الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 11th October,2004 العدد : 80

الأثنين 27 ,شعبان 1425

التملص أو حسن التخلص
عبد السلام العجيلي

ما منا إلا من تعرّض لموقف حرج، أو لمواقف لم يجد ما يسعفه في الخلاص منها سرعة بديهة أو جميل تصرف. إلا أن الحظ الحسن قد يواتي أحدنا فيوفق من الخروج من مأزق تلك المواقف بسلام.
بعض هذه المواقف قليلة الخطر، والنجاة منها تثير الابتسام على الشفتين أكثر مما تثير الطمأنينة أو الافتخار. وسأعرض فيما يأتي لبعض أحداث أو مآزق أحرجتني في وقتها أو استدعت قلقي، إلا اني وفقت بالخلاص منها بطرق طالما أضحكت بها سامعيّ حين أرويها لهم.
وقفت في إحدى رحلاتي في مطار شارل دو غول في باريس أمام الموظفة التي تزن أمتعتي قبل الصعود إلى الطيارة في عودتي إلى دمشق. بعد أن وزنت تلك الموظفة حقيبة السفر ولم تجد فيها زيادة عن الحد المسموح به للراكب تطلعت إلى المعطف الثقيل الذي كنت أحمله على يدي وطلبت مني أن أعطيها إياه لتزنه مع الحقيبة. استغربت الطلب وقلت إن المعطف لا يحسب من جملة الأمتعة التي توزن. أصرت تلك السيدة بوقاحة، بل بلؤم، على أن تزن المعطف، فبادرت أمامها برفعه عن ذراعي وبارتدائه على جسدي. نظرت آنذاك إليّ بحنق، ولم تجد ما تتصرف به أمام قطعي الطريق عليها في وزن المعطف غير أن قالت مكرهة: أعجبتني.
وفي باريس أيضاً، وقبل عدة عقود من السنين، كنت ذاهباً لمقابلة في معهد كان موعدي فيه في ساعة معينة بعد الظهر. كنت أتوقع أن يطول انتظاري قبل أن يأتي دوري في المقابلة، فاشتريت في طريقي كتاباً لأقطع الوقت بقراءته ريثما يحين الدور. كان الكتاب مؤلفاً من ملازم كانت كما في كتب تلك الايام غير مقطعة، بمعنى انه كان عليّ ان افص الملازم بآلة حادة لتتحرر أوراقها وأتمكن من تقليب صفحاتها. في ردهة انتظار المعهد رحت أقرأ الكتاب. ولما لم أكن أحمل موسى أو آلة أقطع بها الملازم، رحت أفض أوراقها بأصابعي وبالطبع لم يكن فضي لها دقيقاً، فكانت الصفحات تتشرذم والأوراق تتمزق بصورة غير منتظمة. سمعت وأنا أفعل ذلك صوت سيدة من المنتظرين كانت تجلس في مقعد يجاورني تقول لي، وبلهجة حادة: يا سيد، لو كنت زوجي لغرست سكيناً بين كتفيك. دهشت من هذه العبارة من جارتي التي لم أكن قد اهتممت بها حين جلست إلى جوارها ولا توجهت إليها بكلمة، فتطلعت إليها مستغرباً وقلت لها: ماذا صدر مني حيالك يا سيدتي حتى تتوجهي إليّ بهذا الكلام؟ قالت: لأنك تتصرف في معاملتك للكتاب بصورة وحشية. كيف تعامل هذا الشيء الثمين، الذي هو الكتاب، بهذا الشكل؟ تمزق ملازمه بأصابعك وتشرذم حوافي ورقاته بهذه الطيرقة التي تفض الملازم بها؟
لم يلبث الاستغراب والحنق اللذان تملكاني لما نطقت به جارتي أن فارقاني حين عرفت دافعها إلى ما قالته. ابتسمت وقلت لها: أعذريني يا سيدتي. أنت تعطين وريقات هذا الكتاب قيمة أكبر مما تستحق. أنا عربي، ونحن العرب نقول (العلم في الصدور لا في السطور). نطقت بهذه الحكمة باللغة العربية ثم ترجمتها لها بالفرنسية، وتابعت أقول: المهم يا سيدتي في هذا الكتاب هو العلم الذي يحتويه. ومنذ قرأته انتقل هذا العلم من سطوره إلى صدري. بهذا أصبحت أوراقه من سقط المتاع، وسأتخلص منها عند أول منعطف في طريقي.
سكتت جارتي للحظات كأنها كانت تتملّى مما قلته. ثم ما لبثت أن قالت: إذا كان هذا، فأنا أعتذر إليك. كلامك معقول، والحق معك في أن العلم مكانه في الصدور أكثر مما يكون في السطور.
هذه وتلك حدثتا في باريس، في فرنسا. أما في ألمانيا فقد قبلت في مدينة شتوتغارت دعوة صديقة لي إلى الغداء في مطعم على سفح جبل قريب من المدينة. قالت لي بعد أن انتهينا من غدائنا: ما رأيك أن نسير على أقدامنا إلى قمة الجبل القريبة ونتناول فاكهتنا بين الأشجار هناك؟ الاطلالة على الوادي من القمة جميلة والنسيم فيها عليل. قبلت اقتراحها وحملت هي فاكهة المطعم في كيس ورق وقصدنا القمة ماشين. جلسنا على صخرتين في الأرض المعشوشة ورحنا نتناول الفاكهة، تناولت أنا من الكيس موزة كبيرة والتهمتها ببطء، وحين فرغت منها طوحت بقشرها قاذفاً به بعيداً إلى الأرض العراء المحيطة بنا. رفعت رفيقتي يدها بحركة سريعة وبدا على ملامحها الاستنكار وهي تقول بلهجة عتاب لا تخلو من حدة: لا تفعل هذا، أرجوك.. القشر نضعه في الكيس ونعود به إلى حيث نلقيه في المكان المخصص لمثله.
أدركت من حدة عتاب الصديقة أني أتيت أمراً إدّا في نظرها، وفي نظر الوسط الذي هي من أهله بلاشك، بإلقائي قشرة موزة في أرض عراء لابد أنها ستحكم عليّ بنقص في التهذيب وببعد عن التحضر وبجهل بضرورات الحفاظ على سلامة البيئة. كان عليّ أن أعتذر عمّا فعلته لاسترد بعض ما يمكن لفعلتي أن تنقص من تقديرها لي. ولكني لم أفعل بل سلكت في استعادة مكانتي عندها طريقاً آخر. قلت لها: أعذريني يا عزيزتي إذا قلت لك إنك أسأت فهمي حين قذفت بهذه القشرة النباتية على الأرض المعشبة وبين أشجار هذه القمة. قشرة الموز ليست معدنا لا يذوب أو ورقة جامدة لا شيء حيوياً فيها. إنها مادة عضوية، فهي لا تلبث بفعل الرطوبة والهواء أن تتفتت وتتخمر وتتحول إلى ذراتها المكونة لها فتصبح سماداً تتشربه جذور الأعشاب والأشجار التي تظلل هذه الأعشاب.
ورحت أتفاصح في الحديث عن حاجة النباتات المنعزلة على القمة إلى التغذية بأسمدة عضوية، قشر الموز منها في الصميم. تطلعت صديقتي الألمانية إليّ منبهرة بغزارة معارفي في علم النبات.. وما ملكت إلا أن تقول: إذا كان هذا فأنا أعتذر عن ملاحظتي التي أبديتها، الحق معك، والشكر لك على ما فعلته.
كل هذه مآزق خفيفة أفلحت في التخلص منها بما يدعو إلى الابتسام ولكن مأزقاً من نوع آخر وجدتني مزجوجاً فيه ذات يوم كان ممكناً له أن ينتهي بي إلى نتيجة غير محمودة. هذا المأزق الأخير مررت به أيام دراستي الطب في الجامعة. فقد أضيفت في ذلك الزمن إلى برامج السنة الرابعة من تعليمنا مادة جديدة اسمها الطبيعة الطبية، يتولى تدريسنا إياها أستاذ علم الغرائز، أي الفيزيولوجيا. لم نر وجه ذلك الأستاذ في أي فصل من فصول تلك الدراسة، فقد أوكل الأمر فيها إلى مساعده. إلا أنه في نهاية العام تولى بشخصه أمر امتحاننا في هذه المادة الجديدة: ومن هنا جاء المأزق الذي زججت فيه.
العادة في امتحانات آخر العام كانت أن يجريها أستاذ المادة ويحضر جلساتها معه أستاذان جامعيان آخران يسميان مميزين. تقدمت أنا إلى امتحان مادة الطبيعة الطبية في آخر العام مع رفاق صفي أمام أستاذها الأصيل، وقد أسلفت القول إننا لم نر وجهه في كل السنة الدراسية الفائتة.
عندما حان دوري في الفحص مد الأستاذ يده إليّ بالكيس الذي يحتوي صفيحات نحاسية مدورة مسجل عليها أرقام هي أرقام الأسئلة المكتوبة في جدول مبسوط على المنضدة أمام الأستاذ وزميليه الآخرين. دسست أصابعي في ذلك الكيس وتناولت منه واحدة من تلك الصفيحات، وكان الرقم عليها هو 21 ثبت الأستاذ نظارتيه على عينيه وتطلع إلى الجدول أمامه، ثم رفع رأسه عنه بسرعة وهو يقول: حسناً يا بني.. السؤال ذو الرقم 21 هو الكهرباء الجوية.. حدثنا إذن عمّا تعرفه عن الكهرباء الجوية.
كنت على معرفة تامة بالمادة التي تقدمت للامتحان فيها، أعني مادة الطبيعة الطبية لم يكن فيها أي فصل عنوانه الكهرباء الجوية. كانت هناك (الكهرباء الحيوية). وما حدث أن الأستاذ الذي كان على جهل تام بالمادة المفروض أنه المدرس لها لم يحسن قراءة الاسم في الجدول أمامه، أو أنه أسرع في القراءة، فقرأ الحيوية جوية! وها أنا مطالب منه أن أتكلم عن أمر ليس له وجود في الكتب ولا في الدروس التي تلقيناها في هذه المادة طيلة العام المنقضي.
ماذا كان عليّ أن أفعل؟ تزاحمت الأفكار في رأسي وتصادمت. لو نبهت الأستاذ إلى خطئه في تسمية السؤال لكشفت جهله المطبق بالمادة التي يمتحني بها، ولفضحته أمام زميليه المشاركين له في جلسة الامتحان هذه.. وكنت أعرف طباع أستاذي هذا. سيمتلئ صدره حقداً ونقمة عليّ، وسينزل بي أقصى الضرر. إنه يطلب مني أن أتكلم عن الكهرباء الجوية.. فلأفعل إذن ما يريده، ولو لم يكن للكهرباء الجوية أي ذكر في مقرر الطبيعة الطبية.
وهذا ما فعلته يومذاك حقا. انطلقت في الحديث عن انشحان غيوم السماء بشحنات كهربائية إيجابية، في حين أن سطوح البحيرات والأنهار مشحونة بكهرباء سلبية. وقلت إن الظروف التي تتعرض لها عناصر الطبيعة هذه تستدعي اصطدام الشحنات الإيجابية بالسلبية، مما يؤدي إلى انطلاق شرارات تتصور رعوداً وعواصف وصواعق وأمطار.. ورحت أتحدث بإسهاب عن أمور مثل هذه غير متلعثم ولا متوقف.. تبينت في ملامح أستاذي رضاه عن غزارة المعلومات التي كنت أنفضها أمامه في موضوع الكهرباء الجوية، ورأيته يطرق بقلمه المنضدة أمامه مقاطعاً سيل فصاحتي بقوله: أحسنت يا بني.. يكفي هذا وفقك الله.
ولقد وفقني الله حقاً يومذاك حين ألهمني الابتعاد عن تصحيح خطأ أستاذي في قراءة السؤال رقم 21 في الجدول أمامه. وكانت حصيلة هذا التوفيق أني حزت من أستاذي المبجل ذاك على علامة 18 على 20 وقطعاً ما كنت لأحوز على هذه العلامة لو كنت تحدثت عن معلوماتي عن السؤال الأصيل وهو سؤال الطبيعة الحيوية.
نعم إنه مأزق آخر تملصت منه، أو أحسنت منه التخلص بغير الطرق التي تخلصت بها من المآزق الأخرى، وكان الخطر فيه جد مختلف عمّا كانت هذه المآزق الأخرى جديرة بأن تعرضني إليه من أخطار.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved