الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th April,2005 العدد : 101

الأثنين 2 ,ربيع الاول 1426

نظرة جديدة إلى بعض أسئلة النهضة
د. يوسف سليم سلامة *
منذ عصر النهضة العربية وحتى أيام الناس هذه انشغل المثقفون العرب، وحتى عامة الناس أحياناً، بالكثير من الأسئلة دون أن يبذل جهد كافٍ لتبين ما إن كانت بعض هذه الأسئلة ما تزال صحيحة ومشروعة ومطابقة للوقائع المتغيرة المتبدلة.. فالسؤال ? أي سؤال ? لا يصاغ في فراغ من ناحية، ولا يعتمد بقاؤه صحيحاً ومشروعاً على الوقائع التي بررت صياغته في لحظة تاريخية معينة، فبقدر ما تكون لحظة ما قادرة على منح التبرير المعرفي والتاريخي لسؤال ما، فإن اللحظات التاريخية التالية هي التي ستشهد على مدى بقاء هذا السؤال محتفظاً بأهميته وقيمته على المستويات المختلفة.. فأي لحظة تاريخية مآلها إلى الزوال، ومن ثم فإن معظم الأسئلة التي تنتجها الثقافة بصدد الحياة التاريخية والسياسية والاجتماعية لأي شعب من الشعوب قد تصبح غير ذات أهمية نتيجة للارتباط الجوهري القائم بين السؤال والمضمون التاريخي الذي اقترن به. وليس هناك إلا القليل من الأسئلة التي تستطيع أن تتخطى في أهميتها اللحظة التي ولدت مقترنة بها فتتمكن من أن تظل حية عبر لحظات تاريخية لاحقة.
حسبنا أن نعود إلى السؤال الذي صاغه مثقفو عصر النهضة العربية عندما حاولوا أن يجيبوا عن مسألة التقدم التاريخي نتيجة لما استشعروه من فارق شاسع بينهم وبين أوروبا.
لقد عبر النهضويون عن سؤال التقدم التاريخي بصور مختلفة لعل من أهمها ذلك السؤال الذي صيغ في صورة تقابل حاد، وتضاد لا حل له بين (الأصالة والمعاصرة)، فذهب فريق إلى أن التقدم التاريخي مرهون بالعودة إلى العناصر التي تشكل عنصر الأصالة في وجود هذه الأمة وثقافتها، وغالباً ما دلت الأصالة عند هذا الفريق على الموروث الثقافي والروحي وبكلمة واحدة: لقد دلت الأصالة على ضرورة الارتباط الجوهري بين التقدم وبين استرجاع هذا الماضي بكليته، أو استجماع عناصر منتقاة من هذا الماضي انتقاءً يلائم طبع هذا المفكر أو ذاك، أو يعكس مصلحة طبقية واجتماعية وسياسية عند آخر، أو رؤية ثقافية معينة، وبالجملة ظلت الأصالة وما يشتق منها من معانٍ مهما تباينت وتغايرت تحيل إلى الماضي بصورة أو بأخرى، وتتطلع في التحليل الأخير إلى اختزال الحاضر كله وصبه، بطريقة أو بأخرى، في هذا القالب أو ذاك، من القوالب المفضلة لدى فرسان هذا التيار وأبطاله.
وثمة فريق آخر ذهب إلى أن حل مسألة التقدم التاريخي بالنسبة للعرب لا سبيل إليها إلا بضرب من الامتزاج أو التطابق الكلي مع الثقافة الغربية المعاصرة، وأن هذا التطابق ذاته هو الشرط الأوحد للخروج من وهدة التخلف التي ألمت بالعرب منذ قرون وقرون وحتى أيامنا هذه، وقد تفاوت القائلون بهذا الرأي حماسة في الدفاع عن الثقافة الغربية باعتبارها الثقافة الأكمل من ناحية، وباعتبارها، من ناحية أخرى، ثقافة العقل والتقدم والتنوير، ومن ثم أصبحت، على نحو من الأنحاء، وسيلة وغاية لا محيص عنها في نظر كل دعاة المعاصرة التي تدل على أمرين في آنٍ واحد: أولهما القطع الحاد والتام مع الماضي العربي بكل صوره وأشكاله، والثاني: التطابق التام مع صور الثقافة الغربية المعاصرة ومضامينها حتى ولو نجم عن ذلك التضحية بالهوية والتي هي ليست بشيء آخر غير ما يطلق عليه دعاة التيار الأول اسم (الأصالة).
وبصرف النظر عن هؤلاء وأولئك فقد حاول نفر ثالث التوفيق، بدرجات مختلفة من الأخذ بأمشاج من الماضي وبأشتات من الحاضر بقصد إنتاج مزيج منهما. غير أن هذا المسعى قد كان في التحليل الأخير ينتهي إلى تغليب أحد هذين العنصرين على الآخر نظراً لكونه يحاول التوفيق بين أضداد، والأضداد لا يوفق بينها، بدلاً من أن يستهدف التركيب فيما بين هذين الحدين، ذلك لأن التركيب هو وحده القادر على تخطي تضادهما وإنتاج بنية جديدة واقعة في ما وراء الحدين المتضادين من غير أن يعود أو يتقهقر هذا التركيب من جديد إلى الوقوع في أحدهما.
ومن الممكن لهذا التركيب، في الحقيقة، أن يتخذ صورة تتمثل في تغيير السؤال وتطويره بصورة تسمح للعقل بالخروج من هذا التضاد، على المستوى النظري، وتمكن الإرادة، على المستوى الفعلي، أن تستحدث في الوقائع عناصر يسمح اكتشافها أو استحداثها بالشروع في عملية تركيب خلاقة تتجاوز الأضداد على مستوى الفكر والواقع على حد سواء.
وهكذا فإنه في ضوء ما تقدم من الممكن أن ننتقل من التساؤل عن الأصالة والمعاصرة إلى التساؤل عن الدور التاريخي الذي يتعين علينا أن ننهض بعبئه في لحظة تاريخية محددة، فما دام الحاضر هو الذي يشغلنا بصورة أساسية، لأنه مدخلنا إلى المستقبل، فإن الانطلاق من اللحظة الراهنة واستكشاف ممكناتها وتعيين ما يتعين علينا فعله في ضوء ذلك، يصبح هو الشرط الضروري لتخطي ثنائية السؤال الضدية، الأمر الذي يسمح بإنتاج مقدرة تركيبية تسمح لنا بالمضي قدماً من لحظة الماضي إلى لحظة الحاضر أولاً، تمهيداً للتشبث الدائم أو الإقامة الدائمة في صميم اللحظة الراهنة أو في قلب الحاضر ذاته ثانياً، فبذلك، وبذلك فقط، نصبح قادرين على استكناه لحظة الحاضر وفهمها وتحليلها وتبين الدور الذي علينا أن نلعبه في ضوء حياة العالم الفعلية بدلاً من أن يكون الدور الذي نلعبه قد اختير استناداً إلى الرغبة والهوى والعاطفة التي غالباً ما تميل إلى السهولة واليسر مما يجعلها أسيرة للذاكرة بصورة أو بأخرى، ذلك لأن التذكر أسهل من التفكر، والحنين أيسر من الفعل أو العمل.
ولو سلمنا بأن اللحظة الراهنة هي التحدي الذي علينا مواجهته، غير آبهين بكل ما عداها، لتعين علينا أن نكتشف الدور الذي إن قبلنا النهوض بعبئه تيسر أن يكون لنا بسببه وجود معين محسوس وملموس من قبل الآخر، وحتى يكون كذلك فلا بد لهذا الدور أن يكون دوراً إيجابياً نمارس من خلاله فاعلية تجعلنا نحقق وعياً ذاتياً بذاتنا على نحوين: أولهما مقاومة يبديها الآخر نحونا فنستشعر نتيجة لذلك أن لنا وجوداً من نوع ما أو أننا نلعب دوراً معيناً بصرف النظر عما إذا كان هذا الدور يروق الآخر أو يغضبه، وثانيهما يتمثل في ما نستشعره في ذواتنا من انبجاس وعي جديد أو الشروع في تكون رؤية جديدة إلى العالم منطلقة من مقتضيات العالم الراهن من ناحية، ومسترشدة من ناحية أخرى، بما تمليه متطلبات الصراعات الكبرى المتمثلة في المواجهة بين الرؤى الثقافية المختلفة، الأمر الذي قد يفضي بنا إلى استكشاف هوية منطلقة من الدور الذي نختار أن نلعبه في العالم المعاصر، فالهوية التاريخية بطبيعتها تتكون عبر صراعات بين البشر وعالمهم، ذلك لأنها معطى ثقافي وتاريخي. وبما أن العوامل المادية أسرع في تطورها من العوامل الثقافية، وبما أن العوامل المادية ذاتها ليست منبتة عن العوامل الثقافية على الإجمال، أو هي لا بد لها أن تكون مقترنة بثقافة ما، لم يكن بد من بروز صراع بين الهوية التي نشأت في عصر ومصر معينين تحت تأثير التفاعل بين الإنسان وعالمه في حقبة تاريخية محددة، وبين الهوية المترسبة عن ذلك التفاعل مع العناصر الثقافية الجديدة التي نجمت عن تطور العالم المادي وانعكاسه في حياتنا على هيئة مكونات ثقافية بعضها محلي وأكثرها وافد.
من هنا تبدو الأصالة بمعناها الكلاسيكي وكأنها واقعة خارج نطاق العصر، وتبدو الدعوة إلى المعاصرة بالمعنى الكلاسيكي الذي حددناه لهذا اللفظ أعلاه اغتراباً تاماً عن الهوية والثقافة وعن كل ما هو موروث، وربما كان في ذلك كله نوع من محو الوجود الأخلاقي والمعنوي للأمة ذاتها، ولعل فكرة الدور الحضاري المنطلق من متطلبات اللحظة الراهنة تسمح بتجاوز فكرة التوفيق الزائفة من ناحية، وتمكن من تخطي جملة الأوهام المرتبطة بالانتقائية بكل صورها وأشكالها التي لا يكاد يدركها العد من ناحية أخرى.
إن فكرة الدور التاريخي المنطلق من اللحظة الراهنة تتجنب الانحياز إلى أحد الضدين وتتفادى في الوقت نفسه ترجيح أحدهما على الآخر، ولكنها في الوقت نفسه تظل منفتحة على الحدين كليهما لأن مقياسها مستمد لا من هذا الحد أو ذاك، ولا من هذه الفكرة أو تلك، ولا من هذا التفضيل الشخصي أو ذاك، وإنما من تحليل معمق لجملة المقتضيات التي تؤهلنا لأن نلعب دوراً محدداً في حياة العالم الراهن.
ومن هنا فلا يضير هذا الدور أن ينفتح على ما يسمى ب(لحظة الأصالة)، ولا يضيره أيضاً أن يكون منفتحاً على (لحظة المعاصرة) بل تستمد فكرة الدور التاريخي من هذين العنصرين المتضادين، والذين يستحيل التوفيق بينهما، كل العناصر التي يمكن لأحد الحدين أو لكليهما أن يعزز من خلالها كل ما من شأنه أن يدفع بفكرة الدور التاريخي قدماً وإلى الأمام.
غير أنه يتعين علينا أن نلاحظ أمرين أساسيين: أولهما أن المعيار أو المقياس مستمد من التحليل التاريخي الفعلي والوقائعي للدور المبتغى والممكن. وثانيهما: ضرورة أن تتم إعادة بناء كل ما يمكن استمداده من هذا الحد أو ذاك أو من كليهما، بحيث تسمح إعادة البناء هذه للعناصر المشار إليها بأن تتحول إلى عنصر مطابق لطبيعة الدور التاريخي ذاته، وهذا يعني أنه لا بد من إعادة تكييف هذه العناصر وبنائها من جديد حتى تصبح في تطابق مع الحاضر والراهن في حدود الدور التاريخي المرسوم أو المتوقع بدلاً من أن يتم تكييف الدور التاريخي لمتطلبات أحد الحدين أو كليهما، ذلك لأننا لو فعلنا ذلك لكنا نرتد إلى أحد الحدين، فنتقهقر مرة إلى الأصالة، ونصعد على نحو مقلوب لا يخلو من المفارقة فنقع في المعاصرة من جديد، وفي الحالتين فإننا نبتعد عن النجاح في تحقيق التقدم لأننا نسقط مرة في هذا الحد ومرة في الحد الثاني، والوقوع في أحدهما شاهد على أننا نراوح في المكان ونقف بعيدين عن كل تقدم على جميع الصعد والجبهات، وإذاً ففكرة الدور التاريخي فرض ربما نتمكن من خلاله من تجنب الوقوع في أحد الحدين أو في كليهما، الأمر الذي يسمح للفكر والواقع باستئناف مسيرة التقدم التاريخي من جديد.


أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق
salamah@scsnet.org

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved