الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th October,2005 العدد : 126

الأثنين 7 ,رمضان 1426

الأصالة
1- مهاد المفهوم: اللغة- التاريخ- الإيديولوجيا
د. صالح زيَّاد

برز مفهوم (الأصالة) في الثقافة العربية الحديثة، بوصفه إشكالية خصوص وامتياز على كافة مستويات الوجود العربي والإسلامي - تقريباً - ومن ثم بوصفه قيمة في حد ذاتها، تحيل إلى الذات، بإطلاق، التي تغدو، هكذا، ذاتاً مجردة من الواقع، وخالصة من الهجنة والالتباس، ونافية لغيرها... كأنها ذات منتهية في الزمن، ومغلقة بحدود مكانية صارمة!!.
ويبدو المعنى اللغوي ل(الأصالة) في المعجم اللغوي مصدر الإمداد لحمولتها الاصطلاحية التي دارت بها على ألسنة وأقلام الأدباء والمفكرين والساسة ودعاة النهضة والإصلاح بمختلف الاتجاهات. فعلى الرغم من ذكر معاجم اللغة العربية معاني عدة ل(الأصالة) فإن العين لا تخطئ الاكتشاف للبؤرة التي تجتمع تلك المعاني عليها وتتفرع منها، ومن ثم تضل جهات وسياقات التدليل بها، على اختلافها، وأحياناً تضادها، ارجاعاً مستمراً لمعنى واحد، هو ما يضفي عليها صفة قيمية، بالمعنى الاجتماعي والثقافي؛ أي داعية للرغبة في ما تتصف أو تتصل به.
إن مفردة (الأصالة) في معاجم اللغة العربية، تدور حول معانٍ:
أ - الجودة والثبات والقوة.
ب- الابتكار والتميز.
ج- العراقة.
ففي لسان العرب: (رجل أصيل: ثابت الرأي عاقل). ونجد في تاج العروس:(أَصُل الرأي أصالة: جاد واستحكم... أَصِيْل الرأي: أي مُحْكَمه... الأصِيْلُ: من له أصْلٌ أي نَسَب. وقال أبو البقاء: هو المتمكن في أصْلِه... والأصْلُ: أسفل الشيء... ثم كثر حتى قيل أصْلُ كل شيء ما يستند وجودُ ذلك الشيء إليه... فالأب أَصْل للولد... وقال الراغب: أصل كل شيء قاعدته التي لو تُوهَّمت مرتفعة ارتفع بارتفاعها سائره... وقال غيره: الأصل ما يبُنْى عليه غيره). أما المعجم الوسيط فيذكر أن: (أَصُلَ - أصالةً ثبت وقوي والرأي: جاد واستحكم. و-الأسلوب كان مُبْتَكَراً متميزاً. و- النَّسَبُ: شَرُفَ. فهو أصيل.. وأصَّل الشيء: جعل له أصلاً ثابتاً يُبْنَى عليه... واستأصَل الشيء: ثَبَتَ أصله وقوي... والأصالة في الرأي: جودته. و- في الأسلوب: ابتكاره. و- في النَّسَب: عراقته).
وإذا أردنا أن نُحَلِّل هذه الدلالة، كما أملتها المعاجم، فسنجد أن تلك المعاني الثلاثة تتفق في اتصافها بالقيمية المعيارية؛ إذ هي صفات مدحية، والمدح بطبيعته، يقتضي الموازنة والمقايسة بين شيئين، ليعلو الممدوح في مقابل مُضْمَرٍ يُقَاس عليه علو الممدوح. كما أن فيه معنى العلو والارتفاع والتخصيص والانتخاب، ولذا تكون صفاته ذاتية داخلية، وليست حلَى خارجية تأتي وتذهب. وهذا يفضي بنا إلى اكتشاف صفة (الذاتية) كقاسم مشترك آخر لمعاني الأصالة، ذلك أن تغير معنى من تلك المعاني يؤدي إلى انهدام الصفة الممدوحة بالأصالة، أي إلى زوال الأصالة.
وهكذا نجد أن كلا الصفتين اللتين تشترك معاني الأصالة، لغوياً، في الاتصاف بهما، وهما الذاتية والقيمة المعيارية، يفضيان إلى التشارك في دلالة قوامها: الثبات، أي الجوهر القار في العمق أو الكل المتحد، وتصبح معاني الأصالة كيفيات مخصوصة للثبات تختلف باختلاف الموصوفات، ولكنها متحدة في وسم الموصوف بذاتية مطلقة لا تقبل غيرها.
ولن نجد (الأصالة) بوصفها مصطلحاً متداولاً في السياق الثقافي والاجتماعي، إجمالاً، وفي السياق النقدي الفني والأدبي، تحديداً، في أدبيات تراثنا القديم، بل لا نجدها عند مفكري النهضة ومدارس التجديد في الأدب العربي منذ مطلع العصر الحديث وإلى نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين. يقول شكري عياد: (يُخَيَّل إلى أن كلمة (الأصالة) إنما شاع استعمالها منذ الأربعينات، وإن كنت لا أملك إحصاءً لدورانها، كما أن اصطلاح التجديد قد شاع بين العشرينات والأربعينات).
ولا بد أن ظهور مفردة الأصالة -إذن- كان محكوماً بوعي ما بمستجدات ثقافية واجتماعية، كما كان تدليلاً على موقف محدد تجاهها، أو تقويم لها. غير أن من الصعوبة بمكان أن نحدد نقطة تاريخية بعينها، وبخاصة أن النصف الأول من القرن العشرين حافل بأحداث عالمية وعربية متلاحقة، ومن ثم ينبغي أن نتصور المخاض الذي تبلور منه وعنه الوعي المستجد في شكل موقف وتقويم، في مهيع الاتجاهات الفنية والفكرية والسياسية الإيديولوجية، التي ابتدأت في تلك الفترة.
وأعتقد، هنا، أن علينا أن نتذكر، بشكل خاص، بروز التيارين: القومي (الثورة العربية الكبرى 1916م) والإسلامي (تأسيس جماعة الإخوان المسلمين 1928م)، والاستقطاب الحاد بين المعسكرين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والغربي بقيادة الولايات المتحدة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1932م) وتبلور الفكر التحرري الوطني عبر تصاعد حركات الاستقلال في العالم العربي، بالإضافة إلى نكبة فلسطين (1948م) وتزايد وطأة الحس بالواقع الاستهلاكي الذي نشأ عن واقع استلابي مؤلم استحالت فيه الرقعة العربية والإسلامية إلى سوق لالتهام المنتوج الأجنبي، ابتداءً من المصنوعات المادية البسيطة، ومروراً بالنظريات والأفكار والمناهج المعرفية والتقنية المعقدة.
وذلك كلّه دونما انفصال عن حركات البعث والتجديد الشعري والأدبي التي توالت وتزامنت في تلك الحقبة، والعديد من الأفكار المعرفية الإنسانية خاصة أفكار اللاشعور الجمعي لكارل يونج (- 1961م) التي احتفت بذاكرة النوع أو العرق ذات الجاذبية للمعتقدات العرقية والقومية، وأفكار النقد التعبيري والجديد حول الإبداع والتفرد والذاتية، والمضي بهذه التصورات إلى مستويات معززة لحضور الفردية.
فمناخ، كهذا، تولده وتتولد به إيديولوجيا الخصوص والامتياز، ومن ثم يمكن أن نلحظ أن الوعي، هنا، لن يكون - إلى حد كبير - وعياً معرفياً استكشافياً بقدر ما يغدو وعياً إيديولوجياً، أي إنه أفكار جاهزة وغير متصلة بالتجربة. هو هكذا محتوى شعاراتي، من ذلك الصنف الذي يُملي ويُفرض من علو، وقد أتُخم بمفردات عديدة، من بينها مفردة (الأصالة) التي جاءت بحكم مساقها الإيديولوجي ذاك، مطلقة ومن ثم عاطفية وحالمة!!.
وعلى ذلك، تبدو (الأصالة) من الوجهة الاصطلاحية، مربكة وغير مستقرة الدلالة من جهة، أو أنها، من جهة أخرى، تحيل إلى هلام وغموض يجافي التبلور الموضوعي والحدود الجامعة المانعة التي يشرط بها المصطلح مدلول مفرداته. وآية ذلك أن ما يتصف بالأصالة أدبياً أو فكرياً أو اجتماعياً عند قوم، هو موصوف التقليد والمحاكاة ومن ثم النفي للأصالة عند آخرين، وما يُنظَر إليه بوصفه ابتكاراً أو تفرداً في لحظة، يغدو من زاوية نظرية مقابلة إحالة إلى باطن عميق مشترك لا يكفل له القيمة إلا مدى كشفه عن هذه الجمعية التي توهَّمنا الفردية فيها.


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved