الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 12th January,2004 العدد : 43

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1424

مساقات
سُلْطَةُ التَّلَقِّي!
د. عبدالله الفيفي

للتلقّي سُلْطته (بضم فسكون، وربما أحياناً: بفتح ففتح!) على النصّ في توجيهه وجهةً تأوليّة، تتساوق وذوق الجماهير أو ذوق المرحلة. لكن سُلْطة التلقّي قديماً لم تكن تقتصر على اطلاق أحكامها على النصّ وحده، بل تتعدى ذلك إلى الناصّ «منشئ النصّ». وما ألقاب الشعراء، كالممزّق، وأفنوان، والمتلمّس، ونحوها، إلاّ شواهد على ذلك.
1
ينقل (ابن منظور)1 عن لقب (الممزّق) مثلاً: قال (ابن بري): وحكى المفضّل الضبي عن أحمد اللغوي أنّ المُمزّق العبدي سُمِّي بذلك لقوله:
فمن مبلغ النعمان أنّ أخته
على العين يعتاد الصَّفا ويمزِّقُ
... قال: وهذا يقوّي قول (الجوهري)2 في كسر الزاي في الممزّق. إلاّ أن (ابن منظور) ذكر أن المعروف في البيت (يمرّق)، (بالراء المهملة)، بمعنى يغنّي. فلا حجة فيه عندئذ لأن الزاي فيه تصحيف3. وعلى هذا جاء البيت في ديوان (المفضليّات) (بالراء المهملة)، دون إشارة من قِبَل المحقِّقَين في أيٍّ من الموضعين اللذين تكرر فيهما البيت إلى الرواية الأخرى التي ساقها ابن منظور، أو التفات إلى تناقض رواية الكلمة (بالزاي) مع ما نقله ابن منظور آنفاً من حكاية المفضّل الصريحة في تعليل تلقيب المُمزّق بهذا اللقب.
فإذا صحّت رواية المفضّل (الزائية تلك)، كان مظهر التكرار للمفردة الشعرية سبباً رديفاً من أسباب تلقيب الشاعر بمفردة من شعره. ولقد ارتضى الشاعر نفسه لقبه هذا فأطلقه على نفسه في شعره، إذ قال:
وقال جميعُ الناس: أين مصيرُنا
فأضمر منها خُبْثَ نفسٍ مُمَزّق4
2
ومن هؤلاء الشعراء الذين لُقّبوا بكلمات من شعرهم (أُفْنُون، وهو: صريم بن معشر، ت. 564م). الذي قيل إنه لُقّب بهذا اللقب لقوله:
منَّيتنا الودَّ يا مضنونُ مضنونا
أزماننا إن للشبّان أُفْنونا
ولذلك وقع اختلافهم في معنى (أُفْنون) هاهنا5. غير أن ما يظهر على شعر هذا الشاعر من مسحة بديعية من جناس، وطباق، ومقابلة، وردّ عجز على صدر، وهو ما لم يكن للجاهليين غالباً تعلّق به يطرح سؤلاً عن علاقة أخرى للقب الشاعر بتلك الأفانين البديعية اللافتة في شعره؟ من نحو ما يُلحظ في أبياته أيضاً6:
3. فطأْ مُعْرِضاً إنّ الحتوف كثيرة
وإنّك لا تُبْقي بمالِكَ باقيا
4. لعمرك ما يدري امرؤٌ كيف يتّقِي
إذا هو لم يجعل له الله واقيا
5. كفى حزناً أن يرحل الحيّ غدوةً
وأُصبح في أعلى إلاهةَ ثاويا.
6. سألتُ قومي وقد سدّت أباعرهمْ
ما بين رحبةَ ذاتِ العِيْصِ والعَدَنِ
7. إذْ قرّبوا لابن سَوّار أباعرهمْ
لله درّ عطاءٍ كانَ ذا غَبَنِ
8. أنّى جَزَوا عامراً سُوأَى بفعلهُمِ
أم كيف يجزوني السُّوأى منَ الحَسَنِ
9. أم كيف ينفع ما تُعْطي العَلُوقُ به
رِئمانُ أَنْفٍ إذا ما ضُنَّ باللَّبَنِ.
لعمرك ما عمرو بن هند إذا دعا
لتخدم أُمّي أُمّه بموفّق
لم يقل أحدٌ قطّ إن هذا التطابق بين لقب الشاعر وصبغة شعره البديعية كان وراء تلقيبه ب(أُفْنون)، وإنما انصبّ النظر على كلمة (أُفْنون) في بيته المشار إليه. ولذا فإن الباحث، إذ يسجّل ملحوظته الاحتمالية هذه، لا يملك دليلاً قطعيّاً على أن لقب (أُفْنون) كان يحمل لدى مطْلقيه أبعد من مجرد الإشارة إلى كلمةٍ استخدمها الشاعر. وعليه يظل هذا اللقب مندرجاً في فئة الألقاب الشعرية التي أُطْلقتْ على أصحابها بسبب شوارد من مفرداتهم الشعرية، بالرغم من علاقته بطبيعة أسلوب (أُفْنون).
3
ومن هؤلاء الشعراء الذين غلبت عليهم مفردة من شعرهم: (المتلمّس، جرير بن عبدالمسيح الضبّعي، ت. نحو 569م). فقد لُقّب بالمتلمّس لقوله:
فهذا أوانُ العِرض جُنّ ذُبابُهُ
زنابيرُه والأزرقُ المُتَلَمِّسُ
ولابدّ أن كلمة (متلمّس) في هذا البيت قد أثارت المتلقّي المعاصر للشاعر (فالتمس) منها لقباً له، على غرار ما مرّ في المساق السابق، (العدد 39، من المجلة الثقافية)، في ألقاب بعض الشعراء. ومع أن كتب التراجم وتواريخ الأدب لا تُنبئ عن شيء وراء ما لفت الأنظار إلى كلمة الشاعر فجعلها لقباً كما أن تلك الكتب تمرّ على وصف (ذباب الرياض) جمع روضة ب(المتلمّس) دون تفسير، بل دون إشارة إلى أن الذباب قد وُصف بهذا الوصف عند غير هذا الشاعر إلاّ أنه يمكن استشفاف موقفٍ ما وراء التلقيب بالمتلمّس، يتعلّق بأوّلية الشاعر في وصف ذلك النوع من الذباب بصفة (التلمّس). تلك الأوّلية التي قد تكون لفتت المتلقين إلى الإجادة في وصف ذلك النوع من الذباب، أو ربما بتكلّف ذلك الوصف واجتلابه من أجل القافية. فإذا بصنيع الشاعر يرتدّ عليه لقباً لا يفارقه. ولعلّ الاحتمال الأول أرجح، وذلك بمرجّح ارتياح الشاعر إلى لقبه هذا واستعماله إيّاه في شعره، كقوله:
أودَى الذي عَلِقَ الصحيفةَ منهما
ونجا، حِذارَ حبائهِ، المتلمّسُ7
على أن إقرار الشاعر بلقبه لا يدلّ بالضرورة على أنه قد كان لَقَبَ استحسانٍ لوصف الشاعر، بل إن الاحتمال الآخر لواردٌ كذلك. فقد كان معاصروه يعيبون عليه بعض تعبيراته وصوره، وهو المضروب فيه المثل بقولهم: (استنوق الجمل!)، حينما وصف الجمل بما يناسب الناقة، فقال:
وقد أتناسى الهمَّ عندَ احتضاره
بناجٍ عليه الصَّيْعَريّةُ مُكْدِمِ
فسمعه ابن أخته (طرفة بن العبد) فقال قولته التي سارت مثلاً: (استنوق الجمل!)8. (ترى هل تجرؤ الثقافة النقدية اليوم على مثل هذا الذي فعل طرفةُ بخاله، حيث تعلو سُلْطةُ التلّقي سُلْطةَ النصّ، وإن عاضدتها سُلْطة العلاقة الاجتماعية؟!)
شعرية قالها، أصابت عند متلقّيه استجابة، إيجابية أو سلبية.
إحالات:
1 ابن منظور، لسان العرب، (مزق).
2 صحاح اللغة، قارن: (مزق).
3 (م.ن.).
4 الضبّي، (د.ت)، المفضليات، تح. أحمد محمد شاكر وعبدالسلام محمد هارون (القاهرة: دار المعارف)، ص302: 7، ص433: 8.
5 انظر: العبادلة، عثمان محمد، (1991)، ألقاب الشعراء بين الجاهلية والإسلام، (القاهرة: دار النهضة العربية)، 16.
6 الضبي، 261 263؛ ابن قتيبة، (1966)، الشعر والشعراء، تح. أحمد محمد شاكر (القاهرة: دار المعارف)، 419.
7 ابن قتيبة، 179.
8 انظر: م.ن.، 183.


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved