الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 12th January,2004 العدد : 43

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1424

الرواء الديني والفني
في بيتي النميري
قراءة ثانية وفق منهج لغوي
عبدالرحمن بن حسن المحسني
إضاءة
جاء في الموشح للمرزباني ما نصه: «.. لما أنشد الراعي عبدالملك بن مروان قصيدته فبلغ قوله: «الكامل»
أخليفة الرحمن إنا معشر
حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا
حق الزكاة منزلاً تنزيلاً
فقال له عبدالملك: ليس هذا شعراً، هذا شرح إسلام، وقراءة آية أ.ه.
مدخل
سر خلود النص المبدع في تعدد قراءاته، وفي قدرته على التماس مع روح القارئ.. والنص في تفاعله مع القارئ لا يعيش بمنأى عن ملابسات الرأي الناقد رضاً أو سخطا مهما حاولنا أن نتجرد من ذاتيتنا، وبعيدا عن استقصاء تلك العلاقة التي كانت تشكل قراءة عبدالملك لتجربة النميري، فباستقصائها كانت بلا شك ستفتح أبواباً لتقويم أكثر إنصافاً بعيدا عن ذلك، وبعيداً أيضاً عن متابعة الأنساق الشعرية الأخرى للشاعر ذاته التي وقف بها أمام عبدالملك، ووقف بها عبدالملك أمام الراعي ناقدا، بل بعيدا عن الأجواء والأصوات الشاعرة التي كانت تحيط بعبدالملك بعيدا عن ذلك كله مع أهميته الكبيرة في فهم الموقف؛ بعيدا عن ذلك.. دعونا نقف وقفة أخرى أمام هذين البيتين فقط بحثا عن شاعرية ذات رواء، أو كأني أحسبها كذلك..
إلى النص
وبداية فإن الشاعر قدَّم نداء استخدم فيه الهمزة، وهو نداء يحمل جوانب تنبيهية لمخاطب لعله كان لاهياً أو متشاغلاً عن التفاعل مع تجربة الشاعر، ثم إن الشاعر استخدم الإضافة إلى الرحمن مسبغاً صفة الرحمة التي يرتجيها الشاعر، وهو يخاطب عبدالملك بيد أنه اختار صفة الرحمن بدلا من صفة الملك التي ترتبط بذاتية الممدوح والتي من لازمتها الجبروت والتملك، وما يستتبع ذلك من صفات كأن الشاعر بهذه الإضافة والنداء قد جرَّد عبدالملك منها أو كاد مقدماً بالتنبيه له أنه خليفة الرحمن وهكذا يجب أن يكون؛ أنت لست خليفة الملك والسلطة بل أنت خليفة الرحمة، وهكذا يجب أن تكون، وأن تنتبه لذلك..
«إنا معشر» تحمل هذه المفردة كغيرها من مفردات البيتين رواء، فإن كان يعبر عن ذاته فقد ضخم نفسه متجاوزاً السلطة التي تقف أمامه، وهو يتحدث كأنه أمة في رجل، وإن كان التعبير على اطلاقه فهو رجل يتحدث باسم أمة، مستخدما أدوات التوكيد والتعظيم، والتفخيم، ولا يخفى أن الشاعر كان دقيقاً في استخدام لفظة معشر دون غيرها، وهي تحمل رواء دينياً له مرجعيته الرامزة التي تنقل الصورة وظلها، وتذكر خليفة الرحمن. بنصوص القرآن {يّا مّعًشّرّ الجنَ وّالإنسٌ إنٌ اسًتّطّعًتٍمً أّن تّنفٍذٍوا مٌنً أّقًطّارٌ السماوات وّالأّرًضٌ فّانفٍذٍوا لا تّنفٍذٍونّ إلاَّ بٌسٍلًطّانُ}.
«يا معشر الشباب» استخدام اللفظة ذات الإيحاء والبعد المرجعي عند الشاعر والمخاطب، تحمل قيمة توجيهية تذكيرية أجاد الشاعر في استخدامها.
ومن خلال حنفاء نجد أبعادا مغرقة في التخيل مبعدة في الرؤيا تمتح من الحنفية الأولى.. إن هذه المفردة اللغوية تتحرك بالنص للتماس مع النص القرآني، وتفجر بطاقتها صورة من التعالي على شخص الممدوح. كما تحمل دلالة ضرورة الوعي بقدرة الله {حٍنّفّاءّ لٌلَّهٌ غّيًرّ مٍشًرٌكٌينّ بٌهٌ وّمّن يٍشًرٌكً بٌاللَّهٌ فّكّأّنَّمّا خّرَّ مٌنّ السماء..} وإذن فإن الشاعر يحمل نصه توجيها وتذكيراً لا مدحا، تذكير بقدرة الله وأن من أشرك في خوفه أو طلبه سيكون مصيره.. إن النص لا يخاطب مستخدما لغة مجردة بل إن الشاعر أجاد باستخداماته اللغوية ذات الإيحاء والبعد الديني.
ثم أتبع هذه الكلمة الدالة، نسجد بكرة وأصيلا، واختيار ركن السجود دون غيره ليس اعتباطياً بل له دلالته.. فلعبد الملك أن يعي هذه اللغة المتعالية في النص فالتواضع والخضوع، والسجود كلها لله، .. واختيار البكرة والأصيل تحديد وتأطير للفعل المتواضع الذي لا يكون إلا الله في كل تحركات الزمن؛ وانى لمثل هذه اللغة أن تتوافق مع ذاتية عبدالملك التي عرفت بنوع من الغطرسة، وقطعا لو وقف الراعي أمام خليفة كعمر بن عبدالعزيز لاختلفت لغته تماما.. ولعلنا نلاحظ أن ثمة تواؤما داخل هذا البيت في أنساقه الداخلية بدءاً من التنبيه والنداء وانتهاء بالروي، ولئن أردنا أن نضع له عنوانا افتراضيا فلقد يصدق أن نقول: «لا عظمة إلا لله».
ولعل مما جعل عبدالملك يمتعض أكثر هو تذكيره بالزكاة في هذا الموقف ولماذا الزكاة بالذات دون غيرها من أركان الإسلام كالحج والصوم؟ لكأن الراعي يطعن بخفية في التوزيع المالي للدولة، فنحن نرى الزكاة فرضا، فرضها الله ونزلها تنزيلا، إن الراعي كما يبدو ليس طالب عطاء قدر ما هو طالب حق يرى الزكاة عليه حقا لا تفضل متفضل، ثم إن الاستخدام الفجائي، لكلمة عرب في مطلع هذا البيت يحمل دلالات تخويفية. ولأن هذا البيت مشبع بالروح الدينية وباللغة القرآنية والمخاطب مستحضر للغة الخطاب، فإن الشاعر حرك نص البيت بالكلمة الأولى عرب إلى مساقات عربية تحمل خشونة الأعراب وجفاءهم وغلظتهم وإصرارهم على طلب حقهم في المال، كما حركت هذه الكلمة القبس الديني القرآني الذي يختفي وراءها {الأّعًرّابٍ أّشّدٍَ كٍفًرْا $ّنٌفّاقْ.. } الآية وهذا يؤكد أن الراعي ليس طالب نوال متفضل بل هو طالب حق شرعي واجب.. إما ديناً وزكاة، أو عروبة كما كان الرسول يستميل بالزكاة قلوب الأعراب..
لقد فطن عبدالملك إلى هذه الصورة الرامزة، فأصدر حكما نقديا يدفع إلى تجاوز هذين البيتين، وتمويههما على القارئ على الرغم من حمولاتها الدلالية كما وضح.. وهي على تلك الحمولات الدلالية لا تخلو من ملامح فنية يمكن تلخيصها في الآتي:
1 المزاوجة بين أسلوبي الإنشاء والخبر.. «أخليفة الرحمن.. إنا معشر» نموذج.
2 التناص الديني: «إنا معشر، حنفاء، بكرة وأصيلا، عرب، منزلاً تنزيلا».
3 التوكيد: «إنا معشر».
4 التكرار الدال.. «منزلاً تنزيلاً».
5 التضاد «بكرة.. وأصيلا» «عرب فرض الزكاة» تضاد معنوي.
6 التقديم والتأخير في النسق التعبيري «نرى لله في أموالنا حق الزكاة».
7 اللغة الإيحائية الدالة: «أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا، عرب فرض الزكاة منزلا تنزيلاً».
8 حرص الشاعر على اختيار روى دال فاستخدم «لا» وفي تكرارها في القصيدة دلالة على المنع المتكرر من الممدوح.
خاتمة
لقد أحس عبدالملك بذوقه العالي أن الشاعر لا يحمل مدحا قدر ما يحمل قدحا، ونصيحة ورسالة وتوجيها، وما كان له أن يرضى قط أن راعي الإبل يعلمه أمور سياسته، ويهذب سلوكه، فأصدر هذا الحكم عليه. لا تخلو الأبيات من الفنية والدلالة، بل لما تحمله من مضامين توجيهية تتعالى في لغتها على سلطة الممدوح.. إن عبدالملك بهذا القرار النقدي التمويهي أراد أن يصرف المتلقي عن الأبيات ذات المضامين، وذات الرؤى المغيبة التي تحرف مسارات النص إلى الرؤية المثالية للسلوك الواجب.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved