الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th August,2003 العدد : 24

الأثنين 13 ,جمادى الثانية 1424

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات (12)
الرجل الأصعب

بقلم/علوي طه الصافي
رجل في قامة الصديق العزيز الأمير خالد الفيصل.. وما تشكله شخصيته من معالم وقدرات وميزات وتفردات وصناعة أولويات.. مع العيش معه وفي كنفه، في مختلف الظروف وتباين الحالات النفسية لمدة ستة عشر عاماً.. تحتاج إلى كتاب مستقل.. ولم أبالغ حين قلت في الحلقة الماضية إن الحديث عنه إنساناً.. وتعاملاً.. وثقافة.. وحكما.. وإدارة.. وتنمية.. وسياحة.. وطموحاً.. وشاعراً.. ورسَّاماً.. وخلقاً أطول من نهر النيل الذي يعد أطول أنهار العالم!!
وقد أرجأت الحديث عن ذكرياتي مع سموه.. والتي تختص بمجلة (الفيصل) نشأة وبداية ونهاية لمذكراتي الصحافية التي أكتبها شهرياً في (المجلة العربية) لأنني أردت من ذكرياتي عن مجلة (الفيصل) توثيقاً لنشوئها وبدايتها حتى تركي لها بصفتي أول رئيس تحرير لها، وأعرف عن هذه النشأة والسيرورة إلى ما حققته من نجاح وانتشار.. بحيث تأتي هذه الذكريات «شاهد» مرحلة مهمة من مسيرتها قد تفيد الباحثين والدارسين لتاريخ مسيرتها في المستقبل.. وهذا ما أعده واجباً وطنيا.. وصحافياً إعلامياً. وحتى أكون صادقاً فإن حديثي عن المجلة لن يكون بمنأى عن حديثي عن الأمير خالد الفيصل الذي كان له الفضل في الدعم والتوجيه والمتابعة.
لكنني وجدت أنه من الواجب إيراد بعض الذكريات في هذه الحلقة لأنها ذكريات ليست لها علاقة بالمجلة.. بعضها سمعتها منه.. وبعضها الآخر عشتها معه شخصياً.
أذكر أن الصحافي العربي المصري المعروف (محمد جلال كشك) صاحب أبرز كتاب ألفه بعنوان (السعوديون.. والحل الإسلامي) وقد سبق وان تعرفت عليه مع صاحب ورئيس تحرير مجلة (الحوادث) اللبنانية الاسبوعية (سليم اللوزي) الذي مات اغتيالاً فيما بعد بمناسبة زيارتهما للمملكة في عهد الشهيد (فيصل بن عبدالعزيز) الملك، السيف، رائد التضامن الإسلامي تغمده الله بواسع رحمته وقد أجريت لقاء مع كل واحد منهما سوف أنشرهما في أحد كتبي القادمة ، إذا مدَّالله في أعمارنا.. وكان لقائي بهما في أحد فنادق الرياض حيث كانا على موعد في اليوم التالي لمقابلة (الملك فيصل).
بعد هذا اللقاء حين ذهبت إلى بيروت قمت بزيارة (محمد جلال كشك) على عنوانه الذي أعطانيه في الرياض.. وهو عبارة عن شقة في إحدى العمارات بحي «الطريق الجديدة» فوجدت الشقة التي أعتقد أنه كان يسكنها منفرداً وجدتها تمثل «ارشيفاً» لقصاصات الصحف والمجلات التي يحتفظ بها في ملفات (فايلات) مصنفة في دواليب، للرجوع إليها عند الحاجة لإثراء معلومات استطلاعاته وتحقيقاته التي كان ينشرها بمجلة (الحوادث) التي كان يعمل بها.. فتوطدت الصداقة بيننا من منطلق روحه المصرية «العشرية».
وبعد مرور سنوات على هذا اللقاء، وقد استشهد الملك فيصل.. وكنت وقتها رئيساً لتحرير مجلة (الفيصل) التي كانت ملكاً للأمير خالد الفيصل شخصياً قبل أن يتنازل عن ملكيتها وكل مدخراتها لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الذي يرأس مجلس ادارته الصديق الأمير (تركي الفيصل بن عبدالعزيز) سفير المملكة فوق العادة حالياً لدى بريطانيا.
قلت بعد مرور سنوات على لقائي الثاني بالأخ (كشك) كلمني من خلال الهاتف انه قدم الرياض لعمل صحافي لم يوضحه لي.. وطلب مني بحكم علاقتي بالصديق العزيز الأمير خالد الفيصل أخذ موعد لزيارة سموه مساء ذلك اليوم نفسه لأنه سيغادر الرياض غداً وأكد طلبه بحرصه الشديد على مقابلة سموه لما سمعه عنه.
وحين طلبت الأمير خالد الفيصل في منزله عرفت من مأمور السنترال ان سموه سيتناول طعام العشاء في منزل والده.
ولأنني أعرف أنه إذا حرص على تناول طعام العشاء في منزل والده إنما لحرصه على زيارة أخواته والأهل الموجودين في قصر والده ومعرفة أحوالهم والجلوس معهن بعضاً من الوقت.. وهذه صورة من صور البر التي اعتاد عليها لتعميق الصلة في كل زيارة له للرياض.. وهذا يتبعه مع كل اخوانه الذين يأتون لزيارته.
وحين كانت والدته تغمدها الله بواسع رحمته حية ترزق كانت من اولى الزيارات التي يقوم بها حين يزور الرياض لمنزل والدته بحيث يتوجه لزيارتها مباشرة من المطار إلي منزلها والاطمئنان عليها وعلى صحتها والجلوس معها بضع ساعات قبل أن يذهب إلى منزله.. وهذه صورة عظيمة من صور بر الوالدين والبر في عمومه الذي يتمثل في خالد الفيصل لجميع أهله وأقربائه.. هذا غير المكالمات الهاتفية معهم حين يكون في أبها.
ولحرص الأخ (كشك) على مقابلة سموه في المساء نفسه أخبرته بواقع الأمر لكن قلت في نفسي «ما على الرسول إلا البلاغ» فلم أزرع اليأس في نفسه، وأخبرته باستعدادي لمحاولة تحقيق رغبته بعد عودة سموه إلى منزله.
وفي الساعة السابعة مساء اتصلت بسموه بادئا بالتعريف بمكانة الأخ (كشك) الصحافية الاعلامية العربية، لم يجعلني أستطرد في التعريف.. فقال لي: أعرفه جيداً من خلال كل كتاباته وهو وزميله (اللوزي) من مجلة (الحوادث) وهذه واحدة من مزايا سموه كمتابع للصحف المحلية والعربية ليس كلها وإنما المهم منها.. ومجلة (الحوادث) كانت أيامها تحتل موقع «الصدارة» بين المجلات العربية فسألت سموه إذن أنت موافق على اللقاء به؟ رد نعم.. سألته مرة أخرى: وفي منزلك بعد خروجك من منزل الوالد؟ رد بل في منزل الوالد.. قلت له: لكن أعرف.. فقطع كلامي وهو يضحك قائلاً: أعرف ما تود أن تقوله.. دعك مما تعرف واحضره معك لتناول طعام العشاء في منزل الوالد.. فامتثلت لأمره ولمعرفتي بسموه قلت في نفسي: لا أستبعد أن سموه يريد أن يوجه رسالة للأخ (كشك).. زاعماً داخل نفسي معرفة سموه جيداً داعياً الله ألا تجيب زعمي!! وبعد اتصالي بالأخ (كشك) لإخباره بموافقة سموه وترحيبه بالزيارة مررت به في الفندق الذي ينزل به واتجهنا إلى منزل الملك فيصل فاستقبله سموه بترحاب وبعد دقائق حان موعد طعام العشاء فدعانا سموه إلى صالة الطعام وتحدثا بما تمليه المناسبة والفترة الزمنية، ثم عدنا إلى صالة الجلوس لشرب القهوة العربي والشاي.. وكان الأخ (كشك) يستعرض ببصره ما حوله من أثاث وحيطان، وما فوقه من سقف، وما تحته من فرش، كأنه يبحث عن شيء أضاعه.. ثم سأل الأمير: أهذا هو منزل الوالد كما عرفت من الأخ علوي!
رد سموه: نعم، هذا هو منزل الوالد كما تراه، والذي قال عنه (هيكل) انه مطلي بالذهب!!
قلت في نفسي هذه هي الرسالة التي يريد سموه أن يوصلها للأخ (كشك) وبأسلوبه الحضاري الرفيع الذي اعتاد عليه في توصيل ما يريد توصيله للآخرين.
ويبدو أن الأخ (كشك) شعر بالحرج، أو الخجل من أساليب بعض الكتاب الصحافيين العرب الذين يدعون في كتاباتهم انهم ينقلون الحقائق ويتحلون بالمصداقية وأنهم بحكم قربهم، وموقعهم من الحكم في بلادهم قادرون على الكذب على الشعوب بتزييف الحقائق.. وهي مرحلة مرت بها كل وسائل الاعلام العربية المرئية منها والمقروءة والمسموعة.. وكانت ضحيتها الشعوب العربية.. والتنمية، والتقدم في الأقطار العربية. وتوسع رقعة الاحتلال الإسرائيلي.. ففي الوقت الذي كانت هذه الوسائل تعلن للشعوب العربية، أن الجيوش العربية دخلت (تل أبيب) تكشف الواقع عن هزيمة هذه الجيوش هزيمة نكراء.. وأن العدو الإسرائيلي تمكن من احتلال الضفة الغربية بما فيها القدس الشريف!!!
في طريقنا إلى الفندق تحدث إلي الأخ (كشك) عن انطباعاته اثر الزيارة فقال: سبحان الخالق.. لو لم أكن متأكداً من أن الملك فيصل قد انتقل إلى رحمة الله لقلت إنني الليلة كنت معه في شبابه.. الأسلوب هو أسلوب الفيصل في حديثه، واختيار عباراته المناسبة في الوقت المناسب.. حتى في نبرات صوته يشبه والده الفيصل.. فإذا كان الملك فيصل قد رحل عن دنيانا شهيداً فقد خلَّف من ورائه أبناء كالأمير خالد الفيصل يشبهونه في الشكل والمضمون، لقد ذكرني الليلة الأمير خالد الفيصل بكل ما عرفته معرفة شخصية عن الملك الراحل تغمده الله بواسع رحمته. وأنت يا أخ علوي محظوظ بالعمل مع هذا الأمير النبيل، شكرته على مشاعره قائلاً له: أنت لم تجلس معه إلا ساعات، وما لم تعرفه عنه أعظم، وأنبل، وأكرم.. ثم ودعته وكان آخر لقاء معه حيث انتقل بعد ذلك إلى رحمة الله تعالى ولأن تنمية منطقة عسير بعامة وحاضرتها مدينة «أبها» بخاصة كانت تشغل كل تفكيره، وجهوده، وطموحاته، أرضاً وبشراً وقد عايشت بعضها وروى لي بعضها الآخر فإنني سأحاول إيراد ما لم أر أهمية إيراده للحق والحقيقة.
روي لي قصة ذلك المواطن الذي جاء إلى سموه ليخبره بوجود قرية أو جماعة من المواطنين يعيشون حياة «القرون الوسطى» في حالة تخلف، مقطوعي الصلة عن من وما حولهم إذ لا توجد أي طريق تصل إليهم أو تجعلهم يتصلون بغيرهم باختصار قال المواطن أشياء خطيرة وبجرأة مما أثار حماسة الأمير لأنه لم يصدق بعض ما سمع فتحرّك على طائرة (هليوكابتر) ووضع فيها بعض الارزاق واتجه بنفسه إلى هذه القرية المعزولة فشاهد من خلال الطائرة التي كما أتذكر لم تتمكن من الهبوط للوعورة والصعوبة مما اضطرهم إلى رمي الارزاق من على الطائرة وعاد حزيناً مكتئباً.
وكان همه أن ينقل هذه القرية وأهلها نقلة تروى كالأساطير فبدأ بفتح خط بري لتحقيق عملية الاتصال في زمن قياسي وحين تم الاتصال بالمواطنين في هذه القرية حرص على تغيير معيشتهم وأخذ شبابها كعمالة للمشاركة بأنفسهم في تمهيد الطريق وفي تزفيتها (سفلتتها) مع الشركة المختصة مع أخذ أجورهم مثلهم كمثل غيرهم من عمال الشركة فأنقذهم من البطالة وجعلهم بعملهم اكتساب دخل خاص بهم، وبكل اختصار شديد فتحت المدارس وتغيرت ألوان أطعمتهم وأشكال مبانيهم وفي فترة زمنية تغيَّر شكل القرية ودخلت وسائل العصر إليها من خدمات واصبح أهلها يعيشون حياة العصر.. معيشة ومعاشاً وصحة وكهرباء وماء وتعليماً وعملاً وتعاملاً مع غيرهم في بقية مدن المنطقة.

++
يتبع
ص.ب7967 / الرياض 11472

++
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved