الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 11th October,2004 العدد : 80

الأثنين 27 ,شعبان 1425

الأديب وسلطة المغني ولاعب الكرة ورجال الأعمال
عبدالله السمطي

إنها حقاً مهزلة.. هذا الواقع الذي يحياه الأديب العربي والمثقف العربي اليوم على كافة المستويات، لقد أصبح بحثه عن جاه الإبداع والكتابة في مهب الريح، فعالم المثل الأفلاطوني الذي يحياه أفضى به إلى أن يصبح اليوم في آخر السلم القيمي الاجتماعي.
الحديث هنا ليس على أشباه المثقفين والأدباء الذين قد يجدون مخرجاً هنا أو هناك، بإقامة العلاقات الحميمة مع الأنظمة التي يصبح بعدها من (أهل الثقة)، أو قد يعثرون على محطة فضائية كلامية، أو مع جهة أجنبية تصنع منه مبشراً، ومفكراً ليبرالياً تنويرياً في العالم الثالث المتخلف أو النامي.
الحديث عن المبدعين الحقيقيين الذين أخلصوا فحسب لإبداعهم، وأنتجوا بكثافة في مجالات مختلفة.
هؤلاء المبدعون يقاومون اليأس والإغراء، اليأس من هذا الواقع المحبط الذي يجعلهم بالكاد يقاسون حياتهم اليومية، أو يعايشونها، والإغراء الذي يتمثل في التحول والتخلي عن المبادئ والقيم، والرموز التي يحملونها أو تحملها كتاباتهم.
إنها حقاً مهزلة أن تحتفي المؤسسات الرسمية في بلادنا بالعابر والمؤقت والهزيل، وتترك ما هو قيمي أصيل، أن يتوجه الإعلام الرسمي في بلادنا العربية ويفرد بثه وصفحاته وشاشاته للسطحي والساذج، ويغفل عمّا يمثل الجوهر الحقيقي لعصب الأمة.
إنها حقاً مهزلة أن نرى الملايين تنفق في العبث واللعب واللهو، فيما نجد ميزانيات الثقافة لا تمثل 2% من ميزانيات الدول العربية، وينفق أغلبها لا على الثقافة، بل على من يديرون الأنشطة الثقافية من موظفين وعمال لا علاقة لهم بالفعل الثقافي الأصيل.
لقد أصبح أقل ما يتقاضاه مغنٍ أو مغنية من أية درجة يتراوح بين النصف مليون والمليون دولار، وانتقالات لاعبي الكرة العرب العاجزين في كل البطولات الإقليمية والدولية تتم صفقاتها بالملايين، أما المبدعون العرب فحدث ولا حرج.
فأقل ما يحلم به المبدع العربي هو طبع كتابه أو ديوانه الشعري أو روايته أو بحثه العلمي، وإذا طبع يظل سنوات وسنوات منتظراً أن تنفد هذه الطبعة التي لا تتجاوز على الأغلب الـ 3 آلاف نسخة.
أليس هذا واقع هزلي مضحك في أمة قوامها 300 مليون نسمة ؟!!
2
في القاهرة كنت أدخل ما يسمى ب: (أتيليه الأدباء والفنانين) فأجد مكاناً ضيقاً متواضعاً حشر فيه الحضور حشراً، وأجساماً اشتعلت رؤوسها شيباً، وشباناً تحدوهم الكآبة لا الأمل يناقشون قضايا مختلفة اجتماعية واقتصادية وربما ثقافية.. إنه مأزق الحياة الذي يعيشه المبدع العربي.. ولا تختلف الحال في البلاد العربية الأخرى من المحيط إلى الخليج.
ففي بلد عربي ناهض كالمملكة من المفترض أن يحتفي بالثقافة بشكل جاد وحيوي خاصة في هذا العصر المتلاطم.
إذا قادتك خطاك يوماً ما إلى نادي الرياض الأدبي ستجد مكاناً موحشاً مهجوراً إلا من (تكتكة) كيبورد الكومبيوتر الذي يستخدمه أحد الموظفين، ولا تشعر أبداً أنك في مكان من المفترض أن يكون مزدحماً محتشداً بالحضور الثقافي والإبداعي والفني، حتى حديقته الواسعة لا تقام فيها أية أنشطة سوى العشاء الذي يعقب إحدى الأمسيات الثقافية النادرة.
هل يحتاج المبدعون إلى عشاء؟ أم إلى غذاء روحي في تواصلهم وفي نقاشاتهم للقضايا الثقافية المختلفة؟ الأمر نفسه إذا دخلت إلى جمعية الثقافة والفنون المنزوية في مكان بعيد منعزل، أو على الأقل هذا ما يشعر به ذوو السيارات المنهكة أمثالنا من صعوبة الوصول إلى هذا المكان القصي المهجور إلا من موظفيه، أو من حارس البوابة المستريح تماماً لأن الحضور قليلٌ جداً.
إنها حقاً مهزلة.
أن يتوافد الناس بالآلاف على ملاعب الكرة وحفلات الغناء وأن يستطيع المرء أن يحصي على أصابع اليدين الحضور في ندوة ثقافية!!
3
ما هو موطن الخلل؟ ما الذي أفضى إلى هذه الصورة غير السوية؟ ما الذي جعل المفكر جمال حمدان يقضي حرقاً في شقته المتواضعة بعد أن اعتزل الناس؟
وأن يقتل الشاعر العراقي محمود البريكان في منزله عبر اللصوص الذين قصدوا إليه لسرقته؟ وأن يموت روائي مثل طاهر عوض سلام منسياً بعد أن تحول إلى فلاح يزرع أرضه تاركاً حرفة الأدب إلى حرفة الزراعة؟ وأن يحاول الروائي النوبي إدريس علي الانتحار وإلقاء نفسه في النيل أكثر من مرة، وما السبب في تشرد آلاف المبدعين والكتاب والتشكيليين والمثقفين في بلادنا العربية؟ أيحتاج المبدعون العرب إلى رابطة ثقافية عربية تلملم شتاتهم جميعا؟ لماذا ينفق المال العربي على التفاهات والأمور السطحية؟ هل هي ثقافة رجل الأعمال العربي الباحث أبداً عن الربح والمكسب ممتصاً به خلايا ودماء شعبه الكادح؟ أم هي ثقافة عامة للمال العربي حيث الربح هو القيمة الجوهرية دون نظر أو اعتبار لأية قيم دينية أو ثقافية أو اجتماعية أو إنسانية؟ أهذه أيضا من أسباب كنز من فازوا بجوائز مالية ضخمة من الأدباء لأموالهم من تقلبات الزمن بدلاً من أن يقوموا بإنشاء دار نشر أو مجلة ثقافية أو تبني مجموعة من الأدباء الشباب؟ كما يفعل أدباء الغرب؟! إننا نرى المال منسكباً سيالاً عند الحديث عن أهل المغنى الذين لا يغنون على الأغلب ولا يقدمون فناً له حضوره واستمراريته، وعند الحديث عن أهل كرة القدم واللاعبين والمدربين، ونراه شحيحاً جداً وخائفاً مذعوراً عندما يتعلق الأمر بالثقافة وأهل الفكر والعلم والإبداع..
فلماذا يحدث كل هذا؟ أعتقد أنه لا المغنون ولا القيان، ولا لاعبو الكرة، ولا أساتذة التدريب العباقرة، أو رجال الأعمال، ولا هيفاء وهبي أو نانسي عجرم، أو روبي، أو إليسا أو شعبان عبدالرحيم أو هالة سرحان أو برنامج من يربح المليون هم السبب..
فهؤلاء بريئون من ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب..
السبب في ذلك كله هو فشل السياسة التعليمية والتربوية والأكاديمية في عالمنا العربي.
فالمناهج يضعها موظفون، لا حس فيها ولا إحساس، ولا تربية ولا تثقيف، هناك في مدارسنا العربية مناهج محنطة، ومناهج أكل عليها الدهر وشرب، وسياسة تعليمية عتيقة، ومدرسون لا طموح علمي لهم سوى الدروس الخصوصية، وتلاميذ طموحهم الشهادة التي لا تتم بالعلم، بل بالدرس الخصوصي والهدايا والأموال.
ثم بعد الانتهاء من الدراسة يقومون بتمزيق الكتب ورميها في أقرب سلة مهملات..
إنها طريقة تعليمية تربوية بالية وهي التي أفضت بحضور هذه النماذج التي نراها في حياتنا، وأن يصبح المغني أو المغنية مليونيراً أو مليونيرة في ليلة وضحاها..
فيما المبدع العربي ينام على رصيف أفكاره، مفترشاً صفحات كتبه وأوراقه، ويتسكع في شوارع غربته ومأساته ضارباً كفاً بكف على تغير الأحوال..
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved