Culture Magazine Monday  12/02/2007 G Issue 186
نصوص
الأثنين 24 ,محرم 1428   العدد  186
 
انكسار
جمعان الكرت - الباحة

 

 

ثمّة حزن يشوب وجهه هذا الصباح.. كنت أظن أن السبب في ذلك اختلال أوقات الاستيقاظ إذ كان يمرح بهناءة خلال إجازته. هذا الاعتقاد لم يكن جازماً.. بدلالة استيقاظه المبكر يوم الخميس الذي يصادف السوق الشعبي.. ربما لهذا الكم من الكتب التي ضاقت بها حقيبته..

كنت أناظر عينيّ ابني اللتين كان يورايهما مرتاباً.. أيقنت أنه يخفي عني شيئاً لا يجرؤ الإفصاح عنه.. قلت هل توّد شيئاً...؟ لمحني بشكل سريع وعيناه تفيضان بدموع ساخة.. وقال بصوت مرتبك خافت: لا يا أبي.

وانصرف إلى الباب الخارجي حاملاً حقيبته وحزناً ثقيلاً.. لم أتمكن من معرفة الأسباب وقتها.. وددت الحديث مع والدته.. إلا أنها تمتعض لحديث يخصّ ابنها في مثل هذا الوقت المبكر من النهار بل تنثر كلمات غاضبات...

جاء وفمه مليئاً بالاحتجاج. وما أن توسّط صالون المنزل حتى قذف بالحقيبة.. وأباح بكلمة واحدة: المعلم.. وقعد على الأريكة، وبدأ ينتحب.. ضمته أمه، وأحنت رأسها لتستنطقه.. كان على وجهها خريطة من الغضب والحزن..

اشرعت سؤالاً من لساني.. ما الأمر؟

قالت: المعلم.

- ما به يقسو على ابننا بكلمات نابية يشبهه بالحمار ويصفه بالبلادة.

ما أن أرسلت الشمس حزمها الدافئة على منازل القرية.. حتى وقفت بجوار ابني في طابور الصباح. كان وجودي يمثل علامة فارقة.. ويثير تعجب المعلمين والطلاب.. أصررت على البقاء. حين انتهى الاصطفاف الصباحي انعطفت وابني إلى حجرة المدير.. لم أر ابتسامة على وجهه..

قلت: ابني.. ابني..

لمحني ورّد بصوت مسترخ: ما به..؟

قلت: يحمل حزناً ساعة بدء العام الدراسي..

قال:.. ولِمَ تحمِّلنا أحزان الطلاب؟

قلت: يأتون وهم يحملون باقات السعادة وقلائد الفرح وحزم التفاؤل إلا أنهم يرمونها على عتبة مدرستكم.

قال: وهل تظن أننا نبيع أحزاناً وأوهاماً وتأويلات لا لزوم لها؟

قلت: إذا.. لماذا تنطفئ روح السعادة عن هذه الوجوه البريئة..؟ أجبني لماذا؟

قال: هذا شأنكم أنتم ولا دخل للمدرسة به.

لمح ابني انكسار نظرتي. عدت أدراجي.. كاد ابني يتشبّث بي. إلا أنني أزحت يده بحنو وقلت: عليك الذهاب إلى رفاقك في الفصل..

نظر إليّ بحزن عميق.. وحمل حقيبته ومشى بتباطؤ...

ذهبت إلى العمل وكنت وقتها أفكّر عما إذا كان صدر مني هفوة. أو أخطأت في كلماتي المقتضبة أمام المدير.. كدت أرجع إليه لاعتذر وبشدة إلا أنني أرجأت القرار لوقت آخر.

لم أفاجأ بمسحة الحزن التي علت وجه ابني، ولم أحاول الدخول في حديث ممضّ مع زوجتي. وخرجت من المنزل مرتبكاً مشتت الذهن.

وفور وصولي إلى الشارع شاهدت حروفاً ملونة تبكي بحرقة.. تحاول جاهدة التشبث بمشجب خشبي عملاق انتصب وسط الطريق.. كان وقتها يقهقه بنشوة ملأت آذان المارة سخاماً نتناً، فيما استمرت الحروف تمرغ أنوفها وأشدّ ما آلمني نظراته المثخنة بالغطرسة حين يجول ببصره لمشاهدة تلك الحروف الشفّافة والجريحة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة