الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th September,2006 العدد : 170

الأثنين 18 ,شعبان 1427

الإمام محمد عبده.. ولادة المثقف الحديث (5من 13)
التربية بين مسكويه وابن خلدون
د. عبدالرزاق عيد

ولهذا فقد انهمك بالتدريس فور تخرجه، إذ غدا التدريس هو المهنة الأكثر قرباً إلى نفسه وسجيته، فكان يدرس طوال يومه في الخارج (الأزهر)، والداخل (المنزل)... وكان الأفغاني هو المعلم الأول الذي استولى على شبابه الثوري الجامح في بداياته، فكان يلقي دروس الأفغاني على زملائه طلاب الأزهر حتى قبل تخرجه، ويدرس العلوم الجديدة التي تعرف عليها عبره وعبر التيار التجديدي في الأزهر، فراح يدرس كتب المنطق، والفلسفة، فقرأ لهم (ايساغوجي) في المنطق، و(شرح العقائد النفسية) لسعد التفتازاني.
وفي داره راح يقرأ على بعض تلاميذه بعض المؤلفات الفكرية الحديثة، وليس صدفة على مسار عقل الامام التنويري الإصلاحي، أن يكون كتاب مسكويه في (تهذيب الأخلاق) هو من أول الكتب التي أخذ بقراءتها على طلابه في الأزهر والبيت مما يظهر لنا الأثر الذي سيتركه على منظور فهم محمد عبده لمسألة الأخلاق، وهذا الكتاب هو الوحيد تقريباً في مجاله: علم الأخلاق في الفكر الإسلامي، ومن الواضح من عنوان الكتاب أنه يشير إلى وظيفة تربوية تثقيفية تنموية اجتماعية، رغم أنه بمثابة نسخة إسلامية عن الفلسفة الخلقية الإغريقية، إذ يستبطن الأطروحة المركزية في فلسفة القدماء القائمة على علاقة النفس بالبدن، حيث السعادة تكمن في سمو النفس إلى العالم العلوي الملائكي، حيث (المنازل) الشريفة التي لا يمكن النطق بها ولا الإشارة إليها إلا لمن وصل إليها... وحيث (الغنيُّ بذاته، الذي فاض بجوده على جميع الموجودات)، بينما يقوم الجسد بشد الإنسان إلى العالم السفلي ? وهذه حالة الذين يفتقدون الرؤية والفكرة والاختيار ? فهو ? الجسد يطلب (الانتكاس في الخلق والرجوع إلى مرتبة البهائم ومن هو في عدادها ممن خسر نفسه)، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} (15) سورة الزمر، ذلك هو جواب مسكويه: وهو أمير الأجوبة على ملكة المسائل: (وهي حرمان الفاضل وإدراك الناقص) الذي طرحه عليه أبو حيان التوحيدي في حوارهم الشهير في كتاب الهوامل والشوامل).
فتلك هي أمارات النزوع الإنساني للأنسنة، إذ تتمثل في القدرة الداخلية للبشر للانفتاح على الآخر دون تشنج أو تعصب أو انغلاق، ما دام الهدف هو اكتمال وحدة المعرفة الإنسانية والبحث عنها ولو في الصين، وذلك هو سر اختياره لكتاب الوزير الفرنسي (فرانسوا غيزو) عن المدنية الأوربية، وقد ترجمه إلى العربية الخواجة نعمة الله خوري تحت عنوان: (التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوربية).
المحطة خلدونية:
بعد فترة لاحقة 1878م، سيعين مدرساً للتاريخ بمدرسة (دار العلوم) التي أنشئت حديثاً لتزويد طلاب الأزهر، المعدين للقضاء أو التعليم في المدارس الحكومية، بثقافة ابن خلدون، التي كان قد نشرها الطهطاوي في القاهرة في 1857م، إذ قرأ على طلابه مقدمة ابن خلدون، ويبدو أنه استلهم مقدمة ابن خلدون، فألف كتاباً تحت عنوان: (علم الاجتماع والعمران) وقد ضاعت أصوله، في كل الأحوال.
إن اختيار ابن خلدون بعد اختيار مسكويه إنما هو دلالة وتعبير عن أفق المختار، وعن التوجهات المنهجية التي كان يريد التأصيل لها فكرياً وتربوياً وتعليمياً، وقد عين في تلك الفترة مدرساً للعلوم العربية في مدرستي الألسن والإدارة.
إن محطات تعرف العقل العربي الحديث على ابن خلدون إنما هو مؤشر دلالي على بداية استئناف دخول العرب في التاريخ، بعد أن رثاه ابن خلدون، فقد رثى ابن خلدون التاريخ إذ العرب يخرجون منه، وتتهاوى حضارتهم، ليغدو هذا التاريخ الذي كان تاريخ أحداث كبرى، وإنجازات عسكرية وسياسية وثقافية، مجرد ذكرى تستعيد الزمن وهو يسجل فراره باتجاه (التأخر، التخلف، التراجع) بذلك فقد كتب ابن خلدون للتاريخ فلسفة (تراجعه) عندما كتب مقدمته ليستلهم العبر من متوالية الهزائم التي لحقت بالأمة إلى اللحظة التي وقف نادباً راثياً (ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف المائة الثامنة (للهجرة = عصر ابن خلدون) من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وفل من حدها، وأوهن سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أحوالها، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار والمصانع، وخلت الديار والمنازل..... وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر في الإجابة).
وعلى هذا يمكن لنا أن نعاين خط سير الحداثة الفكرية العربية، في مسار تعاطي الفكر العربي الحديث مع مقدمة ابن خلدون، إذ تغدو اللحظة الأولى هي لحظة الطهطاوي الذي نشر المقدمة سنة 1857م، واللحظة الثانية هي لحظة محمد عبده الذي درس هذه المقدمة سنة 1878م بعد عشرين سنة على نشرها، واللحظة الثالثة هي لحظة طه حسين الذي سيضع رسالة دكتوراه عن فكر ابن خلدون ويناقشها في يناير سنة 1918م، أي بعد أربعين سنة من تدريس محمد عبده لها.
إن ابن خلدون الذي رصد لحظة الانهيار والاضمحلال والخمول والانقباض، كان يستشعر أن ثمة عصراً جديداً ينبثق، وهو عصر النهضة والتنوير والعلم والصناعة، فوصفه متنبأ به: (خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث).
هل كانت هذه الإشارات، النبوءات تومئ إلى عصر النهضة الأوربي، أم أن ابن خلدون كان يتصور أن العمران بلغ نهايته، وأنه حسب تصوره لفلسفة التاريخ الإسلامي القائمة على شكل دورة وليس خطاً مستقيماً لحركة الانتقال من (البداوة إلى الحضارة) بأن ثمة (نشأة مستأنفة) للحضارة العربية؟ لكن هذه النشأة المستأنفة لهذا العالم المستأنف، والخلق الجديد، كانت في الغرب الأوربي وليس إحدى دورات التاريخ الإسلامي!
وإن هذه النشأة المستأنفة تأخرت أربعة قرون، وهو تاريخ اكتشاف الطهطاوي للمقدمة في سنة 1857م كما أشرنا، لكنه خلق بطيء، وعالم محدث سيطول حدوثه، وإن كانت بشارة النشأة يستشعرها الطهطاوي ببهجة اكتشاف العالم الجديد، ويفرح بها عبده بتفاؤل وأمل كبير، وهو يحاول بقلق أن يمسك بزمام التقدم أو حركة الحداثة من أن تجتاح برياحها مراكب الأصالة، وموانئ التراث، وهو يقنع الجيل الجديد أن تراثه الإسلامي ليس عقبة أمام تقدمه أو عائقاً أمام انخراطه في العالم الحديث، في حين أن (العميد: طه حسين) حفيد الطهطاوي وابن محمد عبده جيلياً، عندما يحتفي بابن خلدون بعد الحرب العالمية الأولى، فإنما كان ممتلئاً ثقة بأننا قطعنا مع تراث القرون الوسطى، ومضى مع جيله بفرح الشباب يؤسسون لزمن جديد عماده العقلانية والتنوير والديموقراطية!
وفي المآل إن كل هذه التحولات من أسلوبية السجع المقيد إلى أسلوبية النثر الطليق، ليست تحولات في الأسلوبية اللغوية فحسب بل هي تحولات في الأسلوبية الحياتية (العقلية والثقافية والاجتماعية والسياسية)، بتفاعله العميق مع الفكر الاجتماعي لابن خلدون، والفلسفة الأخلاقية لمسكويه حيث ستجد نظائرها ومعادلاتها في الحيز السياسي متمثلاً بمشروع دستوري ديموقراطي لا يمكن أن يعبر عنه إلا بلغة حديثة لمثقف حديث، يكسر سلسلة قيود السجع عن بنية اللغة والسياسة والمجتمع للانطلاق باتجاه نثر الحياة الحديثة التي تشهد ولادة المثقف.
إن إخراج اللغة العربية من نظامها البياني والبلاغي، كان شرطاً ضرورياً لإخراجها من عوالم المجتمع الإقطاعي القروسطي الذي يرمز له بالسجع والمحسنات اللفظية الخارجية، ولعل النقلة التي أحدثها الإمام على مستوى البنية الأسلوبية بإطلاقها من قيودها وإرسالها نثراً طليقاً منفتحاً على الحياة، قادراً على الولوج في كل حيزاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كما كانت عليها في العصر الكلاسيكي العربي في القرن الثالث والرابع الهجري، ممثلة بأعظم رمزين نثريين لهذين القرنين: الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، هي من أهم النقلات في التاريخ الثقافي العربي، من خلال تحرير هذه اللغة من كل تراكمات عصور الانحطاط المماليكي والعثماني، والعودة بها إلى سلسلة العظام في القرنين الثالث والرابع الهجري.
ولا شك أن ظروف نشأته الصعبة أيضاً، ستورث الفتى نوعاً من الصلابة الداخلية التي تؤهله للمواجهة والمساجلة والمصاولة، بل والاعتداد والزهو بالنفس إلى الحد الذي قال عنه الخديوي عباس: (إنه يدخل علي كأنه فرعون!) (الأعمال الكاملة ج1 سبق ذكره ص23)
هذه الثقة التي ترشح عن كبرياء يستشعره (الخديوي) وكأنه تعالى عليه، لا يمكن أن يكون ثمرة النشأة المشار إليها فحسب، بل إنها ترشح عن هذا الروح الصوفي المترفع المتسامي الذي لا يأبه لأصحاب (الأمكنة العالية) بل لأصحاب (المكانات السامية) وفق تمييزات ابن عربي، هذا الروح الذي أخذه عن خاله الشيخ درويش وأستاذه الأفغاني وتغلغل في ثنايا نصوصه ورؤاه.


abdulrazakeid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved