الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th October,2005 العدد : 126

الأثنين 7 ,رمضان 1426

قصة قصيرة
غادرت الوطن
بهية بوسبيت
أنا إنسان أحب القراءة كحبي للطعام والشراب، فكما أنّ جسمي لا يستغني عن الطعام، أيضاً فكري وعقلي ونفسي لا يستغني عن القراءة .. لأني أجد فيها غذاءً لروحي وفكري وقلبي، كنت أقرأ كلّ ما تقع يدي عليه، وكلّ ما أراه في مكتبة والدي المتواضعة .. حتى كبرت وكبر نهمي وحبي للقراءة خاصة قراءة الأدب ... ذات يوم دخلت إحدى المكتبات لأقتني ما أفضِّله من الكتب الجميلة المختلفة التي تقبع هادئة بكل مهابة على أرفف المكتبة، فقد ترك لي والدي أمر اختيار هدية نجاحي بنفسي، ففضّلت أن اشتري كتباً .. فأعطاني ما جادت به يده الكريمة من المال ما يكفي شراء كتب كثيرة .. ولجتُ إلى المكتبة بالنقود وكأني كنت أملك فانوس علاء الدين السحري .. أسرعت إلى الأرفف متطلِّعاً إليها بلهفة الجائع النَّهم إلى وجبة دسمة ليملأ بها بطنه ... وبينما أنا أتصفّح الكتب الموجودة على الرف، وقع نظري على مجموعة قصصية شدَّني عنوانها إليها .. تناولتها ومضيت أتصفَّح فهرسها .. كان كلُّ عنوان قصة يدفعني لقراءتها قبل مغادرتي المكتبة. لحظة ذاك تمنيت بيني وبين نفسي أن أصبح ذات يوم صاحب قلم .. كصاحب هذه المجموعة .. ولكني فوجئت عندما رحت أبحث اسم صاحبها بأنّ مؤلفها امرأة وليس رجلاً .. شدّني الاسم أكثر من مرة - ندى عبد المنعم بحثت عن كتب أخرى لها .. وجدت مجموعة أخرى وروايتين وكتاباً احتوى مقالات أدبية .. كانت سعادتي لا توصف .. وكانت هذه أجمل وأغلى هدية نجاح حصلت عليها .. قرأت العناوين بسرعة وشدّني كلُّ عنوان أكثر من السابق .. لم أستطع المقاومة .. اشتريتها كلّها ولم يكن يهمني السعر لأنّ المال كان موجوداً لديّ .. أسرعت أحاسب المحاسب، ثم مضيت أحث الخطا نحو البيت لأنهي ما عليّ من التزامات حتى أخلو بنفسي في صومعتي، وألتهم ما جاء فيها بلذة وسعادة .. تناولت إحدى الروايتين وسافرت معها من أول صفحة داخل الغلاف حتى آخر صفحة .. عرفت فيما بعد أنّ مؤلّفة الكتاب هي فتاة من منطقتي التي أعيش فيها .. تساءلت كيف لم انتبه إلى ما تكتب من قبل .. ترى هل كانت تكتب باسم مستعار من قبل؟ أسئلة كثيرة ازدحمت في رأسي .. ولكن عندما لم أجد لها إجابة تركت البحث عندما أعياني التفكير، ومضيت ألتهم قصص المجموعة واحدة تلو الأخرى، دون أن أشعر بأيّ تعب أو ملل، لدرجة أنني نسيت أني لم أتناول عشائي .. كنت أحس بمتعة أعظم من متعة الذين يغادرون وطنهم للبحث عن متعة خارجه ... شدّني أسلوبها، وهدفها الكتابة .. تناولت عشائي ثم طلبت من أمي أن تعدّ لي كوباً من الشاي، وعدت من جديد للإبحار في تلك القصص التي شدّتني للمؤلفة، فازداد إعجابي بها، وشعرت كأني أعرفها منذ سنوات طوال .. سلاسة أسلوبها .. جمال تعبيراتها .. رقّة كلماتها .. معاناتها التي تعيشها من خلال معاناة الآخرين .. قدرتها على تصوير آلام المعذَّبين .. وقوّة منطقها في الإقناع وتخفيف آلام البائسين .. جعلني أفخر بها لكونها امرأة من منطقتي .. ومن بلدي. لم تمضِ أيام حتى كنت قد أتيت على تلك الكتب، تم ذهبت للمكتبة للبحث عن مؤلفات لها .. لكني لم أجد غير تلك مع الأسف .. فذهبت إلى مكتبات أخرى فلم أجد ما أريد. ذات يوم كنت أتصفّح إحدى الجرائد المحلية فوقع بصري على مقال مذيّل باسمها، ومنذ ذلك اليوم قمت بالاشتراك في تلك الجريدة .. فكانت تكتب مقالاً أسبوعياً وأحياناً شهرياً، واكتشفت أنّها تجري بعض التحقيقات الصحفية المفيدة والمهمة بين فترة وأخرى، كنت في قرارة نفسي أتمنى لو أحدّثها أو أبعث لها بخطاب أشيد فيه بما يسطره يراعها، وأطلب منها أن تتحفنا بكتابات يومية .. وظلّت هذه الأمنية شبه مستحيلة، لأنّها لا تترك ما يدل على عنوانها أو هاتفها .. ومرّت الأيام بنا سريعة، وكنت بين فترة وأخرى أطوف على المكتبات إذا غادرت منطقتي، لعلِّي أجد لها شيئاً لم أقرأه .. وكنت أحاول أن أسجِّل كلّ ما يدور في فكري .. وما يخطر على بالي، وشيئاً فشيئاً بدأت أكتب بعض القطع النثرية والمقالات الاجتماعية .. وأسجِّل بعض الأبيات الشعرية .. لقد جعلتْ مني هذه المؤلفة كاتباً دون أن تعلم بذلك .. ذات يوم رأى أحد الأصدقاء كراسة كبيرة كنت أجمع فيها كل ما أكتبه، فقرأها واندهش لروعة ما جاء فيها كما قال .. فسألني هل أنت من كتب ذلك كله؟ قلت نعم، قال: ولكني لم أعرفك كاتباً من قبل، وأنت صديقي، منذ سنوات عديدة فلماذا أخفيت عني موهبتك هذه؟! صارحته بكلِّ شيء، وكان له صديق ضالع في الأدب والنقد فأصر على أخذ الكراسة إلى صديقه ليأخذ رأيه ويؤكد لي صدق إعجابه .. بعد أيام عاد والفرحة لا تسعه، وبعد أن هنأني أصر على طباعة الكتاب، كما أصر على مساعدتي مادياً، وشاء الله أن أطبع كتاب مقالات، وديوان شعر.
عندما خرج الكتابان من المطبعة لم أنسَ أن أبعث بنسختين إلى المؤلفة ندى عبد المنعم مع إهداء قلت فيه:
إلى الأديبة القديرة ..
إلى من صنعت مني كاتباً، وحقّقت لي أمنية عمري دون أن تعلم .. أهدى لك أول نتاج فضلك عليّ، مع فائق تقديري وعظيم إعجابي.
ثم كتبت اسمي: حسن منصور
بعد عشرة أيام من بعث الكتابين للمؤلفة، وجدت رسالة منها بين بريدي الذي وصلني للتو .. وبالطبع قمت بفض رسالتها، والدنيا لا تسعني من الفرح، كنت ألتهم سطور رسالتها كالنّهم الجائع الذي لم يذق طعاماً منذ فترة طويلة والذي جاء فيها:
الأستاذ الفاضل حسن منصور سلمه الله.
لك مني تحية طيبة وتقدير وجزيل الشكر
سعدت كثيراً بهديتك القيِّمة وقد خصصت جزءاً من وقتي لقراءة كتابك وديوان شعرك الذي أعجبني ما جاء فيهما، وإن كان النقد ليس مجالي، إلاّ أنني أرى من هذه البداية بأنّ مستقبلاً مشرقاً ينتظرك .. أما بشأن كوني صنعت منك كاتباً دون أن أعلم، فهذا شيء سرّني جداً ولولا أنّك كنت تملك موهبة ولديك طموح بأن تصبح في يوم ما كاتباً لما أصبحت، وإرادة الله سبحانه وتعالى فوق كلّ شيء.
تقبّل أصدق دعواتي بالتوفيق وأطيب أمنياتي بمستقبل مشرق ... (ندى عبد المنعم).
أعدت قراءة الرسالة مرات عديدة لشعوري بسعادة طاغية وفرحة غامرة، ثم رحت أبحث عن (رقم صندوق بريدها) خارج غلاف الرسالة حتى إذا وجدته احتفظت به ثم شرعت في كتابة قصة جديدة ....
مرّت شهور طويلة وتغيّر حالي، وأصبح لي شأن كبير في مجال الأدب، وما زلت أقرأ لها كل ما أجده بشغف، وإعجابي بها يكبر دون أن أعرف عنها أي شيء، حتى عرفت بطريق الصدفة أنّها بلا زوج، وعرفت الكثير من الأعمال العظيمة التي كانت تعملها في الخفاء، مما جعلني أقدم على خطوة جريئة وكأنني أخوض معركة حربية لأول مرة .. لقد بعثت لها برسالة شرحت فيها كل شيء عن نفسي وعن مدى إعجابي بشخصيتها وقوة قلمها، وطريقة تفكيرها وصغت رغبتي في الاقتران بها على سنّة الله ورسوله، وأبديت لها تنفيذ جميع رغباتها، وقلت أترك لك مهلة للتفكير لحين عودتي، حيث غادرت الوطن اليوم وقد تعلّق قلبي بك. وقد ظللت انتظر ردّها على أحر من الجمر .. بعد عودتي من السفر، ذهبت لإحضار بريدي، فوجدت رسالة منها بين مجموعة الرسائل التي وصلتني .. فتحت رسالتها بقلب خافق وجسد مرتجف، فقرأت ردّها الذي تقول فيه: قرأت ما جاء في رسالتك المطوّلة من مشاعر صادقة، وإعجاب لا يخفى على مثلي، ووعود بحياة رغدة، ولا أملك إلاّ أن أدعو الله أن يحفظك في كلِّ مكان ووقت، ويبهجك بحياة سعيدة وعمر مديد ومستقبل مشرق. وتابعت قائلة: هل يمكن لشاطئين يفصل بينهما نهر كبير أن يلتقيا يوماً؟
إنّ رابطة الأخوة من أقوى الروابط التي تظل قوية وثابتة أبد الدهر فلنكن إخوة .. وليكن الوفاء والصدق والأمانة هم تاجنا ...
أنهيت رسالتها بمرارة وهزيمة نفسية وحزن شديد وخيبة أمل كبيرة .. وقد أكبرت فيها صدقها وصراحتها وتقديرها للأمور، ونظرتها للحياة، فازدادت مساحة مودّتها في قلبي وفكري ... وعاهدت نفسي أمام الله أن أكون لها الأخ الذي لم تلده أمها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved