الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th October,2005 العدد : 126

الأثنين 7 ,رمضان 1426

المدينة الثقافية (3)
(سوق من أسواق العرب)
د. سلطان القحطاني

تحدثت في الحلقة السابقة عن المدينة الثقافية التي نادى بها الأستاذ الكريم محمد عبدالله بودي، من خلال كتاباته وحديثه في الإذاعة في برنامج أبعاد ثقافية، ولما لهذه المدينة من أهمية التي تعتبر مكملة لبرنامج العواصم الثقافية، وجدت أن هناك الموروث الثقافي في بلادنا الذي بإمكانه أن يعزز من مكانة هذه المدن، من ناحيتين: الأولى، أنه موروث عربي أصيل، ظهرت من خلاله العديد من الأفكار والرؤى، فيما يتعلق باللغة والفكر والأدب والتجارة....، ومن ناحية أخرى يقرب بين الثقافات المحلية في هذه البلاد المترامية الأطراف، الذي كان حلم كل عربي غيور على وحدتها، حتى أراد الله - تعالى - لها الوحدة على يد القائد المظفر، الملك عبدالعزيز، ولم يكن الأمر قد غاب عن الأدباء والشعراء في عهده، فقد عبّر الكثير منهم عن هذه الوحدة، فقال محمد بن عثيمين:
(خبيئة الله في ذا العصر أظهرها
فللمهيمن في تأخيرها شأن)
نعم، وحدها عبدالعزيز، في جغرافية متشابهة، ومختلفة في بعض الأحيان، وهذه تركيبتها منذ أن خلقها الله، تتفق في أشياء وتختلف في أشياء أخرى.. إنها الجزيرة العربية، وهذه الاختلافات ليست بالاختلافات الكلية، بل في بعض الأجزاء، وهذه الاختلافات ميزة لها وليست عيباً فيها، فهي بلاد متعددة الصفات في المناخ والتضاريس الجبلية والسهول، وفيها أمان للصناعة وأخرى للزراعة، بين صحراء وبحر ومرتفعات وأودية...، وقد تنبه القدماء إلى هذه الميزات واستغلوها أحسن استغلال، بما يتناسب مع أوضاعهم الاجتماعية والفكرية والتجارية، فأقاموا فيها الأسواق العامة، متنقلين بتجاراتهم بين أجزائها، من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق، أسواقا ليست بالمفهوم التجاري العلومي اليوم، بل أسواقا جمعت بين الثقافة والأدب والتجارة، تدارس العرب فيها اللغة والفكر، وتمازجت الأفكار وولت لغة عربية جديدة حملها الإسلام إلى كل قطر وصل إليه، واحتفظ البعض بلهجاتهم الخاصة، ونتج عن هذا الامتزاج ثقافة التقارب، بفضل المناقشة والحوار المفتوح على الثقافة الثانية بدون قيود ولا مراقبة من أحد، وأثبت الباحثون والعلماء في الجزيرة العربية عدداً من الأسواق العربية، قبل الإسلام، وتوصلوا إلى ستة عشر سوقاً منها، كانت على أعلى مستوى من التنظيم والإدارة، تفوق في الكثير من الأحيان المنظمات التجارية الحالية في العالم، وما علينا اليوم إلا أن نستفيد من هذا الموروث العربي، الذي كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يرتاد واحداً منها ويدعو الناس فيه إلى الإسلام، ذلك كان في سوق عكاظ، فقد كانت هذه التجمعات التجارية - الثقافية مكاناً صالحاً لنشر الأفكار وتنمية الإبداع، من شعر وقصة وخطبة، ومناقشة فكرة جديدة.
وإني على يقين من أن المبدعين الشباب سيجدون فرصتهم سانحة في مثل هذه السواق، فالمعلقات العربية التي لا يزال العلماء والأدباء يناقشون الكثير من مفرداتها، ومعانيها، في الدراسات النقدية واللغوية والفكرية إلى اليوم، كانت وليدة سوق من هذه الأسواق، ولو لم يكن عكاظ لما عرف هذا الفن الراقي الذي استشهد به الدارسون والعلماء، وصار مثار جدل بين الدراسات الشرقية والغربية، واستعان به الشراح والمفسرون والبلاغيون والنقاد على مرّ العصور، وإلى اليوم يدور الجدل، ويكتشف الدارسون معنى من المعاني ومكاناً من الأمكنة، أو مفردة من مفردات اللغة، أو قراءة من القراءات قبل أن توحد في المصحف العثماني.
وإذا رجعنا إلى السبب الذي جعل عكاظ يأخذ هذه الشهرة في التاريخ لم نجده يأتي من باب التجارة، فقد كانت الأسواق التجارية التي تقع على السواحل البحرية أكبر منه شهرة وأكثر موارد، لكن اكتسب الشهرة من باب الثقافة أكثر من التجارة.. ولا يعني هذا القول أنه لم يكن ذا تجارة، لكن الفكر غلب على التجارة، فكان الأقرع بن حابس التميمي يحكّم في موضوع السياسة، والنابغة الذبياني يحكّم في مجال الأدب ويتقبل آراء النقاد، وليست قصة الخنساء - الشاعرة المكية من هوازن، مع حسان بن ثابت، الشاعر المدني القحطاني - عنا ببعيد، وليس مبرر حكم النابغة النقدي قد سلم من النقد، فقد اختلط في هذا السوق العديد من الشعراء من خارج مكة، وهذا دليل على أن اللغة العربية التي ظهرت قبل الإسلام، كمقدمة للغة التي سيتداولها الناس في إسلامهم ستكون القاسم المشترك لغة أدبية راقية مصفاة عن اللغات العربية المتداولة في الجزيرة العربية، وليست لغة قريش كما وَهِمَ الكثير من الباحثين في تاريخ اللغة العربية، فقريش امتزجت بغيرها من العرب، منذ أن دخلها الجرهميون، وهاجر إليها عدد ليس بالقليل من القبائل الجنوبية، فلم يذكر أن شاعراً رحل إلى مكة مادحاً أحداً منهم، بالرغم من الكرم الذي تميز به عبد بن جدعان التيمي القرشي، وقد مدحه شاعر واحد من الديار القريبة منه، ذلكم هو أمية بن أبي الصلت، وليس هنا مكان مناقشة هذا الموضوع؛ فله مجال آخر، ذكرته في كتابي (التيارات الفكرية وإشكالية المصطلح النقدي) الذي صدر عن نادي الطائف الأدبي هذا العام، ولا مجال للتكرار. وما أريد أن أقوله أننا بحاجة إلى أسواق على غرار السوق التي كانت تسمى (إيلافات) ومفردها إيلاف، وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم منها واحداً، قيل إنه هذا السوق، وليس ذكر هذا السوق أو الإيلاف تكريماً لقريش بل ذماً لهم على نكران النعمة التي أفاء الله بها عليهم، وهم {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام، بأن {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ}، ولا شك أن موقع مكة قد مكّنها من أن تكون في قلب العالم، ومكانتها معروفة منذ أن وضع فيها البيت العتيق، ومكنها قصي بن كلاب من ريادة العرب، كل هذه عوامل جعلت من مكة مكاناً مقدساً في كل العصور، لكن حديثنا منصب على التآلف في سوق ينظم في كل مكان كان يقام فيه - أو حوله - سوق من أسواق العرب، لتنشط الحياة الثقافية والتجارية من خلال هذه التجمعات، ولنا في الجنادرية التي تقام كل عام مثل جيد، وبصرف النظر عن برامجها المكررة، إلا أن الشباب التقوا بمن هم أكبر منهم سناً وتداولوا معهم العديد من الرؤى والأفكار واستفادوا من تجاربهم، فما أحوجنا اليوم إلى ربط الحاضر بالماضي والتقارب والالتحام، ونبذ الفرقة والتشرذم، والتقسيمات الممجوجة، والألقاب التي نهى الله عنها.. ونحن في جزيرتنا خليط من المذاهب والأعراق والثقافات التي تحتاج إلى مناقشات هادئة وحوارات مفيدة، وسأعطي ملخصاً في الحلقة القادمة عن هذه الأسواق، كما ذكرتها المصادر.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved