الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th September,2006 العدد : 170

الأثنين 18 ,شعبان 1427

نحو نقد المثاقفة
العقل السعودي في الميزان* 3
ثورة التغير ووعي الشراكة
سهام القحطاني *
تدخلنا حتمية التغير إلى نسيج (الثقافة السننية) كما يسميها الطيب برغوث التي أثارها رأي محمد قطب في الجزء السابق من هذا المحور، والمناهض لفكرة ابن خلدون المباينة بالجملة. وما بين رأي ابن خلدون ورأي محمد قطب تتوسط جدلية النقل والعقل فاتحةً من خلالها ملف الوعي السنني والثقافة السننيية ودورهما في مسلّمة التغير ووعي التغيير.
لكن ابن خلدون له موقفه الخاص من جدلية النقل والعقل، فهو يرى أن العقل يتميز باليقين في غير أمور التوحيد، وما عدا علوم التوحيد فالعقل أجدر في التحكم بدلاً من النقل، (وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمح أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره؛ فإن ذلك طمع في محال)، (إن النبي ليعلمنا الشرائع ولم يُبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات) ابن خلدون. وهكذا يحتاط ابن خلدون لنفسه من سوء الظن الذي قد يوقعه في مذهب المعتزلة العقلي الخالص في جوهره، ويقربه القول السابق إلى المذهب الأشعري الذي اعتمد عليه كثير من مجدِّدي الفكر الإسلامي، كما أن رأيه يُبين عن علْمنة نتيجة المنهج الواقعي الذي تبناه الفكر الخلدوني وطبقه على تجربة العمران كونها تجربة ناتجة من خلال تحولات الواقع، باعتبار تغير المجتمع يتم وفق إرادة الحوادث والأحداث، بداية من اليومي المعيوش للفرد في مستواه الإنتاجي والاستهلاكي، مروراً بالظواهر الاجتماعية، والصراعات الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية والثورات السياسية؛ إذ إن الأزمة محفز للتغير غالباً، ومنتجة لفواعل اجتماعية تتناسب مع مواصفات المرحلة الجديدة، فدائماً كل تغير جديد في الأنظمة الاجتماعية ينتج طبقة جديدة من الفاعلين الاجتماعيين، وكل طبقة اجتماعية ناتجة لها ابتداعاتها الفكرية والسلوكية التي تجوّز بها مصالحها الظرفية.
لكن التغير والتغيير لن يكونا غالبين إلا إذا تجاوز النموذج الإصلاحي خاصيتي (الانتقاء والتلفيق)، أما إذا سعى إلى توفيرهما فالتغير الطارئ هو تغير شكلي، وهذا ما يجعل (منحى التحوّل مغلوباً) أدونيس. وينطبق هذا القول في محور آخر على (جيتو) الهجر والنسق الفكري لجماعة (الإخوان) الإنتاج الأبرز لمعايير ذلك الجيتو(....).
ويصف الدكتور عبد الله العروي الأسلوب الفكري لابن خلدون في ممارسة تجربة الواقع كمنهج للتنظير بقوله: (أنه ينتهي في الغالب إلى ما يقرره الفقيه السني الأصولي، لكن من مسلك مخالف يقدم دائماً المعقول على المنقول، حتى فيما يخص المسائل المحجوبة عن الإدراك، ينتهي إلى التفويض، لكن بعد إثبات عجز العقل عن طريق العقل في ميدان محدد عقلاً)(14).
والحقيقة أن كلمة التفويض التي استخدمها الدكتور العروي لا أدري إن كان يقصد بها المنهج القابض/ التأصيل كما أوحى للقارئ من خلال ذلك السياق، أم أنه أراد الدلالة الحقيقية للكلمة والتابعة لمذهب الأشاعرة التي يعرفها ابن تيمية (المفوضة: هم الذين يثبتون الصفات ويفوضون علم معانيها إلى الله، وأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات وعلم معانيها، ويفوضون علم كيفيتها إلى الله... ومن الخطأ القول بأن هذا هو مذهب السلف، كما نسب ذلك إليهم المتأخرون من الأشاعرة وغيرهم)(15).
لكن كيف يقرُّ العروي بأن فكر ابن خلدون سني أصولي، والتفويض خاصية تخرجه من مذهب أهل السنة والجماعة إلى الأشاعرة، هذا الخلط نتيجة أن الكثير يضم الأشاعرة إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وهو ما يفنِّده ابن تيمية ويشرحه ابن عثيمين يرحمه الله، (فالأشاعرة مثلاً والماتريدية لا يُعدُّون من أهل السنة والجماعة؛ لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثلاثة: سلفيون، وأشعريون، وماتريديون).
والأشاعرة هم أتباع أبي الحسن الأشعري الذي كان معتزلياً ثم ترك الاعتزال واتخذ مذهباً بين الاعتزال وأهل السنة والجماعة، ثم تاب وانضم لجماعة أحمد بن حنبل، وهم (أقرب فرق البدع والضلال لأهل السنة والجماعة وليسوا منهم) كما يقول محمد خليل هرّاس في شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية.
ويقوم منهج الأشاعرة على عدم التسليم بظاهر النص الذي يعتبر (كل محدث بدعة)، باعتبار وفق تصوره أن المحدثات من الضرورات، وهي نوعان: ما يُحدث مخالفة للكتاب أو السنة فهو بدعة ضلالة، والثاني ما يُحدث خيراً ولا يخالف أصلاً من أصول العقيدة الإسلامية. أما منطقهم في التأويل فهو يقوم على أن رفض التأويل كان أمراً مناسباً عندما لم تستدعِ الحاجة له، أما بعد ظهور البدع فلا بدَّ من إعمال العقل للرد على تلك البدع وحماية الأمة من الابتداع والفتنة، وهو ما يؤيده ابن خلدون من خلال تعريفه للمستوى الثاني من العقل؛ العقل التجريبي: (الفكر الذي يفيد الآراء والآداب في معاملة جنسه وسياستهم أكثرها تصديقات تحصل بالتجربة شيئاً فشيئاً حتى تتم الفائدة)(17).
أما العقل النظري عند ابن خلدون فهو يقوم مقام الوعي كمشروع ناجز، ولذا ينسب له حصول الحقيقة الإنسانية (الذي يفيد العلم بمطلوب، أو الظن وراء الحس لا يتعلق به عمل، وهو تصورات وتصديقات تنتظم انتظاماً خاصاً على شروط خاصة، فتفيد معلوماً آخر من جنسه في التصور أو التصديق ثم ينتظم مع غيره فتفيد معلوماً آخر كذلك، وغاية إفادته قصور الوجود على ما هو عليه بأجناسه وفصوله وأسبابه وعلله، فيكمل الفكر بذلك في حقيقته ويصير عقلاً محضاً ونفساً مدركة وهو معنى الحقيقة الإنسانية)(18)، وبذا يصبح عالم الأشياء عند العقل النظري معطى وإدراكاً، وهو ما يمنح الوعي خاصية (النسق) كما يقول هسرل؛ أي ترابط خبرات وعي الأفراد والجماعات، وهنا يدخل الوعي في علاقة حيوية مع الآخر من خلال معيار الشراكة في التجربة الحضارية.
ومن نافلة القول أن التراث الفكري للأشاعرة يزخر بنظريات تربوية عظيمة أسهمت في تطور عملية التعليم في زمن السلاجقة عندما كان فكر الأشاعرة هو المهيمن على استراتيجية النظام التعليمي في الدولة السلجوقية بفضل الوزير نظام الملك الذي بنى المدارس لتطبيق الفكر الأشعري منتصف القرن الخامس الهجري؛ مما أتاح للفكر الأشعري البروز والتأثير على ثقافة تلك الحقبة، وبخاصة التربوية، فأنتجت علماء عظماء؛ مثل: أبي حامد الغزالي، والقشيري، والخطيب البغدادي، والماوردي الذي تضم أفكاره شذرات لنظرية دولنة السياسة من خلال كتابه (أخلاق الملك وسياسة الملك)، وهو بذلك يعرض مشروعه الخاص في علْمنة الدولة عندما لا يجعل الدين وحده معيار بناء الدولة الإسلامية.
وتباعد مبادئ مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب الأشاعرة هو ما أشعل الصراع بين المذهبين على رغم محاولات التقريب والتدميج المقصودة بينهما من قبل الدولة السلجوقية في محاولة لإشاعة التعايش السلمي بينهما، لكن فشل هذه المحاولة جعل الدولة السلجوقية ترفع حصانتها التي كان يتمتع بها الفكر الأشاعري في الدولة السلجوقية، وكان طرد الشيخ أبي الفتح الاسفرائيني أبرز شيوخ الأشاعرة من بغداد برعاية الدولة السلجوقية مكسباً لمصلحة مذهب أهل السنة والجماعة، والحقيقة أن وصول الصراع بين المذهبين لدرجة الإقصاء ما كان سيتم لولا تنافس المذهبين على السيطرة على العقل السياسي السلجوقي، وهو ما يسعى إليه مذهب أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، باعتبار أن العلماء ورثة الأنبياء، وأن إسلامية الدولة لا تتم إلا بهيمنة السلطة الدينية على كل مرافق الدولة، وكانت السياسة والتعليم أهم تلك المرافق التي كان يسعى كل مذهب ديني للسيطرة عليها، وهذا ما جعل كلاً من شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية وعبد الرحمن اللمغاتي مدرس الحنفية يعترضان على فرض شروحات شيوخ الحنبلية بخاصة على مقررات المدرسة المستنصرية عام 645هـ بقولهم: (إن المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال)، لكن هذا لم يُثْنِ الوزير السلجوقي عن قراره وأمرهم بالتزام التراث واحترام المشايخ، فأجابوه بالسمع والطاعة.
إن الدين أساس التطور والحضارة، وبصرف النظر عمن يعتقد بعاطفية هذه العبارة أو لاهوتيتها تظل حقيقة وفق برهان التجربة، فالعرب قبل الإسلام كانت قبائل متفرقة دائمة التقاتل والسلب والنهب، لم يعرفوا وثائق الحقوق والواجبات إلا ما يفرضه عليهم قانون التحالف الذي يلغي الآخر وحقوقه، وكان الجهل والأمية والتخلف والتقليد تنخر عظامهم وعقولهم، فلم يهتموا بتربية القيم الحضارية للإنسان؛ كالسلام والحب والرحمة والعلم والمنجز الحضاري، ثم جاء الإسلام فحوّل القبائل المتفرقة إلى أمة، ورسم لها منهاجاً يربي النفوس والعقول، فكان الإنسان وكانت الحضارة. وهذه الفكرة ستكون حديث الجزء القادم من هذا المحور من خلال تحليل مضامين السلفية ودورها في تجربة التغير في شبه الجزيرة العربية، وهكذا يصبح تكرار التجربة التاريخية دلالة إحصائية (يفهم الإنسان نفسه من خلال التاريخ باعتباره عملية مستمرة من الفهم والتأويل، وهكذا يتغير ويتقدم ويتعدل)(19)، فالتاريخ يعيد نفسه، والإنسان (كائن تاريخي؛ بمعنى أن الإنسان يفهم نفسه لا من خلال التأمل العقلي بل من خلال التجارب الموضوعية للحياة)(20)، وبذلك تتحول التجربة التاريخية إلى تغذية راجعة عبر المقاربة والقياس كشريكين للفقه السنني في معيار استثمار التشابه بين الأزمان من خلال الأفعال الاجتماعية والظرفيات وهكذا، (... ويكون فهمنا للماضي أفضل كلما توفرت شروط موضوعية في الحاضر شبيهة بما كان في الماضي)(21).
ومتابعة تلك الفرضية يجعل الحديث عن رحلة التغير في حياة المجتمعات هو حديث بالغ التعقيد؛ لأنه يتطلب منا تفتيت تجربة التغير إلى أكبر عدد من الأجزاء ليتاح لنا فهم أعمق لها، وهذا يعني بدوره تحليل ضوابط ومعايير الوسط الذي تتطور فيه التجربة الإنسانية بما فيها مفهوم المجتمع، وهو لا يستقيم لنا دون العودة إلى جذور البنية المؤسسة لها وربطها بمقتضيات العناصر الأيديولوجية والاجتماعية والتاريخية والسياسية؛ إذ إن كل تلك المرجعيات تظل دوماً حوامل لكيفيات حركة التطور وسعة تحمّلها وتقبّلها للتغير والتغيير، لمجموع البنى الثابتة أو العكس، وهذا بدوره يدخلنا أيضاً إلى جدلية قوانين النسق بفرعياتها المختلفة.
التغير نظام جبري تخضع له كل المجتمعات الحيوية لا يُستثنى منه أحد كونه إحدى السنن الكونية الدافعة إلى قيمة التفاعل وتجديد خلايا التجربة البشرية، هذا الحراك هو ما يضمن لها مقاومة الفناء وتحفيز نهضتها عبر آليات التطور والتقدم وقدرتها على مداومة تصدير الخبرات المعرفية والاندماج في ذات الوقت مع الاستجابات المتفاعلة والمتوافقة مع الخبرات المستوردة عبر تعاقب الأجيال والمجتمعات.
فالوعي السنني بحتمية التغير والتغيير معطى أولي ومهم لدفع المجتمع نحو الثورة على قانون التقاليد كونها الإطار الذي تتحرك ضمنه الأفكار والأفعال ويكتسب منها الفعل الاجتماعي الحقيقة في إحدى أهم مستوياتها؛ أي (القيم) أشدّ حرّاس بوابة التقاليد، وهذا ما يُعسّر اختراق نصوص التقليد، إذ إن الممارسة الطقوسية للتقاليد تدخل ضمن نظام مخصوص من الأنشطة والأشكال والأفكار تبدو في أغلبها متناسقة مع محتوى نص التقليد، لكن يجب أن نضع في الاعتبار أن ذلك التناسق هو ناتج العادة وممارستها، وليس ناتج منهج علمي، وهذا لا يُضيّع بالطبع حق نص التقليد ومعيار العادة في أنهما محصول خبرة، لكن تكرار الأثر ليس شرطاً على الدوام على صحة المحصول؛ لأن تشابه الدوافع ووحدة البيئة والإيحاء لجسد التجربة بنوع الأثر الذي ينتجه عبر نظام النموذج المختزل للمقاربة والاقتداء يكرر الخبرة، والتكرار لا يعني الأصالة بالتأكيد وفق الكيفية السابقة.
إن تمثيل واصطناع الخبرة بتلك الكيفية هو سلب الإرادة الذاتية للإنسان، وضم أنا الفرد/ التفكير إلى العقل الجمعي/ التبعية كنشاط مرضيّ للجماعة، كما تعيد صياغة نص التقليد وفق النموذج المختزل، وهذا ما يجعل الفرد في صدام دائم مع النموذج المتغير المناقض لنص التقليد، وبذا يصبح نص التقليد أهم عوائق عملية التغير ووعي التغيير؛ لأنه يحرم المرء من خبرة التفكير؛ أي (احترام العقل وإعطاؤه حق المراجعة والإبداع في كل شيء، والمراجعة ترتبط بما هو شائع من أفكار وأخلاقيات وسلوكيات، والإبداع يتعلق بما يمكن استحداثه تلك المجالات الثلاثة، فتكون النتيجة أن التفكير يعني العقل، بينما يمثل التقليد موت العقل)(22).
إن نظام التغير، وإن بدا لنا بسيطاً، إلا أنه نظام معقد من الخبرات والتحديات والاستجابات، وقوة غامضة تتوسط طرفي نهايات وبدايات، فتصبح الأشياء بما فيها الإنسان أولها وآخرها غير مضمونة صحيّة المفاهيم كل شيء يتأرجح بين المؤقت والنسبي والسببي والغائي. نعم، بهذا المنطق نستطيع اعتبار التغير المانح الأول للانهائية للأشياء وللمفاهيم وحتى للإنسان الذي يخرجه التغير من سلطوية المنظور إلى فضاء التأمل اللامنتهي، هذه الصفرية لا تعني إلغاء مثبت المدرك في دلالاته المختلفة، بل تعني الاستعداد النفسي والفكري للتوافق مع مسوغات تجديد بنى المألوف الجمعي، وهو ما يمنح العقل الإنساني قيمة التفاعل مع الأشياء أو بصيغة أخرى (وعي التغيير).
الإحالات:(14) ص173، مفهوم العقل، عبد الله العروي.
(15) ص100، شرح العقيدة الواسطية، محمد خليل هرّاس.
(16) ص92، المرجع السابق.
(17) و(18)، ص519، مقدمة ابن خلدون.(19) و(20) و(21) ص28، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، نصر حامد أبو زيد.
(22) ص97، عن ثقافة النهضة، فيصل العوامي.


* أول دراسة سعودية في نقد المثاقفة

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved