Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 
مشروع طموح في مواجهة
سؤال الأنا وأسئلة العصر
واسيني الأعرج

 

 

نحن أمام مشروع يكتمل بفعل العمل الثقافي المتواتر والاستمرارية، ولسنا أمام تجربة طارئة في الزمان والمكان كما يحدث عادةً في النقد الأكاديمي المتبدل باستمرار الذي كثيراً ما يتوقف حتى قبل أن ينتهي من فهم الآليات العميقة المتحكمة في الصيرورة النقدية لمدرسة من المدارس أو لتوجه من التوجهات، وهو في ذلك يتوسل وسائل مشتركة بقدر ما تهيكل القراءة للدخول إلى النصوص، فهي تفقدها عفوية التعامل والمتعة بتعريف رولان بارث الذي لا يمكن تصنيفه بسهولة على الرغم من اشتغالاته السيميائية الكثيرة والمتعددة المجالات من الأساطير والقصص حتى آليات الإشهار المتحكمة في العقل الباطني للناس والمجتمع. فقد جعل الغذامي، مثل بارث، من النقد اجتهاداً نصياً ومتعةً قبل أن يكون آلية تجعلنا نتوغل فيما لا نعرفه عن النص الأدبي وما لا تدركه العين الخارجية. فقد ربط الغذامي النقد بالتأسيسات المعرفية المصاحبة له، وخرج من آلية الشكلانية التي طغت على الكثير من أعماله وحولت النص إلى مجموعة من الترتيبات أغلقت النص على ذاته ودائرته. فقد أعاد الغذامي للنقد العربي ليس فقط علميته التي ظل يجتهد في البحث عنها للخروج من الفعل الانطباعي، ولكن ألَقه حتى أصبح النقد فعلاً شهوانياً وليس ترتيبات مدرسية مسبقة الصنع تختبر النص في حدودها المحيطة والمغلقة. فكان الدرس النقدي عند الغذامي، وخصوصاً الدرس الشعري، منفتحاً على اجتهادات جديدة ربطت الشعرية العربية ليس فقط بحيثياتها النظرية المتفق عليها، ولكن بمحلية تجلّت من المنظور المؤسّس على مدار التاريخ والمصطلحية التي افترضها؛ إذ لا يمكن الحديث عن شعرية عربية دون ملامسة قوانينها العميقة المندفنة في عمق التراث الذي أنتجته العبقرية العربية في رحلتها الأدبية. هذه الرؤية التي استند إليها عبد الله الغذامي مست كل جوانب اشتغالته الأدبية التي ارتبطت بما سماه بالنقد الثقافي من خلال منظومة مصطلحية افترضها لمشروعه. وتعقّد هذا المشروع هو الذي يجعلنا نتريث قبل الدخول في عمقه لفهم المقصدية في وضع نقدي عربي سقط في التكرارية أو النزعة المحاباتية. فقد أعاد الغذامي النظر في البنية الصامتة للنقد العربي في محاولة جادة لإعادة توطينها وإيجاد آليات جديدة تجعل من النقد العربي مادة متجددة وغير مستكينة لشيئين قاتلين:

أولاً: المثاقفة السلبية التي تكتفي بالمعطى الغربي بوصفه معطى متقدماً وكاملاً، وبالتالي فالارتباط به مثل الارتباط بكل مواد العصر الاستهلاكية التي تؤثث يومياتنا القلقة.

ثانياً: الاكتفاء الذاتي الذي لا يستند إلى معرفة ثقافية متأصلة، ولكن إلى خطابات متهالكة لا تفيد كثيراً الحركة الأدبية بل تثقلها وتحدّ حتى من جدواها. من هنا انحازت رؤية الغذامي للتأصيل، ولكن من خلال انشغالات العصر ومن خلال محلية منفتحة على ذاتها وعلى الآخر. إنجازات عبد الله الغذامي في المجال النقدي الذي لا يفصل الممارسة النقدية عن السياق الفكري الذي تتأسس عليه شاهدة على اجتهادات هذا الناقد الذي رفض الميل نحو السهولة ودخل مشقة التفكير والتأمل للإجابة عن أسئلة العصر القلقة؛ أسئلة تنشأ في سياقات عولمية غير مطمئنة مآلاتها، هي تحويل العرب إلى هنود حمر في بلدانهم وفي منافيهم، بغرس بدائل ثقافية ومعرفية بفعل القوة، على الرغم من التلبيسات الديمقراطية والمجتمع المدني وغيرهما من القيم النبيلة التي أنتجتها البشرية.

ربما كانت لنا وجهة نظر في المنظومة المصطلحية التي اعتمدها عبد الله الغذامي وافترضها لمشروعه وهي دون شك مؤسسة ومستنبطة من الثقافة العربية نفسها وقيمها الأصيلة والقديمة كالفحولة وكل مضاداتها الحداثية، ولكن يظل المجهود المعرفي عند الغذامي مادة حيوية تكتسب شرعيتها المهمة من حداثة طاحنة لا جذور لها مستكينة لخيباتها وهزائمها واضمحلال مشروعاتها، وعولمة داهمة وأحياناً جارفة، لا لغة لها إلا لغة الهيمنة والحروب بعد أن فشلت في التأسيس للنموذج الذي افترضته نظرياً، ولكنها سرعان ما انحازت للنموذج الأكثر سلبية وعدوانية لسامويل هنتكتون الذي يقدم احتمالات لحروب ثقافية عالمية ممكنة ومدمرة للحضارة البشرية وفق قراءة مؤسسة على السياسي الذي تجعل منه نواتها المركزية، بدل الاجتهاد من أجل التأسيس لمعرفة إنسانية تجتهد لفرض عالم أكثر صرامة وأكثر عقلانية وأكثر أمناً.

قيمة مشروع الغذامي أنه يندرج ضمن هذا المجهود الكبير الذي يضع نصب عينيه أسئلة الثقافة العربية الأكثر حدة التي عُطلت بقصد أو من دونه حتى قتلت أو توهت في مسالك حرمتها من إيجاد الطريق الصحيح.

من هنا، لا يمكن فهم هذا المجهود الكبير والمتميز ولا يمكن قراءته قراءة فعلية إلا في أفق الخصوصية المنفلتة والمنزلقة عن كل تعريف التي تفرض علينا قراءةً واجتهاداً دائمين، وفي أفق عولمة لا تستكين في المجال الفكري إلا لما يضعها أمام ارتباكات الإضافة والتجديد.

الانشغال المركزي لمشروع الغذامي هو إيجاد أجوبة عن أسئلة العصر المعقدة جداً والحادة التي لا تمنحنا دائما فسحة تأملية بسبب القسوة والحلول المفروضة من فوق.

روائي جزائري - مقيم في باريس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة