الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th October,2005 العدد : 126

الأثنين 7 ,رمضان 1426

الصورة الشعرية عند عبدالله الجشي«1-2»
د. عبدالرحمن السماعيل

حينما يشرع الباحث في الكتابة عن علم من الأعلام فإنه يقف حائراً في البداية، لأنه يقف أمام كم هائل من الدراسات والأبحاث التي لم تترك شيئاً يمكن أن يقدمه أي باحث جديد، وهذه هي قصتي مع الشاعر الكبير عبدالله الجشي، الذي مثل في حياته منذ الصغر قول المتنبي ملخصاً معنى الحياة في جزء من اهتماماته:
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداولُ سمع المرء أنمله العشر
فمن القطيف إلى النجف إلى لبنان وأوروبا وهو ينثر في كل مكان يحل فيه درره الشعرية حتى لترى في دواوينه أشهر مدن العالم مما يمكن معه أن نسميه الشاعر الرحالة.
حين قرأت شعره استطعت أن اكتشف الهم الأول في نفس هذا الشاعر، رأيت ذلك في كلماته وفي موضوعات قصائده وعناوينها، فالقارئ المتمعن لا يمكن أن يخطئ الهمَّ الوطني الذي يشكل محور اهتماماته، همّ الأرض الذي حملها في نفسه، وابن هذه الأرض الذي أصبح هاجسه الأول.
انظر إلى ملحمته الشعرية الكبرى التي بناها على عشرين نشيداً وسماها (شراع على السراب) وعرّفها بقوله: (ملحمة تروي قصة الإنسان الذي عاش على شواطئ الخليج العربي قبل أن يغير انبثاق الزيت معالم الحياة).
أدركت حين قرأت شعره أن الحيز الزمني المحدد لي من قِبل إدارة المهرجان لا يكفي لإعطاء فكرة عن قدرات هذا الشاعر وميادين شعره، وبما أنه لا بد من الالتزام بالوقت المحدد فقد اضمرت في نفسي نية التفرغ لهذا الشاعر لدراسته دراسة تليق بمكانته وتعريف القراء به بصفته أحد الرموز الثقافية في بلادنا الذي ابتعد عن الأنظار ردحاً من الزمن فغاب إلى حد كبير عن ذاكرة القراء، وعن ساحاتنا الأدبية التي برز فيها إنتاج هجين لا يستحق أن يسمى أدباً أو شعراً.. وأثره في إفساد الذائقة الأدبية لدى شبابنا لا يمكن أن يخطئه الناقد المتابع.
حين قرأت قصائد شاعرنا عبدالله الجشي انفتحت أمامي أبواب كثيرة يمكن أن يدخل منها أي دارس لهذا الإنتاج الغزير لهذا الشاعر المبدع، فعجبت من قلة ما كتب عنه، على الرغم من كثرة الدراسات الفردية والدراسات الأكاديمية التي تناولت شعراء المملكة في جامعاتنا.
ونظراً لكون هذا اللقاء لقاءً تكريمياً خصص له وقت قصير، فقد رأيت أن ألقي بعض الضوء على جانبٍ من تجربته الشعرية بين الرومانسية والكلاسيكية وما نتج عنها من صور شعرية جميلة اختزنتها ذاكرته من قراءاته الواسعة في التراث واطلاعه الواسع على مسيرة الشعر الحديث ورحلاته الكثيرة.
ولن يكون كلامي هنا كلام الناقد المتعمق الذي يمكن أن يحاسب على منهجه وأدواته، فالوقت المخصص لكل متحدث لا يسمح بأكثر مما سوف أقدمه في هذه الإضاءة القصيرة عاقداً العزم -إن شاء الله- على أن أخصص له دراسة تلم بأبرز ملامح تجربته الشعرية في مستقبل الأيام.. وما هذه الوقفة القصيرة إلا مشاركة بسيطة في تكريم هذا الشاعر الكبير الذي يجب أن يأخذ مكانته بين شعراء المملكة ما دام يعيش بيننا ولديه هامش بسيط للفرح والسعادة بالتقدير والتكريم. وإنني أحيي القائمين على هذا المهرجان الذين سنوا هذه السنة الحميدة بتكريم الأحياء من رموزنا الثقافية ما داموا يمتلكون القدرة على الفرحة والإحساس بالسعادة بتكريمهم، ولا أدل على ذلك من الفرحة التي غمرت شاعرنا عبدالله الجشي واسعدت أسرته حين عرف أنه سوف يكرم في هذا المهرجان بصفته أحد أعلام الثقافة والشعر في المملكة، فقد قال في مقابلة مع جريدة عكاظ بعد إعلان خبر تكريمه إن هذه الدعوة كان لها وقع خاص على نفسي وعلى أسرتي وأحمد الله أنه تم تكريمي وأنا على قيد الحياة.
من استعراض حياة هذا الرجل ندرك المصادر المتنوعة لثقافته، فقد رافق والده إلى النجف كما ذكر في مقابلة مع جريدة عكاظ الصادرة يوم 14-9-1425هـ فدرس هناك قواعد اللغة والمنطق والفقه والأصول والبلاغة العربية ثم تفرغ للأدب والتاريخ وأقام في النجف مدة تزيد على اثني عشر عاماً ثم رجع إلى القطيف وأقام مدة عاد بعدها إلى العراق عام 1970هـ وأقام ثلاثة وعشرين عاماً. وقد قال عن نفسه في بداية عهده بالكتابة (كنت منذ طفولتي أقوم بالتأمل أمام ما يقع تحت نظري أو يواجهني في دروب الحياة ومراحل العمر فأرضخ ذلك لرؤيتي وتقديراتي محاولاً أن يكون لي رأي متأثراً في دواخلي إلى درجة أن بعض التداعيات والمواقف التي واجهتني ما زالت صورها راسخة في أعماقي سلباً أو إيجاباً وتدرجت معي هذه الأحاسيس ما جعلني أعبّر عنها بشكلٍ أو بآخر).
في العراق التقى بعددٍ كبيرٍ من الأدباء والشعراء المشاهير في ذلك الوقت فتأثر بهم وتشكل اتجاهه الشعري المستقل بعد أن استوى عوده في الشعر والثقافة حتى أصبحنا نرى في شعره امتزاج القديم مع الحديث والرومانسي بالكلاسيكي بطريقة تنم عن شاعرية فذة وقدرة قلما نجدها عند شاعر آخر وهذا ما سوف نحاول في هذه الإطلالة السريعة أن نتتبع ملامحها في شعره.
تتنوع الصور الشعرية في شعر الجشي بتلون حياته وأحاسيسه فهي تمثل المعادل الذي يراه الشاعر مناسباً لما تعكسه الحياة ومتغيراتها في نفسه وخياله، وهي تتألف كما يقول عبدالقادر الرباعي (من حدين أساسيين، أحدهما حاضر ماثل أمام الشاعر يريد وصفه، وثانيهما مختزن في الداخل يماثله أو يضاده) ويقول أيضاً حول الصورة الشعرية ومراحل تكونها في نفس الشاعر إن ذات الشاعر تنظر عادة إلى الموضوع بود أو بكره وتختزنه بالذاكرة مصحوباً بهذا الإحساس أو ذاك حتى إذا صادقت موقفاً انفعالياً مماثلاً أو مخالفاً قرعت باب الذاكرة لتولد من جديد أو تتشكل في صورٍ موحية، وهكذا يصبح الموضوع الواحد معيناً تتشكل فيه أعداد هائلة من الصور.
وأي مفهوم للصورة الشعرية، كما يقول الدكتور جابر عصفور، لا يمكن أن يقوم إلا على أساس مكين مفهوم متماسك للخيال الشعري نفسه، فالصورة هي أداة الخيال ووسيلته ومادته التي يمارس بها ومن خلالها فاعليته، ونشاطه، وهذا هو التخييل الذي ركّز عليه الفلاسفة في حديثهم عن الوهم وهو مادة الخيال، فكلما اتسعت دائرة الخيال أصبحت الصورة أقرب إلى الوهم غير المتوقع فيكون تأثيرها على المتلقي أكبر وأقوى لأن الشعر يكون حينئذ يكون أعذب لأنه حقق المعيار الذي طالما ردده النقاد في مقولتهم الشهيرة (أعذب الشعر أكذبه).
يمكننا أن نقسم الصورة في شعر الجشي إلى صورتين بشكل مبدئي:
الأولى: الصورة الكلاسيكية، وأقصدُ بها الصورة التراثية المستقاة من قراءاته التراثية.
الثانية: الصورة الرومانسية، وأقصد بها الصورة الحديثة المستقاة من قراءاته الحديثة.
وهاتان الصورتان مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً بالمرحلة العمرية التي أنتجت فيها، فمن تتبعنا لقصائد الشاعر رأينا الصورة الأولى تتجلى أكثر في مرحلة الشباب وهي المرحلة التي ما زالت القراءات التراثية تتحكم في ثقافة الشاعر فتنعكس في لغته وصوره وأخيلته.
أما في مراحله المتأخرة فينعتق الشاعر بشكلٍ واضح من سطوة اللغة التراثية والصورة التراثية، وتنزاح هذه تاركةً مكانها للغة رومانسية شفافة، وسأورد أمثلة على هاتين اللغتين من ديوان واحد فقط، لضيق الوقت، هو ديوانه (الحب للأرض والإنسان) الصادر عام 1419هـ.
وقد آثرت هذا الديوان دون غيره من دواوينه الكثيرة لأنني وجدت فيه ما يخدم موضوع هذه الوقفة القصيرة من حيث تواريخ القصائد.
وقد أشار الشاعر في مقدمة هذا الديوان إلى أن (قصائد هذه المجموعة نظمت في فترات متباعدة وهي لذلك لا تخلو من التباين في الأفكار بسبب الظروف المختلفة التي مررت بها).
لن أقف في هذه الإضاءة عند عناوين القصائد ودلالاتها الكلاسيكية أو الرومانسية، فالعنوان في القصيدة العربية اتجاه محدث عرفته القصيدة العربية في العصر الحديث ولكن سوف أدخل إلى مضمون القصيدة متتبعاً ما فيها من صور ومفردات حملت تلك الصور تسربت إليها من أجواء القصيدة العربية القديمة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved