الحروب وفترات الاحتلال بموجب قوانين الأمم المتحدة ومعاهدات جنيف، ولكن هذه القوانين لم تحم الذاكرة الكويتية من غزو الدكتاتور العراقي للكويت ولم تحم الذاكرة العراقية من غزو قوات الاحتلال للعراق إبان فترة الإطاحة بنظام الدكتاتور العراقي، فتم نهب الوثائق والمخطوطات الكويتية من قبل قوات الدكتاتور العراقي وتم إحراق الوثائق العراقية وفتح أبواب المتاحف لنهبها إبان سقوط الدكتاتور العراقي. كما أن إسرائيل قد أدينت عام 1982 عندما غزت بيروت واستولت على وثائق مركز الأبحاث الفلسطيني.
الآثار التي تسرق قد تعاد يوماً والوثائق المخطوطة التي تسرق قد تعاد يوماً ولكن المأساة تكمن في الوثيقة التي تُحرق كما حصل في العراق أو في الآثار التي يتم هرسها ليحوّلها الجنود إلى متاريس لحماية مواقعهم كما حصل في مدينة بابل في العراق!
يقول البعض الحمد لله أن آثارنا موجودة في متاحف الغرب وليست عندنا، لأنها قد تتلف أو تسرق أو تتعرض للكسر والتلف بسبب عدم الاستقرار في المنطقة ووقوعها في اضطرابات مستمرة، ولو كانت مخطوطات بغداد موجودة في متاحف الغرب لما تحول نهر دجلة إلى مياه زرقاء بسبب حبر المخطوطات التي ألقاها جنود هولاكو في نهر دجلة خلال غزوهم التتري لبغداد.
نتوقف هنا أمام فقدان الذاكرة المعاصرة أو محاولة بعثرة هذه الذاكرة أو إتلافها بوعي منَّا أو دون وعي. لا بد قبل الحديث عن تأسيس الذاكرة المعاصرة أن ندرك أن التقنية الحديثة توفر لتأسيس الذاكرة فرصاً نموذجية، على البلدان العربية أو كل بلد على انفراد في هذه البقعة المضطربة التي يطلق عليها العالم الثالث أو مجاملة الشرق أوسطية كمصطلح جغرافي، أن تستفيد من التقنية الحديثة في بناء سياج ذاكرتها على أسس علمية رصينة، فلقد وفرت هذه الأسس فرصة الاقتصاد في المكان وفرصة التقليل من الخسائر المحتملة وفرصة الاستنساخ وفرصة الترميم وفرصة إطالة عمر الوثيقة والأثر بشكل لا محدود من خلال إعادة الاستنساخ كل مائة عام وفرصة التحول نحو أية تقنية أصغر حجماً وأكثر فاعلية، ولكن كل ذلك رهين بالمخطط العلمي الذي يؤسس لهذه الذاكرة.
ليس من السهل جمع ذاكرة الشعوب بكل تفاصيلها تلك التي تسجلها الوسائل السمعبصرية، فالتأريخ أصبح ملكاً صرفاً لمحطات التلفزة ووكالات الأنباء المصورة، لكن كل هذا التأريخ قابل للتلف في لحظة جنون أو غضب طبيعي أو حريق مفتعل أو غير مفتعل، لذا تعمد بعض المؤسسات الإعلامية إلى تلخيص أحداث العام في شريط سمعبصري، ولكن تغلب عليه الصفة التجارية وليست الوثائقية. وهنا تأتي مهمة المؤسسات الثقافية الرسمية (وزارة الثقافة والحضارة) لتقوم بعمل أشرطة وثائقية كل عام تسجل فيها أهم المحطات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية خلال عام من عمرها، كما تسجل تأريخ قادتها وملوكها وأمرائها منذ لحظة ولادتهم حتى رحيلهم متضمنة أهم المحطات والإنجازات والكتابات والوثائق المدونة والوثائق الصوتية، ويشمل تأسيس الذاكرة الرموز الثقافية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية لذلك البلد. كما يشمل تأسيس الذاكرة قراءة ومشاهدة الماضي.
إن الجيل الجديد الذي خبر التقنية وولد معها وعرف أسرارها وصار يبدع في استخدامها، وكثير من عقول الشباب العربي والمسلم أضافت للتقنية اختراعات وبرمجة جديدة في علم وفن الكومبيوتر والذاكرة، ولكن ما لا يعرفه الجيل هو فكرة الذاكرة وأسسها العلمية والحضارية وهندستها، وهنا تأتي مهمة الجيل المفكر الذي يخطط ويرسم ويهندس أسس تأسيس الذاكرة.
لم تعد فكرة الأشرطة المغناطيسية ولا حتى السليلودية تصلح لذاكرة الشعوب بعد ظهور شريحة اللايزر. فالشريط المغناطيسي هو أكثر المواد تأثراً بالحرارة والبرودة والرطوبة ما يؤدي إلى تفكك أجزائه وظهور الخطوط الأفقية الفارغة في الصورة.
أما أشرطة السينما القديمة السليلودية فإنها اهتراء هذه الطبقة على الشريط الحساس هي سريعة وترميمها ليس اقتصادياً، حيث منذ زمن طويل تقوم أوربا بترميم وثائقها المصورة على الأشرطة الفيلمية ولا تزال وتم توزيعها على عدد من ستوديوهات السينما لترميم تلك الوثائق وذلك بسبب صعوبة مهمة الترميم السينمائية.
يقوم مبدأ تأسيس الذاكرة على أساسين، الأول أساس الأرشفة والثاني الأساس المعرفي في إيصال المعلومة بشكل مدروس إلى المتلقي والباحث، ولذا فإن مناطق الأرشفة وقوانينها هي غير مراكز تقديم المعلومات وعرض الوثائق ووضعها تحت تصرف الباحثين والطلبة والصحافة. ولكن مبدأ الموقعين له هندسته وأسسه النظامية.
إن مبدأ تأسيس الذاكرة ينبغي أن يقدم كدرس ضمن دروس التأريخ وكنهج تربوي وتقديمه درساً للطلبة، وبمعرفته يصار إلى ربط علاقة الماضي بالحاضر أولاً، ومن ثم تكوين شخصية الطالب كشخصية متحضرة في الحياة الاجتماعية العائلية التي بمعرفتة لهذا المنهج يصار إلى تأسيس ذاكرة العائلة النواة الأولى والأساسية للمجتمع.
الاستقرار مبدأ أساس من مبادئ تأسيس ذاكرة الشعوب والمجتمعات والدول وعدم الاستقرار يؤدي إلى خراب الذاكرة وإتلافها، ولذا فإن ما يخطط للمنطقة من عدم الاستقرار هو سبب يضاف إلى العامل الاقتصادي لكي تبقى شعوب المنطقة وبلدانها بدون ذاكرة وذلك يعني بالضرورة أن تعيش هذه الشعوب بدون هوية بدون ملامح ترسم شخصيتها، فيما يعمد الغرب وبالذات الغرب الأوربي الذي تمتد ذاكرته لفترة قريبة إلى تأسيس ذاكرته وترميم ما تلف جزئيا من ذاكرة الماضي، فيما ذاكرة العرب والمسلمين تمتد عميقاً في التاريخ، ثرية بالحكايات والأساطير والميثولوجيا وبالنصوص الأدبية والشعرية وبالمخيلة الفانتازية ذات المعاني الساحرة..
كل هذه الحكايات والقصص تتحول إلى أعمال مرئية ومسموعة تصطف إلى جانب التأريخ لتشكل بمجموعها ذاكرة الشعوب.
مطلوب أن نبقى شعوباً دونما ذاكرة ومطلوب أن لا نعيش حالة من الاستقرار؛
لأن الاستقرار يقود إلى تأسيس الذاكرة. وتأسيس الذاكرة يقود إلى وعي حالة الاستقرار.
العلاقة جدلية بين الاستقرار والذاكرة. ومطلوب إتلاف هذه العلاقة الجدلية.
فمتى تصحو شعوب المنطقة وحكوماتها لتبدأ الخطوة العملية والعلمية في تأسيس ذاكرتها؟!


* مخرج سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved