الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th April,2005 العدد : 101

الأثنين 2 ,ربيع الاول 1426

السرد والوافد.. بقايا إنسانية هاربة
د. صالح زياد

قرأت ذات مرة أن الشيخ عبدالله بن خميس طرح في الثمانينيات الهجرية إن لم تخني الذاكرة استكتاباً في (الجزيرة) إلى عدد من الأدباء والمثقفين، من خلال سؤال وجهه إليهم، بقوله: (هل كان البترول نعمة أو نقمة علينا؟) ومن المؤكد أن الشيخ وهو يصوغ سؤاله هذا قد امتد بوعيه إلى ما وراء الحدث المادي الذي صنعه البترول في الحياة السعودية، وهو حدث لن يتردد المرء في النكران على ابن خميس ألا يكون نعمة، لكن الشيخ برهافة حسه وعمق إدراكه الحضاري فطن إلى ما يجاوز الماديات، بل لقد استشرف ما في الماديات الطاغية بعنف من تشويه للوعي وتجفيف للحس الإنساني وبذر أخلاقيات وقيم كسولة ومتعالية ومتواكلة.
كان سؤال الشيخ ابن خميس أكثر دلالة على نبوءة مبكرة واستشراف رائد لا يكذب أهله، حين تمثلت الطفرة المادية البترولية في منتصف التسعينيات الهجرية في شكل هزة عنيفة على مستوى الوعي والأخلاقيات، وعلى مستوى العلاقات والمشاعر الإنسانية، فكان توافد العمالة العربية والأجنبية الكثيف على المملكة، في جو من اللهاث والسعي إلى كسب سريع، وكان الاغتراب بمعانيه الوجودية والمكانية والاجتماعية..
هذا الاغتراب هو إطار مساحة غير يسيرة من الأدب السعودي المعاصر مثلما هو محتواها ومدلولها المباشر أو غير المباشر، فلم تكن غربة الوافد المكانية والاجتماعية منعزلة عن غربة البدو والفلاحين وغيرهم من البسطاء من سكان الأرياف والبراري والسواحل الذين هرعوا إلى المدن، ولم يكن الحس النخبوي بالتميز والاختلاف بعيداً عن مدلول أكثر فداحة للغربة بمعناها الزمني والثقافي.
لهذا، لم تكن صورة المغترب الوافد في الأدب السعودي على قدر من الكثافة والانتشار والتكرار، لأنها كما أعتقد لا تنفصل من زاوية النموذج الإنساني المغترب، عن المواطن الذي احتواه هو الآخر الاغتراب بأكثر من معنى.
وربما كان جارالله الحميد وعبدالعزيز مشري أكثر الكتاب السعوديين احتفالاً بالوافد، وانكباباً على إبداع نماذجه وصوغها في حميمية غنية بإنسانيتها المخطوفة على عجل كما يبدو.
تحت عنوان (إيقاعات صامتة وأسئلة!!) في مجموعته وجوه كثيرة أولها مريم (1985م) يرسم جارالله الحميد حكاية فلاح مصري، بلغة تجيد الإصغاء إلى همسات الروح والعذابات الإنسانية، وتفلح في استدراج القارئ إلى السرد من خلال الراوي الذي يشارك في الحدث الذي يرويه في مراوحة وتداخل بين ضمير الغائب وضمير المتكلم؛ إذ يبدأ جارالله قصته، قائلاً: (استلقى على بطنه، واستدعى (الصعيد) ورأيت فيما رأيت دخاناً يتصاعد من فرن صيني وحمالاً يغني، وامرأة جميلة تخبط بيدها على صدرها وتقول: أين أنت يا موافي؟! وتحت أي سقف تغمس لقمتك الآن؟! ثم تتنهد، وتمعن في الانحدار بين طرقات الغيطان الصغيرة. تحرك قليلاً.. وأدار رأسه ناحيتي. متعباً كأن وحوش الإسمنت قد انهالت عليه ضرباً بالعصي والأعمدة والمواسير).
صورة المغترب الذي تدلنا وضعية استلقائه على بطنه على صفة الانكباب والانكفاء والضيق، أي على ما يمكن وصفه بأيقونة الاغتراب، بقدر ما يدلنا الاستدعاء للصعيد على حنينه الجارف، وليست المرأة وهي تصرخ وتتنهد في طرقات الغيطان قاذفة فقدها الملوع: أين أنت يا موافي؟ تحت أي سقف تغمس لقمتك الآن؟ إلى حافة الانفجار للوله واللوعة وهواجس البعد، ليغدو تجاورها مع وحوش الإسمنت والضرب بالعصي والأعمدة والمواسير وجهاً آخر من تراجيديا غربة لا تناضل حنينها الجارف فحسب بل تناضل القسوة والتعب وجحيم الآخر.
والجحيم هنا متصل بكوابيس مسكونة بالوحشة والرعب قال لي: نمت قليلاً. فرأيت نفسي فيما يرى النائم أتوكأ على خيزرانة لينة ملطخة بالدماء، وأنادي في جمع من الناس: من رأى منكم امرأة جميلة خجولة..
تبحث عن زوجها المسافر للعمل؟ وإذا بشرطي يحمل أنفاً بشعاً يستوقفني ويشخط: أرني بطاقة تثبت أنك تعمل في الخارج. ولما لم أجد البطاقة أدخلني إلى غرفة مملوءة بالصراصير وضحك طويلاً بشكل أبرز ضخامة شاربيه الصعيديين. واستلقى على بطنه مرة أخرى وبينما انهمكت في قراءة الجريدة.. التفت فإذا هو يبكي. هل تذكرت شيئاً يا موافي؟ قال: إنني أموت بالوحشة، ولم أستطع أن أنام مرة منذ شهور بلا كوابيس.. اختنقت من الاثل الرمادي.. وهجمات الغبار اليومية).
الكابوس الذي يحمل رعبه في الخيزرانة الملطخة بالدم وتوكؤه وحنينه إلى زوجته بقدر ما يحمل من الجفاف الإنساني الذي تمثله (شخطة) الشرطي وأنفه البشع، يجتمع مع: الضحك الهستيري الدال على طغيان لا وعيه، والاستلقاء على البطن من جديد، أي مداهمة إحساسه الجارف بالإحباط والفقد، ثم البكاء والشكوى لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد بل يأخذ منحى تصعيدياً حاداً في تواليات الفجيعة. فبعد بكاء الوحشة الكوابيس يبدأ بحركة مفاجئة للراوي في مد يده إلى جيبه ويأخذ يعد نقوداً ويستدعي الصعيد، أي أننا نعود إلى حالة الأمل والاتزان الملتئم على جرح الغربة وحنينها، وذلك نذير حلقة الذروة التراجيدية المتمثلة في إطلال رجل من النافذة ليقول: هل تريد شيئاً أيها الصعيدي؟!) ويضيف: لقد اتهمك بعض المزارعين.. بأنك تبيع بطيخهم لحسابك الخاص!!).
هذه الذروة التراجيدية هي التي تفتح نهاية القصة ليكون موافي نموذجاً للغربة المفتوحة على متواليات الضياع والفجيعة والاستلاب (كان الصمت كبيراً وبلا نهايات ولا خطوط.. ولا يقطعه إلا صوت العلب الفارغة التي أخذ موافي يرميها وهو يرتب حاجيات غرفته ويحشرها في شنطة ضخمة، وإذ يختفي موافي فإنه لا يزول إذ يحل على الفور في الراوي فيما تنزلق العبارة الواصفة للمرأة الملهوفة التي وردت قبلاً، وكأنها توقيع النهاية: استلقيت، وابتلعت موالاً جنوبياً من أعراس الموت والولادة، وفي الصعيد خبطت امرأة جميلة على صدرها قائلة: تحت أي سقف تغمس لقمتك الآن.. يا حبيبي!!).
هكذا يرسم جارالله الحميد من خلال بطله (موافي) إحدى نماذج صورة الوافد وعلى نحو يتضام الوصف وحكاية الملفوظات وعرضها مع زاوية الرؤية التي اتخذ الراوي فيها صفة شاهد العيان، المشارك في المشهد والمتماهي مع الشخصية، بحيث غدا استبداد الغربة، وثقل الحنين في التدليل على البعد الإنساني، وتصور وعي البطل، ومشاركة هواجس نفيه وأوجاع بعاده،
مضمونا افعل القراءة الثاوي في صيغة النص ومبناه.


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved