الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th September,2006 العدد : 170

الأثنين 18 ,شعبان 1427

القاهرة.. والنسق الثقافي للشخصية المصرية
خالد الطويل

بعكس ال(خمس) مرات السابقة التي نزلت فيها قاهرة المعز، أو كما يحلو لعشاقها مناداتها ب(المحروسة) كانت ال(سادسة) مختلفة بكل شيء، بدءاً بمزاحمتي ركاب قطار (مترو الأنفاق) باتجاه السيد (العجمي)، وانتهاء بتناول كوب ال(كافي لاتيه) في فندق (قراند حياة) على شاطئ النيل الساحر.
كان كل شيء مختلف في تلك الجولة، التي لم تتجاوز خمسة عشر يوماً، وربما يكون لأحداث لبنان الجسيمة لا أعادها الله دورها الكبير في تشكيل ذائقتي الفكرية والنفسية والسياحية، وأنا أجوب شوارع ميدان (طلعت حرب) متنقلاً بين مكتبات (مدبولي)، وال(الشروق) وهيئة دار الكتاب المصري، وغيرها من مؤسسات ثقافية بحثاً عن مفردة هنا وهناك، أعلل بها روحي التي قتلها العطش في زمن عزت فيه الينابيع.
أردت في تلك (السادسة) فعلاً أن أمسك بتلابيب النسق الثقافي للشخصية المصرية الأصيلة بكافة شرائحها وشتى أطيافها، والتي قاد مفكروها ورموزها الأمة ذات يوم نحو مدارج الترقي والنماء.
وإن كانت الضريبة لفهم ذلك النسق ستكون بطبيعة الحال على حساب (معدتي) التي لم تتعود على التهام 3 سندوتشات (فول) و(طعمية) دفعة واحدة.
ولا حتى استنشاق كمية كبيرة من عوادم (تكاسي) الستينات الروسية، وأنا أذرع شوارع المحروسة طولاً وعرضاً.
ربما كان (عنوان) تلك الرحلة واضحاً صريحاً، من محل الإقامة الذي اخترته هذه المرة في فندق (نيل الزمالك) ذي ال(ثلاث نجمات) فقط، والمتواضع الأثاث والخدمة رغم قربه من شاطئ النيل، والغريب أنه كان يعج رغم ذلك بالخواجات وسكان شرق آسيا بكل جغرافيتهم، ولعل لهم المبرر في ذلك حين نعرف أنهم لا يهتمون في سياحتهم، منذ بزوغ نجمة الصباح، وتناول ال(بريك فاست) سوى بوضع حقيبة ال(هاند باق) على أكتافهم النحيلة، وهات يا (صرمعه) بين المتاحف وأهرامات الجيزة، والأقصر، وميدان التحرير، وقصور الثقافة، وغيرها من معالم.
على عكس بعض بني يعرب، الذين أشغلتهم معلقة مندي (المحضار والسمار)، بشارع جامعة الدول العربية، ومقهى (النيل الزمالك) ونايت ال(فور سيزن) وبهو (هلتون رمسيس)، وغيرها، عن سوالف الغربيين، وأصحاب العيون (الفطس) وسياحتهم..(اللي ما لها طعم)!.
وربما يكون لهم عذرهم أيضاً في ذلك، فالرئة التي تنفست التصحر المادي، والفكري والنفسي بكل تفاصيله لا يمكن لها أن تقف مخنوقة، لا تحرك ساكناً مع أنسام الحرية التي تهب عليها من كل اتجاه. عموماً.. وقفت بعد غياب طويل أتأمل الحبيبة التي تركتها قبل سنوات، يدفعني الشوق والحنين لمعرفة ما طرأ عليها منذ ذلك الحين، والغريب أن ضجيج مشهد المحروسة الذي لا يهدأ مع عربات (الكرو) ليل نهار، لا يجعلك تتأمل بدقة وهدوء ملامح ذلك التغيير والتطور والنبض المتوقع أن يدب في القاهرة (المكان والإنسان) كغيرها من مدن الأرض.
وربما يكون المشهد السياحي (مخادعاً) بطبيعته كما يقال فلا يمكنك أن تخترق النسيج باتجاه الجوهر، وأنت أمام حالة من الاستنفار السياحي الكبير الذي يمارسه صاحب ال(تكسي) وال(فندق)، والمحل التجاري وحتى عمنا (البواب)، وبائع (الكشري)، الذين من شأنهم تغييب وعيك تماماً عن متابعة تفاصيل (المشهد الحقيقي) والأصيل الذي تتمنى سبر أغواره بعد كل ذلك الغياب.
كانت القاهرة في ذهني ولا تزال (الحضن) الذي تحن إليه شجوني كل ما شطت بها مفاوز الخواء، وتباريح الزمن الساقط من رحم المعرفة.
ولست الوحيد الذي وقف على بابها متوسلاً بقلبها ونبضها وروحها حين عز الصديق وقل الناصر والمعين.
فلله در الغافين بتربها من (نفر) منحوا التاريخ ذات يوم إشراقاً عز نظيره في زمن الفجيعة المتلاطم.
كان لمقاهي القاهرة الشعبية العامرة بروادها نصيب الأسد من ذلك التجوال، وإن كان الحرص قد اقتصر هذه المرة على مقهى (زهرة البستان) الشبابي الملمح، ومقهى (الريش) ذلك الأخير الذي شهد مسامرات طويلة للعملاق نجيب محفوظ وصاحب التجليات جمال الغيطاني، وثلة من الأدباء والمفكرين الذين يحق لذلك القطر أن يرتقي فيهم كل مرقى.
أما مقهى (الحسين) الشهير بحي (الحسين)، والقريب من جامع الحسين رضي الله عنه فعلى قول الست (ياروحي عليه.. يا روحي عليه)، فلم يعد يربطه بالوهج الفكري والثقافي الذي ارتبط به سوى اسمه.. ورسمه بعد أن حولته ثقافة ال(بلوتوث) الهادرة، إلى مسرح للفارغين، والمستهترين، الذين لا يتجاوز أقصى طموحهم مسافة رسالة (جوال)، فارغة في انتظار (تعيسة) الحظ التي تستقبلها ذلك المساء.
كل ذلك بالطبع مدفوعاً بتوفير (بيئة) ضبابية من قبل أصحاب تلك المقاهي، الذين لا يعنيهم من ذلك المشهد (الساخر)، سوى جمع المزيد من العملات بشتى أنواعها، وإن كانوا مشاركين بطريقة ما في تبني ثقافة ال(عبث) تلك، حين أحالوا مقاهيهم التي حطت فيها رحال الكواكبي، ومحمد عبده وطه حسين وغيرهم من رجالات الفكر والأدب يلتقون بمريديهم إلى موائد للمسخرة وتبادل الأرقام والنظرات الملغومة بشكل فاضح.
كان لشارع الصحافة ب 26 يوليو نصيبه أيضاً من تلك الزيارة ال(خطافية)، حيث صحيفة الأهرام وأخبار اليوم والجمهورية وغيرها من مؤسسات صحفية أنجبت الكثير من عمالقة الفكر والأدب والفن والسياسة.
ولا أنسى اللقاء الأول الذي جمعني بصاحب كتاب (التجليات) ورئيس تحرير صحيفة أخبار الأدب السيد جمال الغيطاني، الذي سكنت القاهرة القديمة وعيه، وشكل الحسين رضي الله عنه، والتصوف الكثير من عوالمه الكتابية، وقد وجدته كما هو حال كل الجميلين في الأرض بسيطاً أنيقاً، كريماً في تعامله مع زواره ومريديه وتلاميذه من كل مكان.
وبالفعل وجدت ذلك الأديب الأريب كما قرأته في رواياته، ورحلاته الثقافية، واهتماماته بدءاً من ديوان (مختارات الحماسة) الذي كان يضعه على طاولته مباشرة، ومروراً بجملة من (الصور) الشخصية التي تتوزع في كل زوايا مكتبه.. ويبدو أن أصحابها يمثلون دوراً كبيراً في بناء شخصية الرجل الثقافية، وعالمه الروائي.
هكذا خرجت من مكتب الغيطاني، بعد أن فتح لي نوافذ.. ونوافذ من المعرفة، وبعد أن تعلمت من قلبه الكبير، وتواضعه الجم كيف يمكن للإنسان أن يكون نجماً (يسير على قدمين).
كانت المسافة بين دار أخبار الأدب وصحيفة الجمهورية كعادة القاهرة تعج بالبشر، بكل فئاتهم، ولم يكن من المستغرب أن تقابل أثناء تجوالك فناناً أو أديباً أو أستاذ فلسفة يحمل خبزاً أو كتاباً، ويزاحمك ذات الطريق.
سبحان الله! عنت لي لفته..
وأنا أتحدث مع أحد المؤلفين الكبار على ناصية أحد شوارع المحروسة، حول بعض المشتغلين بالثقافة لدينا، وقصة الحجب الضخمة التي تضرب حول مكاتبهم، فتذكرت كيف تحولت (الثقافة) لدينا بقدرة قادر من بناء الإنسان (الصحيح)، إلى الاشتغال القاتل على مسألة (تصنيمه). وعزله حتى عن حواسه!!


kdtwil@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved