الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th July,2005 العدد : 114

الأثنين 5 ,جمادى الثانية 1426

قراءة في (تباريح القوافي) للشاعرة بشاير
قراءة انطباعية في نص (تباريح القوافي) للشاعرة بشاير محمد المنشورة في العدد 91 الاثنين 29111425هـ. مَن هو الناقد؟ عندي ليس له تعريف محدد، غير أن بعض أرباب القلم يعرفه على أنه ذلك الحكيم المتزن الهادئ البصير بأمور صناعة الأدب، بل يتوجب على الناقد أن يكون قاسياً على نفسه أثناء الحكم، فلا يدع لنفسه مجالاً لتحنث بشرف المهنة، ولا يترك لهواه مجالاً ليسرف في الثناء والمديح إذا وجد أسباب المتعة واستجاب لدواعي الجمال في أي نص من النصوص التي يقرؤها. كما أن بعض المنظِّرين يُوجبون على الناقد الفاحص عدم استخدام ذائقته الفنية وحدها، ولا يجوز له أن يحتكم إلى مزاجه الخاص فقط، بل يجب عليه أن يلجأ إلى النظريات النقدية المختلفة والقواعد المخصصة لصناعة النقد. وعليه أيضاً التبصر بأدوات تكوين النص الإبداعي، من حيث صدق العاطفة وصدق التجربة، يسانده في ذلك سعة اطلاعه على التجارب الإنسانية المختلفة التي ترفد أحكامه.
أما القارئ الانطباعي فإنه يعتمد على ذائقته الأدبية البحتة، فما يعجبه قد لا يعجب غيره، وما لا يعجبه قد يعجب الآخرين، وتبقى له أو عليه قراءته وتذوقه للنص الأدبي، شأنه في ذلك شأن المتلقي، مع فارق بسيط بينهما؛ كون المتلقي يعجب بالنص في حينه ثم يغادره، بينما القارئ الانطباعي يعيش هاجس النص معه لفترات طويلة تلزمه البقاء في أروقة مكتبه من أجل تبرير إعجابه أو عدم إعجابه بما قرأه. القارئ الانطباعي يأخذ على عاتقه الغوص في أعماق النص الإبداعي؛ يحلله ويفكك رموزه ويستخدم دلالات المفردات ليستنتج الأثر الجميل الذي تركه النص في نفسه، ولا يمنع القارئ من التلميح إلى وجود خلل في النص إذا وجده مكتفياً به دون التصريح، ومبتعداً عن التجريح. يعيب القارئ الانطباعي سرعته في إلقاء الحكم النقدي؛ لأن هذه القراءات تتكئ على جانب واحد من جوانب النقد المختلفة، وهو الذائقة الأدبية لديه. فالقراءات الانطباعية في مجملها تختلف اختلافاً إجمالياً عن النقد الأكاديمي المتخصص، وعن دراساته النظرية والتطبيقية.
للمرة الثانية تستوقفني إحدى شاعرات بلادي. فعلى الرغم من حداثة سنها فهي حسب ما علمت من الجيل الجديد، إلا أنها نحت منحى مغايراً للواقع الأدبي عند معظم شباب الجيل من الجنسين، فلم تغادر عباءة أجدادها القدامى من الشعراء، ولم تغرها الأساليب الحديثة في كتابة القصيدة، فلم تخرج القصيدة الشعرية العمودية من كينونتها إلى عوالم أخرى ارتضاها بعض الجيل، وتجاوزت ما بعد الحداثة لتقف على مفترق الطرق وتتخذ منهجاً سليماً في صبِّ قوالبها الشعرية مستخدمةً الأسلوب الكلاسيكي المبني على أوزان الخليل مبتعدةً عن المشقة والعنت، ونأت بحروفها عن حوشي الكلام وغريبه، ساعدها في ذلك تمكنها من أدواتها الشعرية العمودية التي أدَّت بها قصيدتها في رقي واقتدار.
المعروف لدى النقاد أن للبيئة المكانية تأثيراً كبيراً على العمل الإبداعي، بل إن البيئة المكانية يتجلى تأثيرها في شعر معظم الشعراء المطبوعين. وإذا كانت بيئة الشاعرة بشائر محمد (الأحساء) بيئة خصبة نشأت في ظلالها، وترعرعت بين نخيلها وعيونها، واكتسبت من هذه البيئة شموخ النخيل ونقاء مياه عيونها الحارة، وغرست فيها حب الأرض وحب الوطن وحب الأهل، فإن البيئة الأدبية التي عايشتها الشاعرة قد غرست فيها الكثير من القيم والمبادئ، وزرعت فيها حب الأدب. فاللافت لنظر القارئ في النص الشعري الموسوم ب(تباريح القوافي) أن الشاعرة تأثرت بالبيئة الأدبية وما فيها من تراث أدبي شعراً ونثراً. فالشاعرة بشائر محمد نحت منحى جميلاً في اتخاذ الأدب بيئة مكانية لقصيدتها تنهل من مواردها الثرية الشعرية منها والنثرية، فقد اتخذت من القصائد الشعرية أرضية صلبة تقف عليها، ومن خيالاتها منصة انطلاقة إلى فضاء الإبداع الأدبي المتميز، وأرخت العنان لجموح خيولها، ومنحت العود والوتر لعصافيرها الصغيرة لتغرد على أفنان حدائقه الغناء. بدأت الشاعرة باعتراف صارخ أنها تعيش حالة عشق لتباريح القصائد. وعلى الرغم من أن التباريح من برَّح تبريحاً بمعنى التعب والأذية، إلا أن الشاعرة تصرح بهذا العشق لهذه التباريح. والعشق من عشق يعشق عشقاً، هو أحد درجات الحب العليا، وفي قواميس اللغة: عشقه؛ أي أحبه وولع به بشدة.
عشقتُكِ يا تباريح القوافي
فكم أسقيتني عذب السلافِ
وكم داويتِ من همٍّ جروحي
بليل الصب أبديتِ الخوافي
فالشاعرة تشيد بالقوافي مثمنة لها ما قدمته من سلاف عذب صائغاً للشرب، وكم داوت همومها وجراحها، وكم بثت لها شكواها، كلما ندبها الهم أناخت رحالها إلى القوافي؛ لتنهل منها ما ينسيها همها ويداوي جراحها، وكم هي الخوافي في النفس الإنسانية التي لا تبديها لكل الناس ولكنها تستطيع أن تبديها للقافية؛ حيث تصب من خلالها كل ما يجيش في أعماقها من حب وغرام وحزن وآلام. ولم تَنْسَ الشاعرة لحظة الوفاء المعتقة في تباريحها؛ حيث أرادت أن تكون وفية لما تقرؤه، فتذكر استفادتها من نصائح الشعر الحكمي؛ حيث إن الحكمة بالغة الأثر في الشعر للمتلقي، وهي تقول: إن الشعر الحكيم أفادها كثيراً في النصح والتوجيه والإرشاد في قصائد الحب البالغ حد الشغف، والشغف إحدى درجات الحب الأكثر عمقاً؛ حيث يخترق حجاب القلب وغلافه وصولاً إلى أقصى درجاته العميقة.
وكم طوَّحتِ لي بلذيذ نصح
بحب بالغ حد الشغافِ
على أن الفعل طوَّح بمعنى رمى، وهو من طاح يطوِّح تطويحاً. والنصائح الجميلة لا يطوَّح بها، بل تُهدى وتعطى.
أبوح بروضك الغناء دوماً
عن الآلام والحب المجافي
وأنثر من طموحي ما أداري
وأقضي الليل في واد اعترافي
كلما عنَّ لي المسير أذهب إلى رياض الشعر والأدب فأبوح لها بآلامي وآمالي، وأشكو همي لها وحزني عندما يجافيني الحبيب. فالقصائد هي الوحيدة التي تكشف مكنونات النفس الشاعرة، وهي الوحيدة التي أبوح لها بطموحاتي التي أخفيها عن الآخرين، وهي الوحيدة التي تجبرني على قضاء الليل معها أسامرها وأعترف لها بما أخفيه عن الآخرين، وإن أحجمت في بعض الأحيان عن الاعتراف لها وأود اعترافي في مهده بين ثنايا بيت عابر أو جملة عاجزة، فذلك لأني أدرك أن الشعر يبدي ما أخفيه للقارئ.
وأنفض عن تعابيري وشعري
غبار الصمت بل طاغي السوافي
فمن أشجار حزنك ناح قطفي
ومن نهر البُكا طاب اغترافي
هناك حيث أقف على حقيقة الشعور أنفض عن تعابيري غبار الصمت؛ لتفصح القصيدة عن مكنوناتها بجلاء، وأحياناً أجهد نفسي في نفض الغبار المتراكم في صمتي الدفين، ذلك الغبار الكثيف كالسوافي التي غطَّت بترابها كل شيء، وعندما تواجهني قصائد رومانسية، فأقتطف منها ما سُمح لي من المعاني التي تثير لديَّ عاطفة شجية، تسبح في خيالي وتسري بي إلى معاقل الشجن والشجا الكامنة في النفس، فتصب ذاتها في ذاتي، وتتقمصني حين ألبس عباءتها في شعري وفي كتاباتي النثرية، وأحياناً أخرى أجد قصائد باكية فأغترف من نهرها ما يثري عندي غريزة البكاء والنواح والحزن والرثاء، فتلتهمني عنوة عند قراءة القصيدة وترفدني عند كتابتها. يا لهذا الروض الخصيب الذي يحمل في ثناياه كل شيء معبِّر عن الحياة على الرغم من مشاكلته العديد من النماذج الحياتية المعبرة؛ كالحسن والجمال في أبيات الغزل، والوصف والحزن والبكاء في أبيات الشجن والرثاء. إنها الحياة بكل تناقضاتها في أفراحها وأتراحها، فكم من بيت جميل زاهي الحسن، وكم من بيت باكٍ شديد الحزن. فهذه الورود التي تصحو بنسائم الحب والغرام المهفهفة على أجفانها، وهذه الزهرات الغافية على حزن النوى تلوعها تباريح الفراق تغفو تارة وتصحو تارة أخرى، كلما هبت رياح الحب (ريح الصبا) الشمالية قامت تراوح في تأوُّد بين اللين والانعطاف، تتمايل طرباً وفرحاً، وإن خفتت عفت على أحزانها. يا للقلوب الرطيبة النقية العفيفة حينما تخشع وتتذلل للحب والهوى، وتستسلم للحبيب ولهاً وغراماً، فتسافر معه بالشعر والنثر إلى أقاصي الوجدان، فتقطع معه الفيافي البعيدة والبيد القاحلة. تتحرك الأنا في السياق التالي لتعبِّر عن مكنونات النفس المسكونة بالسفر الطويل في عالم الشعر والأدب المصهورة بعذاباته وآلامه، وكأني بالشاعرة تلمح إلى معاناتها وتجربتها مع السفر في عالم الشعر والحب والجمال والخيال، فكم شربت السم الزعاف جراء الخشوع والتذلل تاركة كل شيء وراءها لدرجة أن الدنيا لو دعتها إلى زينتها وزخرفها لعزفت عنها قائلة لها: إليك عني!! عندي ما هو أهم وأحلى منك.
عشقتُ سباحةً في بحر شعر
وأدمنتُ الإياب إلى المرافي
أرادت الشاعرة أن تقول: عشقتُ السباحة في بحور الشعر فأدمنتُ العودة إلى مرافئ الأدب كلما احتجت إلى ذلك، في حين أن القافية فرضت على الشاعرة ترقيق كلمة (مرافئ) فجاءت هكذا (مرافي). وبالعودة إلى المعنى السابق الذي أرادته الشاعرة أجد أن التعبير قد خان الشاعرة في الشطر الأخير، فلو استبدلت الذهاب بدلاً من الإياب لاكتمل المعنى بصورة جلية وواضحة، وخرجت من اضطراب المعنى الذي شكَّله الإياب.
عشقتُ سباحةً في بحر شعر
وأدمنتُ الذهاب إلى المرافي
تلتقط كاميرا النص صوراً للأمكنة الأثيرة في الطبيعة، والتفاصيل الصغيرة لعالم الشعر؛ (كالروضة الغناء، والأشجار، والنهر، والورد، والزهرات، والبحر، والمرافئ، وليل الصب).
بحور الشعر وافرها جميل
مفاعلة مفاعلة فعول
البحر الوافر من أجمل بحور الشعر بتفاعيله الموسيقية، وهو ما يوفِّر للقارئ جملاً أخَّاذة على عادته في احتواء قوالبه الشعرية المنسوجة على تفاعيله، وهذا ما وفَّرته موسيقى النص العذبة حدَّ التناغم في قصيدة (تباريح القوافي). هناك عبارات تمنَّيت على الشاعرة أن تستبدل بها عبارات سهلة لتكتمل سلاسة القصيدة وعذوبتها؛ مثل (طوَّح طاغي السوافي شمالا هيجان مقطوع الفيافي رومي). فاللغة العربية لغة المترادفات، وأعتقد جازماً أن الشاعرة قادرة على أن تأتي بما هو أفضل؛ فهي شاعرة متمكِّنة من لغتها ومن أدواتها الشعرية وقادرة على الإبداع.


أحمد الحربي
عضو نادي جازان الأدبي

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved