الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th April,2005 العدد : 101

الأثنين 2 ,ربيع الاول 1426

قصة قصيرة
خفايا الأيام
بهية بوسبيت
كم هو الألم شديد وقاسٍ حين يأتيك من قيد الحيرة التي تشل يديك.. فتبقى أمامها ضعيفاً لا تقدر على عمل شيء.. وكم يكون الحزن أشد وأبلغ حين ترتسم لك بارقة أمل في عمق اليأس وتترك لك فرصة للغوص والمجازفة بانتشالها ولكنك تفاجأ وأنت في منتصف الطريق بأن هناك مَنْ يحول بينك وبين بلوغ هذا الأمل فتشعر بالضعف وتتنازعك عواصف الأحزان وأنت مشلول اليدين.. مشتت الفكر.
كنت أعيش حياتي هادئ النفس مطمئن البال، مرتاح الضمير.. خالي الفكر.. وكانت سعادتي لا تقدر بثمن فقد وفقني الله في زوجة صالحة، واعية تدرك معنى الحياة الزوجية بكل ما لها وما عليها من قدسية وتقدير.. ومنَّ الله علي بأولاد خصهم بصفات كنت أتمناها.. ولم تزل الحياة تسير بي على هذه الوتيرة من السعادة حتى أصيبت أمي بمرض شديد، تبدلت على إثره كل مسارات حياتي.. فأنا أقرب إخوتي الخمسة إلى أمي.. وأكثرهن عطفاً عليها وأشدهن تعلقاً بها.. واعترافاً بفضلها فلما مرضت التزمت بالعناية بها، فكنت آخذها من مستشفى إلى آخر وأسافر بها من منطقة إلى أخرى وأعرضها على أفضل الأطباء.. وأبرعهم لعل أحداً منهم يشخص حالتها.. حتى هددت ذات مرة بالفصل من عملي.. واضطررت مرات عديدة إلى أخذ إجازة بدون مرتب.. وانقلبت حياتي من أيام سعيدة إلى أيام مليئة بالمخاوف والحيرة والألم، وأصبحت أعيش في صراع فكري دائم بين واجبي نحو أمي التي أوصانا الله سبحانه وتعالى بها.. وبين المحافظة على عملي الذي هو مصدر رزقي ورزق أولادي.. ورغم محاولات العلاج الكثيرة التي تعرضت لها إلا أنها لم تجد أي تحسن ملحوظ في صحته.. قال لي طبيب آخر أخذتها اليه إن هناك أملاً في شفائها إذا أمكنني السفر بها إلى لندن. فكانت الدنيا لا تسعني من الفرحة.. وأحسست بسعادة تغمروني.. أخيراً سأعمل على الحد من عذابها.. أخيراً سأجعلها تعيش حياتها مرتاحة كباقي الناس.. الحمد لله.. الحمد لله رب العالمين.
ولكن سرعان ما تلاشت سعادتي عندما تذكرت كلمات الطبيب التي انتزعت فرحي من أعماقي وغرست محله الحيرة والحزن.. وهو يقول لي إنها تحتاج أكثر من عملية وهذا يكلف كثيراً.. والوقت محدود.. فعليك السفر بها في أقرب وقت.. يا رب.. يارب أعني يا رب يسر أموري فأنت أعلم بحالي وظروفي مني.. كيف أتصرف؟ وأنا الموظف البسيط الحال ولا أملك غير بيتي وسيارتي.. وديون كثيرة.. هل أستدين؟.. وكيف أستدين؟ ولم أسدد ديني القديم؟ ومن أين أجد من يقرضني المبلغ المطلوب؟ هل أذهب إلى إخوتي وماذا لو امتنعوا عن إعطائي وهم يعرفون عدم قدرتي على السداد فيما بعد.. وهم الذين لم يسألوا عنها..؟ قد يعتذرون بعدم وجود مال لديهم.. مضت الأيام بي وأنا أعيش في صراع فكري مضن، وأظلمت الدنيا في عيني وشعرت باليأس يزحف إلى نفسي.. وقد رأيت شبح الموت يقترب من أمي فقررت بيع بيتي وسيارتي وأخذ زوجتي إلى بيت أهلها.. وكان هذا هو الحل الوحيد الذي أمامي.. ولا حل غيره ينفع، وتركت أمر سكني لله وقد فوضت أمري له.. وبعد عودتي بأمي معافاة لن يضيعنا الله ولن ينسانا.
ولم تمضِ عدة أيام حتى أنهيت كل إجراءات السفر.. وبصحبة أمي انطلقت بنا سيارة الأجرة بعد أن ودعت زوجي وأولادي.. وما هي إلا ساعات قلائل حتى كانت الطائرة بنا في أجواء الفضاء منطلقة إلى مدينة الضباب، وعلى الرغم من حالة الحزن التي كانت تسيطر على نفسي وفكري فقد ضحكت كثيراً، عندما رأيت استغراب أمي وسمعت تعليقاتها ورأيها عن الطائرة وهي تحلق في السماء، ثم وهي ترى باطنها.. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تسافر فيها عن طريق الجو.. وبينما أنا غارق في تفكير عميق إذ بي أسمع ضجة وضوضاء.. وصراخاً حتى أن الفزع دب في قلوب جميع الركاب ظناً منهم أن هناك خطراً محيقاً بالطائرة.. وما هي إلا لحظات حتى سمعنا صوت القبطان يتحدث الينا بكل اطمئنان قائلاً: إن كل شيء يسير على ما يرام ولا داعي للخوف وأن هذا الصراخ صادر من امرأة في حالة ولادة.. وسأل إن كان في الطائرة طبيبة أو طبيب فجاء الجواب بلا.. وهدأ الجميع.. وعم الصمت والسكون من جديد إلا من تأوهات المرأة وصراخها الذي يختفي لحظات ثم يرتفع للحظات أخرى محاولة السيطرة على آلامها حتى لا تزعج الركاب. مرت فترة طويلة والمرأة تعاني وتتألم ثم سمعت احدى المتطوعات بمساعدة تلك المرأة تقول لزوجها إن ولادتها متعسرة ولا تقدر على عمل شيء لها كم بقي على الوصول؟ فما كان من أمي إلا أن قالت لي: سأذهب إليها، إن لي معرفة بمثل حالتها، وأسأل الله أن يعطيني القوة لمساعدتها.
حاولت ثنيها فهي لا تحتمل الإجهاد لكنها قالت: الله أرحم بي وبها منك.. ومضت تعمل على قدر معرفتها وخبرتها القديمة.. وكانت حريصة على تلاوة ما تحفظه من سور القرآن الكريم وتدعو الله لها بدعوات طيبة مباركة.. لم تمضِ فترة قصيرة حتى جاءت أمي تزف البشرى لزوجها بولادة طفل له وبسلامتها وسلامة المولود وكان هذا الولد أول ولد يرزق به بعد عدد من البنات.. فكانت سعادته وفرحته لا توصف حتى انه لم يصدق في بداية الأمر.. بعد أن طغى اليأس على نفسه بعد سماع تلك الكلمات التي أفقدته كل أمل في نجاة زوجته.
بعد أن اطمأن على زوجته وولي عهده.. اقترب مني وعلامات الفرح والبشر تنطق من عينيه، وتملأ وجهه.. وراح يمطرني بأسئلته وقد تجلى الاستغراب عندما عرف أن هذه أمي وليست زوجتي قائلاً: ما الذي يدعوك إلى اصطحابها إلى بلد أجنبي وهي في هذه السن؟ صمت حائراً متألماً بيني وبين نفسي.. أعاد سؤاله حدثته بكل شيء.. كان يستمع إليَّ باهتمام بالغ.. وتأثر شديد، وحينما أنهيت حديثي قال: أتمنى من الله أن يكون ابني الذي انتظرته سنوات وحلمت بمقدمه أنا وامه ان يكون باراً بنا كبرك بأمك فالأبناء في هذا الزمن البار منهم قليل.. ثم قال: انه سيتكفل بجميع المصاريف من اجرة مستشفى إلى اجرة علاج.. ونحو ذلك.. ولم يكتفِ بذلك فقط بل أصرعلى التكفل بجميع مصروفاتي.. لقد تذكرت قول الله تعالى أمام موقف هذا الرجل: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} كل هذا حدث في غمضة عين.. وكأنني في حلم.. صمت حائراً متعجباً من هذا الحدث العظيم والفرج السريع الذي خصني الله به. ومن أوسع أبوابه فأزال همي وأراح نفسي.. حدث هذا ولم أعرف الرجل بعد.. وعندما سألته عن اسمه لأشكره على كرمه ونبله وحسن تقديره وجميل صنيعه.. عرفت أنه من ذوي الثراء الواسع.
أدخلت أمي المستشفى وحجزت لي غرفة في فندق قريب من المستشفى وبعد فترة من دخولها أجريت لها عملية ناجحة.. وبقيت لتأخذ فترة راحة لتجري لها عملية ثانية أصعب.. وطال بنا المقام هناك فعذبني الشوق وكواني الحنين لرؤية بلدي وزوجتي وأولادي الذين لم يعد يربطني بهم سوى الهاتف.. ورغم طول المدة فقد ظل ذلك الرجل الكريم محافظاً على وعده وفياً لعهد قطع على نفسه.. ومرت أربعة أشهر ونحن في الغربة.. كأنها دهر.. بعيدين عن موطننا وأحبائنا عدنا بعدها وأشواقنا تسبقنا إلى بلدنا الحبيب وأهلنا.
بعد مضي فترة على عودتي سافرت إلى الرجل الطيب في جدة لأشكره على ما فعله معي ومع أمي وأطمئنه على صحتها بناءً على طلبه مني.. وما أن رآني حتى استقبلني كما يستقبل صديقاً عزيزاً وأظهر لي من الحفاوة والتكريم ما أخجلني.. وقد راح يسألني عن صحة أمي وعن ظروفي العملية فأخبرته أنني قد فصلت من عملي وقد قدمت طلب عمل في أكثر من جهة.. وأنتظرُ الفرج من الله. نظر إليّ ملياً ثم قال: أتعرف يا عبدالوهاب أنني منذ أن عرفتك والخير لا ينقطع عني والحظ يلازمني في كل أعمالي وفرحتي بالولد الأول وصلتني عن طريق أمك أطال الله في عمرها .. لذا أتمنى أن تقبل عرضي ولا تردني خائباً.. مرت لحظات صمت قال: بعدها أريدك أن تعمل عندي بأجر مجز لأن الموظف الذي كنت أعتمد عليه ليس سعودياً وقد انتهت مدة كفالته وكنت بصدد البحث عن موظف سعودي ليحل محله، وقد ساقك الله لي فلن أجد آمن منك ولا أطيب، كما أن لديَّ بيتاً لست بحاجة إليه ومنذ أن تركه المستأجر بقي خالياً سيكون مقر سكن لك ولعائلتك.. ما قولك؟، صمت أفكر في عرضه الجيد لكن مسقط رأسي الذي ولدت وتربيت فيه كيف أتركه وكل ذكرياتي بحلوها ومرها موجود فيه.. سألني ما بك ألم يعجبك العرض؟.. لا ولكن كرمك فاق الحد ولا أستحق منك كل هذه المعاملة الحسنة.. بل إنك إنسان طيب وصالح ومثلك يستحق كل خير.. ولكن كيف أترك مسقط.. ولم يدعني أكمل بل قال: كل مكان في بلدنا الحبيب هو بلد لنا والمثل يقول بلدك هو الذي فيه رزقك وظل يحدثني طويلاً حتى استطاع إقناعي.. ولم يكن في وسعي الرفض بعد كل ذلك الحديث الطويل.. حمدت الله وشكرته كثيراً على فضله عليَّ وانتقلت إلى بيتي الجديد في جدة وعادت الحياة تبتسم لي وأنا هادئ النفس مرتاح البال قرير العين خالي الفكر.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved