الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th April,2005 العدد : 101

الأثنين 2 ,ربيع الاول 1426

عاش حياته ينتظر الضياء ويبشر بالمستقبل
عبده بدوي.. الشاعر الذي مات مظلوماً
د. محمد أبوبكر حميد

منذ وفاة الأديب الكبير الشاعر والناقد الدكتور عبده بدوي (19272005م) في آخر يناير الماضي لم تتحرك إلا القليل من الأقلام للكتابة عنه على كثرة زملائه وتلاميذه في مصر والعالم العربي. ولم تتنبه وسائل الإعلام والصحافة الأدبية للكتابة عنه إلا مؤخراً باستثناء بعض الصفحات الأدبية. كان عبده صاحب فكر لم يغيره قط في حين كان بعض الناس يغيرون فكرهم كما يغيرون ملابسهم، وبالتالي أوصدت في وجهه أبواب كثيرة. ولو كان عبده بدوي مطرباً أو مسلياً لتصدر خبر وفاته الصفحات الأولى لبعض الصحف وتكررت إذاعة سيرته في الفضائيات العربية ولكن شأنه شأن العلماء في عالمنا العربي لا يعرفون إلا بعد موتهم بسنوات طوال وبعد أن يكتب عنهم أصحاب الأقلام المنصفة تحيي ذكراهم وتعيدهم إلى ذاكرة دولهم وشعوبهم فيبعثون من جديد ويعاد طبع المندثر والمجهول من مؤلفاتهم ونشرها على الأجيال الجديدة.
وسيأتي اليوم الذي يذكر الناس فيه عبده بدوي ويتذكرون جهوده وخدماته للأدب والثقافة والفكر المرتبط بوطنه وعالمه العربي وقارته الإفريقية ودينه الإسلامي، فعبده بدوي يعد من أهم الشعراء الذين برزوا في الخمسينات والستينات الميلادية في مصر، وتصدروا الحياة الثقافية والأدبية بإصدار الأعمال الشعرية والأبحاث والدراسات وممارسة النشاط الصحفي والإعلامي. ورغم دوره المميز في كافة المجالات التي خاضها والفنون التي كتب فيها إلا أنه لم يأخذ حقه من التقدير في حياته سواء من ناحية الذيوع والصيت أو من ناحية البحوث والدراسات التي كتبت عن شعره وأدبه، وهما شيئان حظي بهما من هم أقل منه موهبة وإنتاجا من أبناء جيله وزملائه.
ومنذ عرفت عبده بدوي أديباً وأستاذاً إنساناً منذ ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً كان نموذجاً في سلوكه للأستاذ الجامعي المحب لعلمه، المخلص لتلاميذه وللأديب الملتزم لفنه.
وبالمثل كان عبده بدوي ناقداً جاداً وعالماً مثابراً يجهر بكلمة الحق حتى لو تعارض ذلك مع مصالحه الشخصية وعلاقاته. أما شخصيته الإنسانية فقد كان شاعراً في كل شيء ولذلك اتسمت حياته بالرقة والهدوء. ولم يكن بطبعه من الذين يعشقون الأضواء ويقيمون العلاقات هنا وهناك لمزيد من الظهور، ولم يكن يحب الخصومات أو الدخول في صراعات وإنما كان يكتفي بالصمت والابتعاد عن نقاط التماس، وقد أدت به طبيعته الحساسة والمسالمة إلى الانعزال في سنواته الأخيرة والابتعاد عن الظهور مع حفظ الود والوفاء لكل من عرف والتسامح مع كل الذين أساءوا إليه إلى آخر لحظة في حياته.
آمن عبده بدوي برسالة الشعر واعتبر أن الشاعر أمين سر الحياة وظل يجاهد في الدفاع عن حرية الكلمة على ألا تباع أو تذل أو يشتري بها ثمنا قليلا ولما مر به من زمن وجد كلمته فيه محاصرة كتب بالرمز واللون والإيحاء، وأصبح هذا هو الطابع الغالب على شعره، وأهم ميزاته لأنه يقع في صميم التعبير الفني، وقد أصدر عبده بدوي خمسة عشر ديوانا شعريا (شعبي المنتصر) 1958، (باقة نور) 1960، (الحب والموت) 1960، (الأرض العالية) 1965، (لا مكان للقمر) 1966، (كلمات غضبى) 1966، (محمد صلى الله عليه وسلم) 1975، (السيف والوردة) 1975، (دقات فوق الليل) 1978، (ثم يخضر الشجر) 1994م، (الجرح الأخير) 1995م، (هجرة شاعر) 1997م، (الغربة والاغتراب والشعر) 1999م، (حبيبتي الكويت) 2000م، (ويجيء الختام) 2001م.
وقد عمقت تجربته الأكاديمية حسه النقدي من الناحية التطبيقية فأصدر عدة كتب في دراسات النص الشعري منذ صدر الإسلام إلى العصر الحديث، واهتم بدراسة الشعر وأعلامه ونقاده فأصدر (قضايا حول الشعر) في جزءين، (نظرات في الشعر الحديث))، و(نظرات في الشعر العربي)، (العقاد وقضية الشعر)، (طه حسين وقضية الشعر)، (شعر إسماعيل صبري).
وفي خدمة اللغة العربية أصدر (في الأدب واللغة)، (أهمية تعلم اللغة العربية)، (في آفاق العربية)، واهتم عبده بدوي بدراسة رواد التجديد عبر عصور الشعر العربي ابتداء بكتابيه (أبوتمام وقضية التجديد)، و(علي أحمد باكثير شاعراً غنائياً) وانتهاء بكتاب (التقاء الشعر بالعمارة) الذي صدر في سلسلة كتاب الهلال سنة 1997م.
واعتبر عبده بدوي الشعر مقياس حضارات الشعوب والأمم، وبالتالي فقد نفذ من دراسة الشعر العربي لدراسة الحضارة الإسلامية التي أنتجته، فأصدر عدة دراسات عن الحضارة الإسلامية ومكوناتها منها (أفكار حول الإسلام) و(أعلام في الإسلام)، و(دول إسلامية)، و(شعراء حول الرسول)، وآخرها (حضارتنا بين العراقة والتفتح).
حصل عبده بدوي على عدة جوائز معظمها يتصل بإبداعه الشعري أهمها جائزة الدولة في الشعر ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى سنة 1977م، وجائزة البحث العلمي لأعضاء هيئة التدريس من جامعة عين شمس، والجائزة الأولى في (مهرجان داكار)، عن التأليف الإذاعي، وجائزة أفضل ديوان شعر من مؤسسة يماني الثقافية عن ديوانه (دقات فوق الليل) كما أنشأ مجلة الشعر المصرية عام 1977م وظل رئيساً لتحريرها لمدة 12 عاماً.
من جامعة القاهرة سنة 1969م بدراسة (الشعراء السود وخصائصهم الشعرية) ثم أتبع هذين الكتابين الكبيرين بكتابه القيم (السود والحضارة العربية) وتعد هذه المؤلفات في طليعة مؤلفات عبده بدوي ومن أهم الدراسات في الأدب الإفريقي.
وفي المجال الصحفي عين عبده بدوي سنة 1957م مديراً لتحرير مجلة (نهضة إفريقيا) التي أصدرتها وزارة الثقافة المصرية، فارتفع بمستوى لغة الخطاب فيها من السياسة إلى الأدب، واتسعت في هذه الفترة ثقافته الإفريقية وانعكست على أدبه فأصدر عدة كتب تدرس حضارة الإسلام في إفريقيا وتقدم صورا عن زعمائها وشعوبها ومدنها، فبدأ بإصدار (مع حركة الإسلام في إفريقيا) و(دول إسلامية في الشمال الإفريقي) ثم أصدر (حكايات إفريقية) و(مدن إفريقية) و(شخصيات إفريقية) وبالمثل كان للسودان وإفريقيا حضور لافت في دواوينه الشعرية وهو أمر جدير بوقوف الدارسين والباحثين عنده، وتعد أوبرا (الأرض العالية) التي تعالج مشكلة الأرض في كينيا من أهم أعماله الشعرية في الطرح الإفريقي درامياً، وقد تمرس عبده بدوي في كتابة الدراما الشعرية والنثرية، فالعديد من أعماله خاصة الموضوعات الإفريقية كتبها في القلب الدرامي منذ الستينات. ورغم أنه يعد كاتباً للدراما الإذاعية الشعرية والنثرية من الطراز الأول ونال بها جائزة مؤتمر داكار للتأليف الإذاعي، وله في ذلك تراث إسلامي إذاعي ضخم بعضه في أرشيف الإذاعة المصرية ومعظمه في أرشيف إذاعة الكويت، إلا أنه لم يصدر شيئا منه في كتب عدا كتاب واحد هو (سهرة مع مصر).
لقد ظُلم عبده بدوي شاعراً كما ظُلم ناقداً وباحثاً وسُلبت منه ريادته في الاهتمام بالشأن الإفريقي وخدمته لها ثقافياً وأدبياً وإسلامياً وأعطيت لغيره من الذين أساءوا لإفريقيا أكثر مما أكرموها. واضطر عبده بدوي بالجبر والاختيار معاً على العيش خارج وطنه، فكما بدأ مطلع شبابه مدرساً بالسودان أمضى معظم سنوات صدر حياته أستاذاً جامعياً في الكويت وفترات قصيرة متفرقة في العراق ودولة الإمارات، إذ لم يستطع البقاء في وطنه.
فلما عاد ليستقر في وطنه استقر في بيته ولكنه أحس أن الشعور بالاغتراب في الوطن أشد وحشة من الغربة خارجه، وعانى من القهر لما رأى تنكر بعض الزملاء له، وتجاهلهم لدوره انكفأ على كتبه ولاذ بمكتبه يبدع في صمت، ويخرج مؤلفاته واحداً تلو الآخر دون انتظار لصحفي يطرق بابه أو مصور يركض وراءه أو زميل يأتي ليؤنسه أو تمليذ ليناقشه مؤمناً بأن كتبه وحدها ستنصفه وتتحدث عنه من بعده.
وفي سنواته الأخيرة فاجأه الفشل الكلوي فأقعده الفراش، وتراخت همته لكن جذوه الإيمان ظلت مشتعلة في داخله، فعكف على كتاب الله، يتلوه آناء الليل وأطراف النهار فلما لم يعد يقدر على القراءة، ظل يتلو من حفظه ويستمع لتلاوة أهله، ويردد كلما دخل عليه أحد في وحدته وجاء ذكر نسيان الحياة الثقافية له يتلو قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} وظل يرددها باسماً حتى توفاه الله منتصراً في ليلة الجمعة المباركة 1612 1425هـ الموافق 2712005م. رحمه الله وأثابه عما قدمه خدمة لدينه ثم لغته وشعبه وأمته العربية والإسلامية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved