Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

الغذامي بين النزوع السردي وسلطة الريادة ـ نبيل سليمان
نبيل سليمان *

 

 

منذ فجّر عبدالله الغذامي قنبلة كتابه (الخطيئة والتكفير 1985) بدا تلك الشخصية العلمية الصارمة، والتي ستوطد صورتها كتبه النظرية والنقدية التالية. بيد أن سرديات الغذامي الجهيرة أو المواربة في (رحلة إلى جمهورية النظرية 1992 - حكاية سحارة، حكايات وأكاذيب 1999 - حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية 2004) تكشف شخصية أخرى في الشخصية المنذورة للعلم و - مرة أخرى - الصارمة. إنها شخصية المولع بالسرد والممارس له، وإن يكن الصراع بين الشخصيتين، وفي السرديات إياها، يظل ناشباً، والكفة ترجح فيه مرة لهذه الشخصية وأخرى لتلك، مما يذكر بالازدواجية المماثلة لإدوار سعيد بين سردياته وفكرياته.

1 - النزوع السردي:

لجلاء ما في عبدالله الغذامي من شخصية السارد أو الحكواتي أو القاص، هو ذا كتابه (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية). والأمر يبدأ منذ العتبة الأولى: العنوان.. إنها حكاية، وهي أيضاً شهادة كما سيبدأ الغذامي القول في مقدمة الكتاب: (هذه شهادة لشاهد من أهلها، أروي فيها حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية). والشهادة والحكاية هما أيضاً قصة وسيرة، فالرجل يقول: (في هذا الكتاب نروي هذه القصة التي هي حكاية مجتمع وسيرة أفكار) ويقول: (ولقد حاولت في هذا الكتاب أن أروي القصة كما شاهدتها، ولقد حاصرت نفسي في الحكايات التي كنت أنا طرفاً فيها. ولذا فإن الكتاب يمزج بين الشخصي والموضوعي (...) وهي قصص تحكي قصة مجتمع وقصة ثقافة، وهي قصة في صراع الأنساق، ولهذا قررت أن أرويها).

قد يبدو الكاتب، عبر ذلك لا يمايز بين الشهادة والقصة والسيرة والحكاية، أو إنه في تزجية إجازة من الصرامة العلمية، لكن ذلك ليس بالمهم، فالمهم والأهم هو ما ينطوي عليه كل ذلك من السردية. ولعل الكاتب يضيء الالتباس أو المرادفة أو التزجية في قوله: (إن القصص الاجتماعية حكايات وهي في الوقت ذاته رموز كاشفة. وفي هذا الكتاب استخدمت القصص والمواقف بما أنها علامات ثقافية تخبر عن النسق الثقافي وعن المضمر الاجتماعي، ورويت ما حدث على أنه سيرة وحكاية لمجتمع لا يريد الحداثة ويشك فيها، وعبّر عن موقفه هذا بواسطة منظومة من الرموز والقصص هي في مقام البيان التاريخي عن تحوّل...). وسوف تتعدد أوصاف الحكاية التي لولاها ما كان هذا الكتاب، ومن ذلك: (حكاية الحداثة في السعودية حكاية ملحمية وغير عادية، ولذلك صار هذا الكتاب). كما إن الكاتب سيظل يبدي ويعيد في إضاءة الحكاية، كأن يقول: (وما الحداثة إلا حكاية ستساعدنا على التعرف على المشهد الذهني لأبطال القصة وللمشهد الاجتماعي، كعينة بشرية وحضارية على النموذج العربي العام). وكذلك هو ما نصّ عليه الكاتب من أن حكايته حكاية اجتماعية تقوم على حبكة محكمة، ظل فيها الجميع أطرافاً في تمثيلها وتمثّلها، سواء أكانوا معها أم ضدها أم محايدين.

تتعلق الحكاية بالمعركة الثقافية الضارية التي نشبت في السعودية إثر صدور كتاب الغذامي: (الخطيئة والتكفير) واستمرت عقداً خرجت خلاله إلى الفضاء الثقافي العربي، وجلجلت فيها الأصوات التي ترمي الغذامي بالخيانة والماسونية والعلمانية والتغريب والشيوعية والإلحاد... وعبر الغذامي كانت الحداثة هدفاً للرماية. وقد ساق الكاتب الحكاية بتفريعها حكايات لا يفتأ المفكر يتدخل فيها، منظراً أو محللاً أو شارحاً، ورغم ذلك استطاع الأس السردي أن يحفظ للحكاية - الحكايات قوامها.

تلك هي حكاية تأسيس (الهجر) أي حكاية توطين البادية إبان قيام المملكة العربية السعودية. ومن ذلك العهد المبكر تلك هي حكاية الرائدين محمد حسن عواد وحمزة شحاته، والتي ترسم ما يراه الكاتب بدايات الحداثة الثقافية في السعودية. وفي هذا السياق تبرز الشخصية (الروائية) محمد سرور الصبان. ثم تبرز السيرة الذاتية للغذامي في شطرها المتعلق بدراسته الثانوية والجامعية، مما تعنون بـ (الجامعة أو الأميرة النائمة). وبمثل هذا العنوان الفرعي أو العتبة الفرعية ستلوح السردية في حكايات شتى، كحكاية (جيل الكعكة) الذي توهجت شعلته الإبداعية والنقدية في السعودية في الثمانينات من القرن الماضي، ثم اختفى. وهذه أيضاً وحكاية (الغين والقاف) عن الصراع بين الكاتب ومحمد المليباري الذي كتب ثلاثين مقالة خلال ثلاث سنوات عن (الخطيئة والتكفير) مفاخراً بأنه لم ولن يقرأ الكتاب. والمليباري هنا أو حيث ظهر في الحكايات الأخرى يبدو أيضاً شخصية روائية، مثله مثل سعد البازعي وعلي العمير وسعيد السريحي ومن سماه الكاتب (حمدوس).

يترامى زمن الحكاية - الحكايات بين مطلع القرن العشرين ونهايته، لترسم موجة الحداثة الرائدة كما مرّ للتوّ، فموجة الحداثة الثانية في أواخر الستينيات، وعلى إيقاع هزيمة 67، حيث برز سعد الحميدين وعلي الدميني وفوزية أبو خالد وأحمد الصالح وغازي القصيبي، وأخيراً: الموجة الثالثة أو حكاية الغذامي الكبرى. وقبل أن نصل إليها ينبغي أن يشار إلى حكاية حي (الملز) في الرياض قبل نصف قرن، وحكاية (ظهور المثقفة) في السعودية في شخص خيرية السقاف (1965) وثريا مقبل (1963) وحكاية (الخفار وطهور القارئة) والخفار هو حفل إعلان تحجب البنت في سن التاسعة. وعن العقد التالي تأتي حكاية (الطفرة) التي تشتبك بذكريات الكاتب عن الدراسة في بريطانيا. وفي هذه الحكاية يذهب الغذامي إلى أن المجتمع كله صار (حكاية بل ملحمة خيالية أو أسطورية) ثم يشبه الأمر بنص سردي، وفيه تصوير بديع لدخول العمالة إلى المنازل وما طرأ من شعرية تجارية بلاغية ومن ظهور اللغة العقارية أو لغة العقار الطافر.

أما الحكاية الكبرى أو الموجة الثالثة، فالكاتب يسميها (صدمة الحداثة) ويعلن أنه، ابتداءً منها، لن يتمكن من أن يكون موضوعياً مهما حاول، لذلك سيختلط في أوراقه الذاتي بالموضوعي. بل هو يعتذر من قرائه وقارئاته على غوصه في الذاتية إلى أعمق أعماقها، ويقول: (ولتكن سيرة ذاتية، وإن كنت أراها سيرة أفكار وليست سيرة شخص. ولكن هل هناك من فرق..؟!).

ها هنا تتتوج السردية - فيما يقارب ثلث الكتاب - بالسيرية التي ستنهج النهج الحكائي أيضاً، فيروي الكاتب حكاية وقوف بعض الأكاديميين العائدين من الخارج على الحياد في معركة كتاب (الخطيئة والتكفير)، ويروي حكاية (البحث عن فرصة) عن الندوة التي لم تعقد غي مهرجان الجنادرية بين الغذامي والشيباني، وحكاية طه حسين (السعودي) في حوار بين أحمد الضبيب ومحمد رضا نصر الله، وحكاية الغذامي مع جامعة جدة، منذ تأسيسه لقسم اللغة العربية فيها إلى نشوب المعركة، وكذلك حكاية انتقاله إلى جامعة الرياض، وحكاية المؤامرة في أمسية شعرية، وحكاية جماعة (منطق النص) أما حكاية (حمدوس، المريد والمراد) فهي أشبه بفصل من رواية، سمّى فيه الكاتبُ المخبرَ الذي تعقبه عامين بـ(حمدوس) ورسمه كشخصية روائية بخفة دمه وسوالفه الشعبية والقبلية وبمنح الكاتب له الفرصة كي يعرف عنه كل شيء في بيته وعمله..

تستأثر تفاصيل معركة الغذامي في الجامعة والمجتمع بالشطر الأكبر من هذه السيرة التي مالت فيها اللغة عن النهج العلمي الصارم لتغوص في الجواني، كما يليق بالسردية الذاتية، وحسبي تمثيلاً لذلك هذا المقطع: (كان الخطر في كل مكان، في الشارع والمسجد والجامعة، وصرت أرى وجوه الناس وهي تحاصرني إذا مررت في مكان عام، وكأنها تنظر إلى مجرم خطر أو متسلل متربص، وصار الناس يستكثرون طرح السلام علي، ولا يردون سلامي بل يحذرون من الوقوف بقربي أو التحدث معي، وتعرضت بناتي في المدرسة إلى كلام من المدرسات فيه وصف لأبيهن بأنه كافر، وتلقى والدي اتصالات هاتفية من أناس كثيرين يقولون له إن ابنك ملحد ومفسد، وزادت الحملة حتى صار أصدقاء لي يحذرونني من ترك نافذة سيارتي مفتوحة أثناء وقوفي أو مروري، خشية تعرضي لخطر أو تلبيسي تهمة من نوع ما).

عبر ذلك، وكما في سائر الكتاب، لن توفر الشخصية العلمية فرصة للحضور، مزاحمةً الشخصية المولعة بالسرد والممارسة له، فنقرأ أن الحداثة سمة عصرية وقدر لأي مجتمع حديث، ونقرأ أن سعد البازعي هو الحداثي اللاحداثي، وهو (الحداثي النسقي) أي الحداثي الرجعي، وكمثال (للتحايل النسقي)، كما نقرأ أن دخول للعمالة للمنازل يمثل متغيراً اجتماعياً حداثياً صارخاً، وأن الطفرة معلم حداثي له منافعه مثلما له أضراره. وفي الحديث عن النسق يتحدث الكاتب عن آليات الرد النسقي المؤسس على المحافظة. كما يتحدث عن الجامعة كقلعة للثبات وكمدرسة للأعراف والتقاليد الصارمة، هي أقرب إلى رفض التغيير الذي يأتي من أكاديميين أفراد، وليس من هذه المؤسسة..

يشبه الغذامي كتابه بقنبلة علمية. ويرى أن الكتاب جاء في وقته، لا قبل ولا بعد، لأن البطل التراجيدي المنتظرَ قد ظهر. ولقد أعادني الكتاب إلى سبعينيات القرن الماضي في سورية، حيث نشبت معارك ثقافية عديدة، كنت من أبطالها غير التراجيديين ولا المنتظرَين، ومن تلك المعارك جاء الكتاب المشترك لمحمد كامل الخطيب وبوعلي ياسين ولي (معارك ثقافية في سورية)، وعلى الرغم من أن المعارك الثقافية العربية قد تناءت منذ ذلك الحين، كما تساخفت، فهي تظل ضرورة كما يدلل كتاب الغذامي، على الرغم من إسفاف الخصوم ووحشيتهم، مما تمثله الوثائق التي ألحقها الكاتب بالكتاب، بشجاعة نادرة. أما الأهم فهو أن يجيز الغذامي من حين إلى حين الشخصية العلمية الصارمة، ويفسح للشخصية المولعة بالسرد والممارسة له، كي تحقق ما تعد به سردياتها المنجزة.

2 - سلطة الريادة:

ينسب عبد الله الغذامي لنفسه نوعاً من الريادة (لا المحلية فحسب، بل والعربية)، وتمثلت في كتابه (الخطيئة والتكفير). والرجل يجزم أنه لم يكن أمامه أي تمهيد في الثقافة العربية (بإطلاق) حول هذا المصطلح الجديد (الخطيئة والتكفير)، والذي كان الأمريكي دي مان واحداً ممن نقلوه إلى النقد الأدبي. ويعزز الغذامي ريادة كتابه إذْ يجزم بأنه لم يكن واحد من أساتذة النقد وعلوم اللغة العرب الأمريكيين قد سمع بذلك المصطلح، فهل تحقق من صدقية هذا الحكم القاطع، ليس بتداول أولاء الأساتذة جميعاً للمصطلح، بل حتى بالسماع به، أم هي نفثة الكليم بعد قرابة عقدين من صدور الكتاب الرائد؟ تراها أيضاً غواية الريادة التي جعلت الكاتب يرى كتابه تحولاً في مسار النقد والنظرية النقدية، أو تحولاً في الفكر الحداثي لأنه نقل السؤال من الإبداع إلى الفكر النقدي، ولأن الكاتب جعل النقد بذاته قضية وتفكيكاً وتشريحاً، وليس تفسيراً وتأويلاً؟

لناقديّ النقد ولمؤرخيه أن يؤيدوا هذا الحكم القاطع أو يعقلوه، دون يؤثر ذلك في ريادة الغذامي الأولى التي ستشفعها ريادات أخرى. غير أن الإشارة تظل معلقة إلى أن الريادة في النظرية والفكر، إنما تمهّد لها جهود، وهي (كثيرة) بقدر ما تتجسد في فرد بعينه. كما أن الإشارة تظل معلقة إلى ما للريادة من نرجسيتها أو اندفاعاتها أو أفخاخها، دون أن يقلل ذلك من شأنها.

يقول الغذامي في (حكاية الحداثة...) إن (كل سوري ومصري ومغربي سيقبلون بالحداثة الجذرية في مجتمعاتهم ولكنهم سيقاتلون ضد تحول السعودية إلى الحداثة بمعناها الجذري). أليس هذا بالتعميم المردود، مثله مثل التعميم في قول الكاتب في الكتاب نفسه بأن النسق أقوى من أن ينهزم، وبأننا جميعاً (نتائج ثقافية لنسق أصلي واحد)؟.

لقد جاءت الريادة الثانية للغذامي في كتابه (النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية - 2000). وكما رأينا، كان لهذه الريادة رجعها فيما كتب (سرد) الكاتب عن الريادة الأولى. وقد يكون للمرء أن يتساءل بصدد الريادة الثانية عن دعوى أزلية الأنساق الثقافية وغلبتها دائماً، مع أنها تاريخية؟ وماذا عن إعلان الغذامي عن موت النقد الأدبي؟ ماذا عن افتتانه بالنقد الثقافي كبديل للنقد الأدبي؟

لقد أعاد النقد الثقافي الاعتبار للسياقات المنتجة - للنص، بعد ما طال يباس النص تحت راية الجمالي والفني. والنقد الثقافي كالنقد النسوي وغيره من خطاب ما بعد الكولونيالية، محفوف بمزلق تهميش الجمالي الكامن في الإبداعات الأدبية والفنية. فبقدر ما هو مهم أن يجلو النقد الثقافي دنيوية النص - رحم الله إدوار سعيد - من المهم أيضاً ألاّ يغيّب الأدبيةَ الحفرُ فيما وراءها. وحسبُ النقد الثقافي أنه أنهى التحريم على الناقد من أن يشغّل أسئلة السياسة والتاريخ، بدعوى أنها غير جمالية. حسبُ النقد الثقافي أن يضيء الهامش والمغيّب، ويرد الاعتبار لما ينطوي عليه النص من قيم غير جمالية. ولكن هل يستقيم ذلك - مثلاً - مع الإغراض في اختيار نماذج شعرية تعبر عن نسق رسمي منافق ومداح، وإغفال ما ينقص ذلك في المدونة التراثية العربية العتيدة؟

في كتاب قديم للغذامي هو (ثقافة الأسئلة: مقالات في النقد والنظرية - 1992) يبدو الافتتان بمقولة موت المؤلف، حيث تذهب دلالاتها إلى الوفاة أو التخفي باسم مستعار ثم الظهور المدرّع، أو... فالموت ليس نهائياً. ولكن هل هذا هو موت المؤلف، أم إن موت المؤلف هو كما قال محمد لطفي اليوسفي (ليس مجرد مصطلح نقدي، بل هو رواق معرفي)؟

لعلها، مرة أخرى، غواية الريادة، أو لعلها ضريبة المغامرة والاجتراح. وفي سائر الأحوال، ينهض الالتباس في السلطة التي تؤول الريادة إليها. وسواء صح ذلك في ريادة عبد الله الغذامي أم لا، فقد صدق فيه المثل القائل (الرائد لا يكذب أهله)، وسيظل الرهان على ما تنجزه الشخصية العلمية الصارمة في الرجل، حافلاً بالوعود، ولعل الرهان على ما تنجزه الشخصية المولعة بالسرد والممارسة له، يكون كذلك.

* ناقد سوري


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة