الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th August,2003 العدد : 24

الأثنين 13 ,جمادى الثانية 1424

صدى الإبداع
أثر ابن المقفع في الفكر الغربي الحديث 48
د. سلطان بن سعد القحطاني

بالرغم مما زخرت به الثقافة العربية في العصر العباسي من فكر علمي ونظري، كان له الأثر الكبير في تكوين الثقافة العربية والعالمية، فإنه السبب في وجود نقلة كلية في الفكر العالمي المستمد من الفلسفة الروحية الشرقية. وتعتبر هذه النقلة بداية ظهور الفكر الحديث الذي قام عليه الكثير من نسيج القصة العالمية، في زمن ظهور الحضارة الغربية، التي بنت حضارتها الفنية على القصص والأساطير التي ظهرت في الشرق العربي، بعد ترجمة (كليلة ودمنة) على يد ابن المقفع، وكتاب الحيوان للجاحظ، والأساطير التي أوردها الدميري في كتاب (حياة الحيوان) وما نسجه ابن طفيل في روايته (حي بن يقظان) التي استوحاها من أساطير الهنود. لكن الكتاب الذي أثر في الحضارة الفنية والفكر بصفة عامة، هو كتاب (ألف ليلة وليلة)، بل إنهم يعتبرون من لم يقرأ هذا الكتاب ويعش معه ليالي طويلة، لم يتأدب. ولم يكن ذلك لما فيه من القصص والعبر، بل لما يحمله من الفكر الفلسفي وبعد النظر وأسلوب البناء الفني الرمزي. وقد سبب فكر ابن المقفع (مترجم الكتاب) صدمة للفكر التقليدي، وذلك يعود إلى تمكنه من علم المنطق والفلسفة، وتبحره في النظم الحضارية، فحاور العقل بالعقل، والمنطق بالمنطق مما أزعج الخليفة المنصور، الذي استغل ما اتهم به ابن المقفع من الزندقة، وأقول: إن كانت هذه التهمة حقيقة في ابن المقفع، فإنها عند غيره أدهى وأمر، ولم يحصل لهم ما حصل لابن المقفع. وأخذ هذا الفكر الشرقي ينتشر بصورة حضارية لم تعرفها الأوساط الثقافية من قبل، التي ورثت الفكر التقليدي (الأموي) وهي الدولة العربية الأعرابية، كما يقول الجاحظ. وحُكم على ابن المقفع بالقتل في سنة 142759م، لكن فكره بقي إلى الأبد، بقي كتابه، الأدب الكبير والصغير، ورسالة الصحابة، وكليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة، فكراً يستنير به العالم إلى اليوم. يقول عنه الدكتور حسين نصار: «تلك هي مقدمة الكتاب الذي طارت شهرته، فتعدت خلافة المسلمين إلى أقطار أوروبا، فحرص الكثيرون من أبنائها على أن يترجموه إلى لغاتهم ليقرأه اخوانهم، وأن يكون لهم نصيب في شرف التأليف على منواله» في النثر العربي 180. فقد ألف الكاتب العالمي (جورج اوريل) روايته (مزرعة الحيوان) على غرار كليلة ودمنة، ورمز بها إلى تعديات النظام الشيوعي، فأجمعت الحيوانات في المزرعة على قتل صاحب المزرعة، لأنه ينام على سرير في مكان دافئ وهم ينامون على الأرض في البرد، وعندما تم لهم ذلك اقتتلوا على السرير.. وسواء كانت القصص التي نسبت إلى العلماء أو الفصحاء أو الجبارين حقيقة أم خيالاً، فإن ذلك لا يعنينا في شيء، بقدر ما يعنينا ما ظهر من فكر غير من سلوك الأمم، وحدد مسارها بقبول الرأي الآخر، وظهور فكر حديث، لا يرفض الآخر، لكنه يجدد فيه ويبني على أنقاضه فكراً متطوراً. وأراد هذا الفكر الذي استفاد من الفكر الشرقي ان ينشر ثقافته في العالم، من خلال النظريات التي أقامها من ذلك الفكر. ومن استقرأ تأريخ الفكر العلمي، منذ أرسطو إلى اليوم، لم نجد فكراً أحادياً، هيمن لفترة من الزمن، قد تطول أو تقصر، أثمر ثمرة ايجابية، بل نهايته الزوال، والشتم في صفحات التأريخ، لأنه متطرف. والعكس من ذلك تماماً، ما قام على الحوار الهادف، الذي يقصد من ورائه خدمة الوطن والبعد عن العمل من أجل المصالح الخاصة. ولم يكن علماء الغرب الناقلين للأصول قبل التحقق مما يمكنهم الاستفادة منه، ولم يكن ذلك من قلة في المؤلفات التي صدرت في عهد الدولة العباسية المزدهرة، فهناك من الأصول الجامدة الشيء الكثير، وقد اعتنى به البعض، بل وصل به الحال إلى ما يشبه التقديس، وبالرغم من ان علماء العرب رفضوا تسلط التقاليد الاجتماعية العربية الأصيلة، كما رفضوا التقاليد الفارسية، كما يقول المستشرق (جب، 12) وبما ان الفكر العربي الموروث كان يقابل معضلة في مواجهة الفكر الفارسي، الوافد على الإسلام، وان الإسلام قرر ان لا فرق لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وهي ما اصطلح عليه (الأممية الإسلامية) فإن علماء المسلمين وجدوا في ممارسات الفرس نوعا من عدم التقوى، وان كان الفرد منهم يقيم الصلاة مع جماعة المسلمين، فإنه مازال يحمل بقية من دينه القديم معه، يعبدها في وقت خلوته «وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته ويصلي مع الجماعة لتمكين سلطته» (محمد عبده، الإسلام بين العلم والمدنية، 166، وما بعدها) ولم يأت هذا الفكر الصريح من فراغ، بل بني على قراءات موضوعية للفكر الذي قامت عليه الجدلية الفكرية، بين الفرس كإمبراطورية مهزومة في حضارتها، والفكر العربي، كفكر له أصوله العربية، مستندا على الإسلام الذي نزل بلسانه وحمل فكره. وهذا الفكر المتصارع، هو الفكر الذي استند عليه ابن المقفع في مؤلفاته وترجماته، وبيد ان الخليفة العباسي أراد ان يفرض هيمنته على الفرس والترك، ليكونوا جنداً خاضعين لسطوته وقوته، بصوت أحادي لم يحاور فيه أحداً منهم، والنهاية كانت لهم عليه. كل هذه الأفكار، الأحادية والثنائية، درسها الغربي واستنتج منها فكراً قابلاً للحوار، وبنى عليها ثقافته الحديثة، وبدلاً من القتال الذي كان يدور بين الفرسان والنبلاء، اتحد الجميع للقيام بمجتمع صناعي ثقافي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved