Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

بانتظار التتمة
د.شهلا العجيلي

 

 

لعلّ عقدة النفط، بما خلقته من حالات تملّقيّة أو إقصائيّة، هي التي أخّرت الاهتمام والترويج الذي يستحقّه مشروع الدكتور عبدالله الغذامي في الثقافة العربيّة، والذي يمكن أن نقول إنّه المشروع الأكثر تكاملاً الذي مرّ على الثقافة العربيّة في العصر الحديث بفلسفته، وبتطبيقاته الإجرائيّة على هذه الثقافة بوصفها نسقاً، إذ يعدّ الدكتور عبدالله الغذامي واحداً من أهمّ النقاد العرب المعاصرين الذين يمتلكون مشروعاً نقديّاً حداثيّاً متكاملاً، ينطلق من النصّ باتجاه الحياة.

ويبدو لمتتبّع مسار حركة التاريخ الأدبيّ أنّ النقد الثقافيّ ذو طبيعة شموليّة تتناسب مع كلّ من الظرف التاريخيّ العالميّ منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين من جهة، وتستوعب آداب الثقافات كلّها من جهة أخرى، ذلك أنّ هذا النقد يقوم على فكرة الخصوصيّة.

فعلى الرغم من عموميّة الرؤية، والأداة، تخضع التطبيقات للخصوصيّة التي تمليها البنية الثقافيّة ذاتها، وتتيح هذه الممارسة النقديّة للنصوص الأدبيّة إمكانيّة التكيّف مع إجراءات هذا المدخل، لأنّه ينطلق من رؤية ثقافيّة نسبيّة، لا من إيديولوجيا مطلقة، ورؤيته تنبعث من منطلق فكريّ يرى أنّ ثمّة ثقافة متميّزة لكلّ بنية اجتماعيّة محدّدة.

يوازي مفهوم الرؤية التي نتكلّم عليها في النقد الثقافيّ بوصفها بديلاً عن المنهج، ما يشير إليه بعض المفكّرين بأن النقد الثقافيّ هو نشاط، وليس مجالاً معرفيّاً خاصّاً بذاته، يستخدم فيه النقّاد المفاهيم التي قدّمتها المدارس الاجتماعيّة والنفسيّة والسياسيّة في تراكيب وتباديل معيّنة، ثمّ يطبّقونها على الفنون الراقية، والثقافة الشعبيّة.

يتميّز مشروع الدكتور الغذّامي في النقد الثقافيّ بالتركيز على عناصر العملية الإبداعية جميعها، فلا يقصي أيّاً منها، ثمّ هو يخرج من النصّ إلى الثقافة، أي ينتقل من نقد النصّ إلى نقد المؤسسة، وهنا مكمن النخبويّة والخطورة فيه، إذ لا يمكن وضع هذا المشروع الذي يكشف عيوب الثقافة التراكميّة في متناول العامّة، ولا يمكن تحريض هذه العامّة على النسق لأنّ النسق يحمي، فمن الخطر هتك ستر الثقافة أمام الجميع، وتجريدها من قدسيّتها بكشف حيلها، وتسويغاتها، وتحديداتها لفضاءات المتن والهامش، لأنّ لذلك كلّه دور في الحفاظ على الوجود، والهويّة.

ليس ثمّة مكان للحياد البارد في الثقافة، بالنسبة للعامّة، فإمّا أن تكون من ثقافتك وإمّا ألاّ تكون منها، ذلك أنّ حتميّة التاريخ اقتضت أن نكون شعوباً ما بعد استعمارية، وأن تكون ثقافتنا ثقافة مقاومة، تحوّلت من مقاومة المستعمر على المستوى الجماعيّ إلى مقاومة أية سلطة تحاول إقصاء الفرد أو تهميشه، وإنّ أي فهم خاطئ من قبل العامّة لمفهوم المقاومة مثلاً بوصفه تجلّ لسلطة النسق سيحمل تبعات خطيرة ليس أعظمها التخاذل أو التخوين.

لذلك كلّه نعدّ هذا المشروع نخبويّاً بامتياز، ولو حرصت النخبة على الشغل عليه، لكان علاجاً ناجعاً يشكم جور السلطة، ويكشف آليّات قلب الأدوار فيها، وتحولاتها من اليمين إلى اليسار وبالعكس.

لقد وجدت في مشروع الدكتور الغذّامي إجابات أكاديميّة ممنهجة لعدّة تساؤلات كانت قد أثيرت في ذهني في مرحلة ما، وذلك في إضافته الوظيفة النسقيّة لوظائف اللغة الستة التي اقترحها جاكبسون، وما يتبعها من كلامه على الجملة النسقية، فإذا كنت شخصيّاً لا أستسيغ الطعوم الحلوة، فلماذا علي أن أنعت محبوبي بالعسل! وإذاكنت أحب الحامض بشغف، فلماذا يغضب المحبوب إذا وصفته بالليمون مثلاً! ولم تمّ تقريع علي بن الجهم، والتشكيك في شاعريّته حينما أريد تسييد ثقافة المدينة (بغداد)، فلم يعترف به حتّى نطق بنموذج المدينة الثقافيّ!

وكيف خرج الأندلسيّ بشعره في سابقة ثقافيّة باتجاه السفرجل، وهكذا... لكنّ التماهي مع مشروع الدكتور الغذامي قد يحوّل حياة المثقّف إلى حالة حصار، وشعور مستمرّ بالمؤامرة من قبل أي آخر، سواء أكان أمّاً، أم أباً، أم سياسيّاً، فيصير المرء كائناً سلبيّاً يشكّ في كل شيء، ويخضعه للمساءلة، بدءاً بطريقة شرب الماء وانتهاء بكتابة الرواية.

كما أنّه في جانب منه يسلب المثقّف قواه محوّلاً إيّاه أداة أو لعبة بيد الثقافة في مستواها الأنثروبولوجيّ، في الوقت ذاته يجعل هذا المثقّف والمبدع خاصّة واعياً بالعملية الإبداعية، مدركاً لما يريد تمريره عبر الكتابة، وما يريد إخفاءه أو تحويره.

لمواجهة هذه الإشكاليّة، قد نجد إمكانيّة لتحويل السلبية التي يعمل النقد الثقافي على تسييرنا باتجاهها إلى إيجابيّة، وذلك بتوظيف قوّة النسق، التي تكتشف بالنقد الثقافي، بما يخدم الكتابة في كونها تكريساً لخصوصية النسق لتكون مختلفة، وذات هويّة جليّة.

مانزال ننتظر من الدكتور الغذّامي المزيد من العمل على هذا المشروع، ننتظر تطبيقات على المرويات السردية في التراث بحجم تطب يقاته على الشعر، ثمّ على السرديّة العربيّة في العصر الحديث، سيّما التخييليّة منها، التي لا بد من الخروج بالشغل عليها، كما أجد، بنتائج مغايرة حدّ المفاجأة.

كلّ التقدير للدكتور عبد الله الغذّامي ولمنجزه الثقافيّ، تقديراً كما يودّه، سواء أكان منضوياً تحت سلطة النسق، أم خارجاً عليها!

سورية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة