الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th October,2005 العدد : 126

الأثنين 7 ,رمضان 1426

ما دور المثقَّف في دول الخليج العربي؟
تركي علي الربيعو

في كتابه الحديث (الثقافة وإنتاج الديمقراطية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004م) يقوم الدكتور إبراهيم عبد الله غلوم في إطار بحثه عن (الثقافة في مجتمعات الخليج العربي.. تحديات الشراكة والثقافات المصغرة) بإعادة إنتاج التساؤل: ما دور المثقَّف، وبالأخص في مجتمعات الخليج العربي المحاصرة بين مطرقة الثقافة الرسمية التي قتلت روح الإبداع وأبعدت الأفكار الخلاقة كما يرى غلوم وبين الثقافات المصغرة والهامشية التي تدفع بدورها إلى مزيد من التهميش؟
قبل أن أدلف إلى الأروقة التي يقودنا إليها الدكتور غلوم في بحثه عن دور المثقف وعن هامشية المثقف في مجتمعات خليجية وعربية، إن كان لا بد من هذا التقسيم الإجرائي تزداد وتائر استهلاكها وهامشيتها يوماً بعد يوم، أودُّ أن أشير إلى تزاحم وكثرة الأسئلة التي تبحث في صور المثقف ودوره وتنتظر منه أن يشمر عن ساعديه كما يرتئي محمد أركون وأن يؤدي دوره في مجتمعات عربية إسلامية تزداد وتائر بلقنتها وتخلفها وهامشيتها أكثر من أي وقت مضى. وعلى مدى عدة عقود من القرن المنصرم ظلَّ التساؤل والبحث عن دور المثقف محايثاً ومضمراً في معظم المشروعات الثقافية التي تنطحت لتفسير الواقع أو تغييره. ففي كتابه (أزمة المثقفين العرب، 1974م) تساءل المفكر المغاربي عبد الله العروي عن الدور الإيجابي الذي يمكن للنخبة المثقفة العربية أن تلعبه في مجتمع عربي تقليدي، حيث يؤدي دور النخبة إلى عقلنة المجتمع العربي بكيفية شاملة ومسترسلة على حد تعبيره. وقد بنى العروي وكثير من المثقفين العرب آمالاً كبيرة على النخبة وعلى المثقف الثوري كما سماه العروي، وهو ما يتشكل بتأثير خارجي؛ أي خارج التراث، في تحديث المجتمع العربي وفي تحوله من التقليد إلى الحداثة.
كان المثقف الثوري، أو الثوري الواقعي كما نعته ياسين الحافظ في (الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة، 1978م)، قد صال وجال كما يقول المثل، ولكنه سرعان ما تاه في بحثه عن الطريق من خارج الغابة كما علق محمد عابد الجابري في (الخطاب العربي المعاصر، 1985م) في تشخيصه لعيوب المثقف الثوري الراديكالي الذي تاه في صحراء التيه الإيديولوجي، فأصبح شرطياً للأفكار وحارساً لإيديولوجيات عفا عليها الزمن كما جاء في نقد علي حرب ل(أوهام النخبة، 1998م) الذي راح يشمت بتيه المثقف الثوري وبأوهامه عن الثورة والحرية والوعي المطابق المستعارة بالجملة من إيديولوجيات حداثوية مؤدلجة عفا عليها الزمن وانهارت مع نهاية الألفية الثانية.
لم يكتفِ علي حرب وعبد الإله بلقزيز في (نهاية الداعية، 2000م) بإعلان إفلاس المثقف الثوري، بل ذهبا إلى أبعد من ذلك في تشكيكهما في جدوى المثقف المستعار بالجملة بدوره من الثقافة الفرنسية، وبالأخص من المثقف الفرنسي ريجيس دوبريه الذي راح مع نهاية الألفية يتساءل عن جدوى المثقف (ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً؟)، وما جدواه في عالم تزداد وتائر بلقنته يوماً بعد يوم؟
في هذا السياق العالمي والعربي الذي يبحث في دور المثقف أو الذي يشكِّك في جدواه يأتي تساؤل الدكتور غلوم عن دور المثقف في مجتمعات الخليج العربي، وعن المهمة الملقاة على عاتقه في فضح نسق الاستبداد داخل حقل الثقافة العربية ومقاومته.
التساؤل الذي يطرحه الدكتور غلوم هو تساؤل راهن، بمعنى أنه لا يشكك في جدوى المثقف، ولكنه يبحث له عن دور، صحيح أنه يعيب عليه السقوط في إغراءات المؤسسة الثقافية الرسمية، وهذه ليست حالة المثقف العربي في الخليج وحده، بل هي حالة عامة كما بيَّن إدوارد سعيد في (صور المثقف، 1996م)، ولكنه بتساؤله يأمل أن يصحو المثقف الخليجي على الحالة الراهنة التي تمر بها هذه المجتمعات والتي تتميز بغياب الثقافة الخلاقة المنتجة للديمقراطية وبانحسار القوة الباعثة لتشكيل الأفكار والتجارب الخلاقة.
في تشخيصه لعيوب المثقف يقف الدكتور غلوم عند موقفين متقابلين يؤديهما المثقف في مجتمعات الخليج العربي: الأول حين يكون المثقف داخل السلطة، والثاني حين يكون المثقف خارج السلطة. في الحالة الأولى يأتي دور المثقف إما بوصفه ابناً شرعياً للسلطة وأجهزة المؤسسة التي يعمل بها، وهو حينئذٍ يمارس الدور بخصوصيات الخطاب الثقافي التقليدي الذي درجت عليه المؤسسة الرسمية، وإما بوصفه منقطعاً ومتحولاً من الهامش (المعارضة) إلى المركز (السلطة)، وهو حينئذٍ كما يرى غلوم يمارس الدور بخصوصيات الخطاب الثقافي المنظِّر (الذي درج عليه) للمؤسسة الرسمية التي انتهى إليها. وفي الحالتين تتمثل ثغرة التحدي والضياع لمعاني الثقافة الخلاقة والمنتجة للديمقراطية ويصبح القاع الثقافي نهباً للحداثويات الزائفة والبلاغات التنظيرية المتضخمة التي يلهج بها مثقفو المؤسسات الرسمية الزائفة وغير النقدية التي تكشف عن عجز بالغ في مواجهة المشكلات والأزمات التي تمر بها بلدان الخليج العربي.
أما الحالة الثانية فهي حالة المثقف خارج المؤسسة والسلطة الذي يعبِّر عن نفسه بوصفه منتمياً إلى ثقافة موازية أو هامشية تحظى بعقلانية خاصة. ومن وجهة نظر غلوم فإن موضعة المثقف خارج مؤسسة الدولة تعني أنه في مجال المراقبة والمعاقبة، بمعنى أنه في مجال استراتيجيات العقاب والتعقب على حد تعبير غلوم من قبل أجهزة المؤسسة الرسمية أو أجهزة المثقفين المناوئين له في مواقع أخرى من الخطاب، فيضطر عندها إلى اعتماد استراتيجيات مناوئة؛ متخفية ومعلنة، تجعل منه قاتلاً ومقتولاً، وهذا ما يشل حركته والدور الذي يتطلع إليه.
في هذا السياق (المثقف خارج السلطة) يميز غلوم بين حالتين للمثقف: حالة المثقف المناوئ للسلطة الذي يتكشف خطابه عن ثغرات كبيرة وعن قراءات ذرائعية ومتناقضة في رؤيتها لأحداث الماضي والحاضر العالمي تكشف عن عمق الهوة الثقافية بين المثقف وما يجري من أحداث عالمية (الثورة الإيرانية، وحرب الخليج الثانية)، وعن فجائعية المثقف في رؤيته للأحداث بعد احتلال بغداد. أما الحالة الثانية فهي حالة تخرج من عباءة الحالة الأولى ونعثر عليها في صورة جديدة للمثقف من خارج المؤسسة. يقول غلوم: (خرج من معطف نموذج آخر موازٍ، وهو مثقف ذو تكوين ديني... أصولي، ولكنه يتعاطى الخطاب الحداثي فيلهج بمصطلحات نظرية من قبيل الألسنية والبنيوية والتفكيكية، ويقبل على شروح ونقول مجتزأة من هذه النظريات فينغمس في ترديدها في منابر الصحافة المحلية. ويثير خطاب مثل هذا النموذج أزمات مفتعلة حول القطيعة المعرفية والموقف من المحيط الثقافي السائد. لكن الأعقد من ذلك ما يشكله من مكر الخطاب وانتهازية الموقف.. فهو إن شاء أصولي من حيث الاستراتيجية، وإن شاء حداثي يأخذ بجديدات معرفية راهنة، وهو إن شاء مع المثقف أياً كانت صفوفه. وفي كل الأحوال فإن هذا النموذج غير مأمون الجانب.. إنه لا يجرؤ على خوض معارك عملية مع الواقع، وليست له إنجازات ثقافية ملموسة.. ويكاد يكون كمن يمارس وظيفته حسب الطلب (ص148).
إن نموذج (المثقف تحت الطلب) هو شاهد كما يرى غلوم، وكما يستنتج منه، على غياب المشروع الثقافي وانحسار المشروع القومي العربي لصالح الهويات المحلية الثقافوية. وهذا ما يراه محمد عابد الجابري في بحثه عن المثقف المبدئي (ابن حنبل نموذجاً) في تاريخ الثقافة العربية، فقد لاحظ الجابري أن القرن الرابع الهجري الذي كان عصر (الدول المستقلة) كان خالياً من أي (مشروع ثقافي) أو سياسي للدولة ككل، فأصبحت كل إمارة، بل صار كل ذي جاه وسلطان، (يزيِّن مجلسه) بالعلماء والكتاب والأدباء والشعراء، فظهرت فئة من المستهلكين للثقافة الآخذين من هنا وهناك (المتقابسين) الحريصين على المشاركة في كل علم والإدلاء فيه بدلو خلال المناقشات والمقابسات. ومن وجهة نظر الجابري أن (مثقفو المقابسات) الذين ميَّزوا عصر الإمارات المستقلة خلت أعمالهم ومقابساتهم من كل جهد إبداعي إلا نادراً، فلم يبقَ لهم إلا ما يتراشقون به، وهذا ما ينتبه إليه الدكتور غلوم في توصيفه حالة المثقف من خارج السلطة الذي يكتوي من زملائه بنار المعاقبة والعقاب.
أعود إلى التساؤل والقول: إذا كان الدكتور غلوم يرسم لنا منحنياً هابطاً لتحولات المثقف من الأحسن إلى الأسوأ بصورة أدق عندما يُثني على المثقف الخليجي في أواسط القرن المنصرم الذي تزامن إبداعه مع حيوية المشروع القومي الثقافي، ثم يسحب هذا الثناء من تحت أقدام المثقف في الثلث الأخير من القرن المنصرم الذي تزامن إبداعه مع حيوية المشروع القومي الثقافي، ثم يسحب هذا الثناء من تحت أقدام المثقف في الثلث الأخير من القرن المنصرم حيث التردد والارتباك ورد الفعل هي أهم ميزات الخطاب الثقافي، فهل يعني هذا أنه - أي الدكتور غلوم - يرسم لنا لوحة سوداوية لواقع الثقافة في بلدان الخليج العربي؟ واقع الحال يقول: لا، فالدكتور غلوم في إطار نقده لدور المثقف يلمح أدواراً لمثقفين تمكنوا من داخل السلطة من اختراق المؤسسات الرسمية بأسلوب مغاير وبرغبة جادة في التغيير وممارسة الديمقراطية وخلق الشروط اللازمة لحيوية الثقافة المطلوبة.
بقي أن أقول: إن نقد غلوم لدور المثقف في مجتمعات الخليج لا ينطبق على هؤلاء فقط، بل يكاد يمثل حالة عربية يسود فيها (مثقفون تحت الطلب) أو (مثقفو المقابسات).


وللحديث صلة

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved