Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

صديقي عبدالله الغذامي
جابر عصفور

 

 

أتذكر أنني كنت أستاذاً في جامعة الكويت في الفترة من 1983 إلى 1988، وهي فترة ابتعاد عن جامعة القاهرة التي لا أزال أشرف بالانتماء إليها، وعن مجلة (فصول) التي كنت نائباً لرئيس تحريرها الأستاذ الدكتور عز الدين إسماعيل، رحمة الله عليه، ولكن لم تنقطع صلتي بالحياة الثقافية العربية التي كنت أسهم فيها بما أكتب، أو أقتني، أو أشارك فيها من مؤتمرات. وفي صباح أحد الأيام من عام 1985 تلقيت بالبريد كتاباً من تأليف باحث سعودي لم أكن أعرفه، أو حتى سمعت عنه إلى ذلك الحين. وكان الكاتب عبد الله الغذامي، والكتاب بعنوان (الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية). وكان الكتاب عن شاعر سعودي لم أكن قد سمعت عنه بعد، هو حمزة شحاتة. وكان الكتاب يحمل إهداءً رقيقاً معتاداً في الإهداءات. لكن ما لفت نظري هو الخطاب المرفق بالكتاب، والذي كتب فيه عبدالله مقدِّماً كتابه قائلاً: إن الكتاب محاولة منه للجمع بين النظرية النقدية والتطبيق حسب المفهومات الحديثة من بنيوية وسيميولوجية وتشريحية في مقدمة ضافية. ثم محاولة تطبيق هذه النظريات تطبيقاً عملياً على نماذج أدبية للشاعر السعودي حمزة شحاتة، وهو أديب مات مغموراً، لأنه كتب على نفسه الشقاء لظروف قاسية مر بها، فكأنه أبو حيان التوحيدي، غير أن أبا حيان أحرق كتبه أما شحاتة فقد أحرق نفسه، ولذلك فإنه - كنموذج إنساني ? يصلح لتطبيق النظرية البنيوية عليه. ويختم عبد الله خطابه بقوله (أرجو أن تجدوا في هذه الدراسة ما يُمتّع فكركم ووجدانكم، وأرجو أن يحل في نفوسكم محلّ الرضا والقبول، ولو كان لكم أي ملاحظة فيسعدني سماعها). وكان الخطاب بتوقيع د. عبد الله. جدة. كلية الآداب. جامعة الملك عبد العزيز. ص ب (90132).

وقد جذبني الخطاب إلى صاحبه وموضوعه ومنهجه، فصاحبه باحث شاب (عرفت فيما بعد أنه لم يكمل الأربعين من عمره، وأنني أكبره بعامين فحسب) يتميز بجسارة اقتحام مناهج حديثة، كانت لا تزال منبوذة في الجامعات العربية، ومنظوراً إليها نظرات شزراء، من العقول المحافظة الجامدة التي كانت، ولا تزال، مسيطرة على هذه الجامعات. والموضوع جاذب، فهو عن شاعر مجهول في المحيط الثقافي العربي، هو حمزة شحاتة، وإشارة عبد الله إليه تنبئ عن شاعر مأساوي، عاش غريباً في زمنه والأزمان التي جاءت بعده. وجذبني إلى الشاعر النهاية المأساوية التي ختم بها حياته، والتي دفعت عبد الله إلى تشبيهه بالتوحيدي، وكنت، ولا أزال، مفتوناً بالتوحيدي الذي ظل مغترباً، منجذباً إلى تراجيديا حياته التي دفعته إلى حرق كتبه، كأنه كان يحرق نفسه رمزياً في موازاة ما فعله حمزة شحاتة مادياً وواقعياً. أما المنهج الذي كان مفاجأة سارة، فقد أثار تعاطفي حتى من قبل أن أقرأ الكتاب. فقد كنت ? في ذلك الوقت- مذبذباً ما بين البنيوية التوليدية التي كان لوسيات جولدمان أبرز أعلامها والبنيوية اللغوية (أو الشكلية من وجهة نظر خصومها) التي كان رولان بارت وتلميذه تزفتان تودوروف من أبرز دعاتها. ولم يقتصر منهج عبد الله على البنيوية اللغوية، فقد حاول الجمع بينها وفلسفة التفكيك ونظريتها النقدية، مطلقاً عليها صفة (التشريحية) التي رأيت فيها ترجمة اجتهادية (لا أزال مختلفاً معها) للكلمة الأجنبية decon

struction. وما بين البنيوية

والتفكيكية، كانت نظرات سميوطيقية وإشارات إلى المدرسة الشكلية الروسية والنقد الحداثي الذي يستبدل فيه بتسمية (الشعرية) تسمية (الإنشائية) فضلاً عن بعض نظريات القراءة التي بدت واعدة في ذلك الوقت، قبل أن تتسع وتصبح مجالاً معرفياً أفضى إلى نظرية الاستقبال عند ياوس وإيزر وإضرابهما.

وكان تعاطفي المسبق مع المنهج دافعاً إلى قراءة الكتاب الذي لا أزال أذكر الصباح الذي ظللت أتصفح فيه الكتاب في تلك الحجرة التي لم يكن بها غيري في إحدى حجرات الأساتذة بجامعة الكويت. وكان الكتاب دليلاً على أن النقد الحداثي الجديد الذي فتحنا له أبواب مجلة (فصول) قد أخذ ينتشر ويزداد اتساعاً في مداه الجغرافي، وتتكاثر كتبه بعد الكتب الرائدة لكل من عبد السلام المسدي (الأسلوبية-1977) وكمال أبو ديب (جدلية الخفاء والتجلي-1979) وصلاح فضل (البنائية-1980). وقلت لنفسي: ها هو صوت واعد جديد يزيد كتيبتنا الصغيرة قوةً واتساعاً، صوت يأتي من السعودية التي لم نكن نتوقع أن يبرز فيها نقاد من طراز الغذامي الذي لابد أن أسجل له التقدير والعرفان -في هذه الشهادة- أنه كان فاتحة معرفتنا الأصوات الأخرى الصديقة التي انضم إليها وانضمت إليه في حركة الحداثة الأدبية المعاصرة في المملكة، وهي الحركة التي كتب عنها الغذامي ?بعد ذلك بتسعة عشر عاماً- كتابه (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية-2004) الذي يحكي فيه الحكاية من وجهة نظره التي قد يختلف أو يتفق معها بعض أقرانه من النقاد الذين ندين له (في مصر) بفضل تعريفنا الكثير منهم.

المهم أنني لا أزال أذكر إعجابي بكتاب الغذامي منذ عنوانه الذي يفيد من مفهوم (الثنائية الضدية) في كتابات ليفي شتراوس، وعلى نحو يدعم الثنائية نفسها التي سبقه إلى جعلها عنواناً كمال أبو ديب في التضاد الواقع بين (الخفاء/ والتجلي) الذي يجمع ما بين (الثنائية الضدية) عند ليفي شتراوس والثنائية الموازية التي تتجسد في علاقات (الحضور والغياب) في تقاليد فرناندي سوسير الذي أضاف إليها تلامذته وأتباعه الكثير في مدى الإنجازات الاستثنائية لكل من البنيوية والتفكيكية. وكنت، ولا أزال، أختلف مع عبد الله في ترجمة هذا الاصطلاح أو ذاك، ولكن هذا الاختلاف لم يقلل قط من إعجابي بالكتاب الذي لا أزال أراه إنجازاً تأسيسياً في حركة الحداثة السعودية في المجال النقدي، ونموذجاً لريادة أصيلة ضمنت لصاحبها مكانة لا تزال تتدعم وتقوى في اتجاهات النقد العربي المعاصر، خصوصاً إنجازاته المتلاحقة التي ظلت مستمرة ومتواصلة، لا تخلو من رغبة التجدد والتغير وملاحقة الجديد في مرونة عقلية هي الوجه الآخر من الانفتاح الفكري الذي لا يسجن صاحبه في دائرة ثابتة محدودة سرعان ما تنغلق عليه، أو يتقوقع فيها، فلا يزال نتاج عبد الله المتتابع ثرياً بحيويته ومرونته، وسعيه وراء التجدد المخلص الذي يجعلني أتذكر عبارات النظام - المعتزل القديم - التي تقول (العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كُلَّك). وقد أعطى عبد الله، ولا يزال يعطي، للنقد الأدبي كل طاقته وجهده الحيوي المقرون بوعيه المتأصل بأن أسئلة النقد الأدبي تظل أسئلة مفتوحة لا نهاية لها، وأن مجالاتها تظل دائماً في حاجة للكشف.

ومرت الأيام، وفوجئت بدعوة من أخي العزيز عبد العزيز المقالح - وكان رئيس جامعة صنعاء في ذلك الوقت - لحضور حلقة نقاشية نقدية، في الجامعة التي كان يترأسها، وأشرف على بنائها وتأسيسها وإعداد كوادرها وأفرعها. وكانت الدعوة موجهة إلى المجموعة الحداثية التي تضم كمال أبو ديب، وعبد السلام المسدي، وعبد المحسن طه بدر وعز الدين إسماعيل، رحمهما الله، وعبد الملك مرتاض، وكاتب هذه السطور. وانضم إلينا هناك بعض الأصدقاء المتطلعين إلى حركة نقدية عربية جديدة، لم يتوقفوا عن تأسيسها وتأصيلها وتوسيع آفاقها المعرفية. وأذكر أن عبد السلام المسدي قد تبنى ودعانا في هذا اللقاء إلى العمل على تكوين جمعية نقدية عربية، تبدأ منا، ولا تتوقف عن الامتداد الذي يهدف إلى توسيع جبهة النقد الحداثي الجديد. وتحمسنا للفكرة، ووقعنا على البيان الداعي إليها. وإن لم تخني الذاكرة، فقد اتفقنا على ما يشبه هيئة تأسيسية لم أعد أذكر الأسماء التي احتلت مراتبها في هذه الهيئة ولا الرئيس الذي اخترناه منا، فقد مضى على ذلك ما يقرب من عشرين عاماً، والذاكرة أصبحت لا تحتمل كل ما تنوء بحمله.

وكانت المفاجأة المفرحة أن عبد لله الغذامي كان مدعواً مثلنا إلى هذا اللقاء، وأذكر فرحتنا جميعاً للتعرف عليه والاستماع إليه. وقد انجذبت إليه، إنسانياً ومعرفياً، من أول لقاء. وتأسست بيننا بداية صداقة لا أزال أعتز بها، وأخوة صادقة في العلم والحياة لم تنقطع بل ظلت تتزايد من لقاء صنعاء، وجلسات الحوار والنقاش والسمر الذي كان يخلط الجد بالهزل، إيماناً بالمبدأ الذي يقول اجموا النفس ببعض الهزل حتى تقوى على الجد، بدلاً من القول: اجموا النفس ببعض الباطل حتى تقوى على الحق. وتكشفت لي الجوانب الإنسانية الأولى التي جمعتني بعبد الله الذي لم أعد من يومها أخاطبه إلا باسمه الأول دون ألقاب. ومن المؤكد أنك لا تبدأ معرفة عميقة بإنسان إلا إذا عاشرته على الأقل بأيام لا تفترقان فيها. وكان هذا حالي مع عبد الله في صنعاء، لم تكن تفارقني صحبتنا إلى ما بعد منتصف الليل، يحترم اختلافنا عنه في السلوك ويتقبله بسماحة صدر ورحابة أفق، وكنا نحترم سلوكه ومواقفه، ونرى فيه أملاً واعداً في حركة النقد العربي المحدث.

وقد ازدادت هذه المعرفة في الأمسيات التي جمعتنا به وبأصدقائه في جدة التي ذهبنا إليها بدعوة من ناديها الثقافي الذي كان يشرف عليه الصديق عبد الفتاح أبو مدين، متّعه الله بالصحة والعافية وطول العمر. وكان موضوع اللقاء - هذه المرة - عن (قراءة التراث النقدي) وقد تقدمت إلى الندوة بورقة بالعنوان نفسه، سرعان ما أصبحت المدخل إلى كتابي الذي حمل للعنوان نفسه الذي أدين به إلى هذه الندوة الجميلة ولم يفتنا بالطبع الدور الذي قام به عبد الله في الإعداد لهذه الندوة وتحديد الأسماء المدعوة إليها، فجمعت عز الدين إسماعيل وصلاح فضل ومصطفى ناصف وعبدالله مرتاض وعدداً موازياً من الباحثين السعوديين النابهين الذين تعرفنا عليهم للمرة الأولى، أذكر من بينهم عدداً من الأصدقاء الذين لن أحصي أسماءهم خوفاً من الخطأ والنسيان، والذاكرة التي أخذت ثقوبها في الاتساع. وما أكثر المساجلات التي دارت بيننا في هذا اللقاء والسهرات التي جمعتنا بعبد الله وزملائه وأصفياء على السواء. ولا أزال أذكر رصانة عز الدين إسماعيل رحمه الله، وردود أفعال مصطفى ناصف الساخرة والمثيرة للابتسام، متّعه الله بالصحة والعافية. ولا أزال أذكر تعليقه الساخر على حوار ساخن بيني والعزيز كمال أبو ديب، بأنه فرح لاختلاف الحداثيين فيما بينهم، ففي اختلافهم رحمة لغيرهم من أمثاله، وقد ضحكنا طويلاً من التعليق، لأن الرجل سبقنا إلى الحداثة، منذ أن أشاع أفكار (النقد الجديد ومبادئه) التي أصلّها أمثال رانسوم وتيت وريتشاردز وبروكس وغيرهم، وكانت قراءاته للشعر القديم، ولا تزال، نموذجاً يُحتذى فيما أطلق عليه (النقاد الجدد) اسم (القراءة الفاحصة) ولذلك كنا نستغرب مواقفه العدائية من البنيوية وما بعدها، أحياناً، لكن هذه المواقف سرعان ما كانت تذوب في اتجاهه النقدي العام الذي كان يتجلى في قراءته الممتعة للنصوص الأدبية، والشعرية منها بوجه خاص، وأذكر أننا افتقدنا عبد السلام المسدي في هذا اللقاء، فقد أصبح وزيراً للتعليم العالي في تونس، وحرمتنا الوزارة من حضوره الذي لم ينجُ من قفشات عبد الملك مرتاض، الضاحك أبداً، وقد وصفته بأنه أكثر أقرانه خفة دم، ولا أزال أذكر ما أثاره عبد الملك من عواصف ضحكنا مرتين: الأولى ونحن نتريض على كورنيش جدّة في المساء، ودعوته لنا بأن نرسل خطاباً إلى عبد السلام المسدي في تونس، ليجمعنا عنده، وإلا ندعو إليه بمغادرة منصب الوزير، وضحكنا من الاقتراح الذي لم ننفذه طبعاً، بل دعونا لعبد السلام بالتوفيق، ولم نأسف لأنه ترك الوزارة بعد ذلك وعاد إلى العلم الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، فأضاف إلى إنجازاته العلمية المزيد، والمرة الثانية، كانت عندما دعانا الصديق عابد خزندار إلى مجلسه مع بعض الأصدقاء الذين لم يكن بينهم عبد الله، ولم يتوقف عبد الملك من التنكيت المتواصل الذي دمعت عيني من كثرة الضحك.

ولا أزال أذكر بالعرفان رعاية عبد الله لنا وحرصه على تحقيق رغباتنا وراحتنا وتعريفنا بأوسع دائرة من كُتَّاب جدّة ومثقفيها، سواء من الشيوخ المتحمسين للجدد، أو من الشبان الذين مضوا في طريق التجديد، مهما كان الثمن، مثلما فعل العزيز سعد السريحي.

وعدت من جدة التي ذهبت إليها وعرفت الكثير من أدبائها بفضل عبد الله الغذامي، ولم أعد إليها أو إلى المملكة العربية السعودية منذ ذلك الوقت، لكني لا أزال أذكر أيام الإقامة فيها والنقاش الممتد في القاعة التي القينا فيها أوراقنا وخارجها، وأذكر المزيد من مظاهر الخلق الطيب لعبد الله الذي تكشف لي هذه المرة، عن وجه جديد، هو توهج الحماسة للجديد، والإصرار على آرائه التي جعلت الكثيرين من الجامدين يناصبونه العداء، لكنه ظل ماضياً في طريقه، يسهم في تكوين أجيال جديدة من الطلاب الذين تعلموا على يديه، وتأثروا به، في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة، ثم في جامعة الرياض التي انتقل إليها فاستقر في الرياض التي أصبح فيها مقامه ومنارة إشعاعه الممتد. فمنذ ذلك الوقت بدأ اسم عبد الله الغذامي يعرف خارج المملكة، ويبدو علامة مفرحة على تكون تيار جديد في الإبداع الأدبي والنقدي على السواء.

ولا شك أن إسهامه في مجلة (فصول) حين كنت نائباً لرئيس تحريرها، فضلاً عن إسهامه بالكتابة فيها عندما أصبحت رئيساً لتحريرها، وتزكيته لأقرانه الذين تعرفنا عليهم بفضله، كان نقطة اتساع المدى القرائي لعبد الله. ولا أزال أذكر قراءته في نصوص الشعر القديم، وكذلك النثر، وقد ظل أحد الأسماء البارزة من كُتَّاب (فصول) إلى أن تركتها بعد أن تزايدت أعبائي في المجلس الأعلى للثقافة الذي كنت حريصاً على دعوة عبد الله إلى كل مؤتمراته الكبرى، وكان أولها مؤتمراً بمناسبة ألفية التوحيدي الذي شبه به الشاعر السعودي (الرجيم؟!) حمزة شحاتة. وقد حرصت على أن يطبع كتاب عبد الله في القاهرة، وأصدرنا طبعة ثالثة له سنة 1993، بعد طبعته الثانية في الرياض، قبل أن تعاود الهيئة المصرية العامة للكتاب إصدار طبعته الرابعة سنة 1997م.

وتتابعت كتب عبد الله النقدية التي جعلت منه واحداً من أبرز النقاد العرب المعاصرين، فصدر له (تشريح النص) في بيروت 1997، ثم (الصوت القديم) و(الجديد عن الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث) في القاهرة، وبعده (الموقف من الحداثة) و(الكتابة ضد الكتابة) و(ثقافة الأسئلة) و(القصيدة والنص المضاد) و(رحلة إلى جمهورية النظرية) و(المشاكلة والاختلاف). وأخذ عبد الله يفارق المدار المغلق للبنيوية شيئاً فشيئاً، وينفتح على ما بعدها من مذاهب وتيارات، منجذباً في النهاية إلى النقد الثقافي، ابتداءً من (ثقافة الوهم) مروراً بكتابه (حكاية سحارة) و(تأنيث القصيدة) وليس انتهاءً بما كتبه عن (النقد الثقافي) و(حكاية الحداثة) و(الثقافة التلفزيونية). وقد تبلور تماماً ميله الأخير إلى النقد الأدبي في الكتاب الذي يحمل وجهتي نظر متوازيتين أو متقابلتين بعنوان (نقد ثقافي أم نقد أدبي؟) كتب فيه عبد الله عن النقد الثقافي وصديقنا المشترك عبد النبي اصطيف عن النقد الأدبي، وصدر الكتاب في سلسلة بالغة الأهمية تصدرها دار الفكر في دمشق تحت عنوان: (حوارات لقرن جديد).

وعندما أسترجع الآن عناوين كتب عبد الله ومجالاتها المعرفية (التي كنت أحرص على متابعتها وقراءتها حرصه على إهدائي كل كتاب جديد يصدر له) أجد المسافة بعيدة ما بين أول كتاب له صدر في عام 1985 وآخر كتاب أعرفه عن (الثقافة التلفزيونية) سنة 2004. وليست المسافة راجعة إلى النضج في هذا السياق وإنما إلى الحرص الدائم على التجدد، والحيوية المقترنة برغبة التعمق. وأهم من ذلك الوعي النقدي الذي لا يحصر نفسه في النقل، أو في التقليد، وإنما يتسع بمداه لينتقل من الاتّباع إلى الابتداع حريصاً على تنوع المجالات وتعددها، مؤكداً دور النقد الأدبي في علاقته الفاعلة في المجتمع، وحرصه على الإسهام بالانتقال بهذا المجتمع من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية. وبقدر ما يتميز هذا على النقدي المفتوح بقدراته الابتكارية، وتوسيعه الدائم لمدى نظره وعمقه، فإنه يتميز في الوقت نفسه بقدرته على المساءلة التي تؤكد، بانفتاح، نسبية المعرفة النقدية وقدرتها على التحول نظراً وتطبيقاً.

ولذلك خرج نقد عبد الله من المدار المغلق للتخصص إلى المدار المتسع للحركة النقدية الكبرى، سواء في الأقطار العربية التي يعي نبض إبداعها، أو في الأقطار الأجنبية، سواء تلك التي حصل منها على الدكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية أو التي ذهب إليها زائراً كالولايات المتحدة، فاستحق العديد من الجوائز التي كان أبرزها (جائزة العويس) التي جمعتني وإياه، كما جمعتنا مؤتمرات متباينة في عواصم عديدة. وكنت كل مرة ازداد قرباً منه ومعرفة بالجانب الإنساني الذي يزداد ثراء بصفات الصدق مع النفس والآخرين والوفاء للأصدقاء الذي هو الوجه الآخر من البِرِّ بالأهل. وقد عرفت البِرَّ بالأهل في الإهداء الذي صدَّر به الطبعة القاهرية الأولى لكتابه الأول (الخطيئة والتكفير)، وكان إلى أبيه الحبيب رحمه لله، وأمه الغالية. أما الوفاء للأصدقاء فقد غمرني به في محنة مرضي، فظل ملهوفاً يسأل عني، ويتابع حالتي الصحية الحرجة إلى أن أنجاني الله وشفاني، فاستقبل مقالي الأول في جريدة الحي بمقال يدل على وفاء طبع، ونبل أصل، وصدق المحبة. ولذلك أذكر كلما لقيته المثل الذي يقول: (رُبَّ أخ لكَ لم تلده أمك)، وأراني وإياه في علاقة المحبة والاحترام المتبادل التي تجمعنا دلالة على صدق قول الشاعر القديم الذي يعجب به كلانا:

إن يكد مطرف الإخاء فإننا

نغدو ونسري في إخاء تالد

أو يفترق نسب يؤلف بيننا

أدب أقمناه مقام الوالد

وقد غادر كلانا الستين من العمر، سبقته إليها، ولحق بي بعدها بعامين، ولذلك أشعلت له شمعة محبة في قلبي في مثل هذا الشهر، فبراير، من العام الماضي، متمنياً أن أشعل له عشرات الشموع في أعياد ميلاد مقبلة من سنوات عمره المديد بإذن الله.

مصر


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة