Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

الغذامي وأسئلة الثقافة العربية
سعيد يقطين

 

 

إن الحديث عن عبدالله الغذامي لا يمكنه إلا أن يتشعب ويتنوع لغنى وتشعب مشروعه النقدي والفكري.

فهو من الرعيل الأول من النقاد العرب الذين عملوا على تجديد الفكر النقدي العربي منذ أواسط الثمانينيات.

وكان كتابه (الخطيئة والتكفير) (1985) محاولة جادة ومتميزة في تحريف مسار الدراسة الأدبية العربية من مجال البراعة الإنشائية والخواء الفكري إلى مرحلة التحليل والتفكيك والتشريح والتأويل.

كانت بدايته عربية (لا محلية فقط) لأنها كانت تصب في مجرى التحول الذي بدأ يعرفه النقد العربي، بصفة عامة، منذ أواخر السبعينيات وهو يعمل جاهدا على تجاوز المآل الذي بات يعرفه، وقد تحول مع النقد الاجتماعي إلى تعيين الانتماءات الطبقية للكتاب ورسم الحدود بينهم بحسب ميولاتهم أو تصوراتهم الإيديولوجية.

لقد انحاز الغذامي، منذ البداية، إلى اتجاه التجديد الذي يروم تحليل النص الأدبي وتشريحه للإمساك بأهم مقوماته ومميزاته.

ومنذ كتابه هذا، وهو يعمل جاهدا على تطوير تجربته النقدية بتميز وصبر وأناة حتى انتهى أخيرا إلى الاهتمام بأشكال تعبيرية لم يتم الالتفات إليها، وما انكبابه على وسائل الإعلام (التلفزيون) إلا خير دليل على ذلك.

ويتضح هذا بجلاء من خلال كتابه الأخير الصادر عن المركز الثقافي العربي الثقافة التلفزيونية (2004م).

لقد أصدر الغذامي خلال هذا المسار عدة كتب تناولت نصوصا شعرية وسردية، قديمة ومعاصرة.

وتعامل معها بكثير من الفطنة والذكاء وبعد النظر بعيدا عن الاجترار والتكرار.

فكل كتاب من كتبه يأتي تطويرا للإشكالات التي يتعرض لها، وخطوة جديدة في معاينة الظواهر وتأويل القضايا.

كما أن كل كتاب من كتبه يأتي حافلا بجديد الأسئلة وعميق الطروحات وجريئها.

ولهذا السبب تثير الانتباه إلى قيمتها، وتستثير الرأي العام الثقافي، محليا وعربيا، لما تتميز به من جدة وخصب.

كنت أتابع الاستماع إليه في الندوات التي جمعتنا بإصرار وحرص شديدين، وكنت أراه أبدا يشدو خارج السرب.

إنه رجل الإشكالات الكبرى والقضايا الحساسة، وما اهتمامه بتأويل الأنساق الثقافية العربية سوى خير تجسيد لذلك.

لقد أعجبني كثيرا اهتمامه ب(المجال الثقافي) العربي العام، ومحاولته الإمساك بآلياته وأشكال ممارسته لأن الخطاب الأدبي الذي نعنى به كنقاد ودارسين، ليس سوى تجل من تجليات عدة لهذا المجال الثقافي، وإن كان حسب ما أتصور، أبرز هذه التجليات إن لم أقل أهمها.

إني ألتقي معه في هذا الاتجاه نحو إيلاء المزيد من العناية لقضايا تتجاوز الأدب أو الخطاب الأدبي وتنفتح على جوانب تتصل بالتاريخ والثقافة والمجتمع.

وحين ناقشت تصوره للنقد الثقافي، لم أكن في العمق أختلف معه إلا بصدد الكيفية التي مارس بها هذا النقد، أو وهو يقدمه بديلا عن النقد الأدبي.

إن طموح أي ناقد أدبي جاد ومنخرط في أتون الواقع العربي الذي نعيش فيه بوعي ومسؤولية هو الوصول، انطلاقا من اشتغاله بالنص الأدبي ومن تشغيله لأدوات نقدية ومفهومية، إلى الكشف عن الأنساق الكبرى التي يبحث فيها وعنها، وإلا كان عمل النقد الأدبي محصورا في الكشف عن البنيات الجمالية والدلالية.

لكن تجاوز ذلك، وهو ليس بسيطا ولا عاديا، رهين بتحقق تراكمات لا بد من توفرها في مجالات أخرى مثل: التاريخ الثقافي واجتماعية الثقافة والدراسات الاجتماعية والمعرفية وتاريخ الوسائط العربية واللسانيات الاجتماعية التي تعنى بالأشكال التعبيرية غير الأدبية والتي يتم تداولها لدى الجماعات اللغوية الخاصة وسواها من الاختصاصات المساعدة على هذا التجاوز.

هذه الاختصاصات للأسف شبه غير موجودة عندنا، وبذلك فهي لم تراكم دراسات تفيدنا في الانفتاح على قضايا ثقافية أوسع.

ومن هنا كان تخوفي من الانغمار في الأمور التي دخل فيها الغذامي باقتدار وبجرأة نادرين، فكان في ذلك سباقا إلى الاهتمام بهذه الأمور التي أرى أن الباحث العربي، والناقد الأدبي على وجه خاص، مدعو إلى الانخراط فيها طال الزمان أم قصر.

وإني أتطلع إلى قراءة أعمال جديدة للغذامي في هذا الاتجاه.

لذلك عندما قلت إن الغذامي كان رائدا على الصعيد العربي فلأن انخراطه في قضايا الأدب، من منظور جديد، كان سببا أو أساسا لتوجهه نحو ما هو أبعد من الأدبي والذي يمتد ليتسع للثقافي في كليته وشموليته.

ولقد صار الآن مدرسة في هذا الاتجاه، وله أتباع وتلاميذ في العالم العربي كله.

ولا تكاد تخلو دراسة أو أطروحة عندنا في المغرب من دون الاعتماد عليه والرجوع إليه أو من دون أن تجد لها في عطاءاته الزاخرة منافذ تطل من خلالها على موضوعاتها ومسائلها التي تتمحور عليها.

إن الاهتمام بالأنساق الثقافية العربية ارتبط لديه بالبحث كذلك في المرأة ومجمل قضاياها الوجودية والتعبيرية.

ومن هنا كانت ريادته أيضا في اقتحام عالم المرأة في صلاتها بالإبداع وباللغة، فإذا النقد الثقافي عنده مرتبط بالأنوثة متوجّه صوبها وكاشف عنها، ومبحث لتقويض النسق الذكوري (الفحولة) الذي هيمن لأزمان طويلة.

وصارت الأنوثة ذلك النسق المتخفي والمهمش الذي يمكن في حال الاهتمام به والعمل على تطويره الانتقال إلى مرحلة جديدة من التفكير والسؤال.

نعاين من خلال هذا الاختزال لتصور الغذامي في البحث والنظر، في خطوطه العريضة التي لا يتسع المجال للخوض فيها، غنى وتشعب المسار الذي اختطه لنفسه وقصر عليه جل أعماله وأبحاثه.

إنه يصب في اتجاه تغيير النظر في الثقافة العربية والإنسان العربي بوجه عام.

إن عبدالله الغذامي، كما يتبدى لنا من خلال اجتهاداته التي يمكن أن نلتقي معه فيها أو نختلف، يسهم بشكل إيجابي ونقدي في تطوير التفكير والبحث والتحليل، وهو من ثمة يكتسب في رأيي صفة المفكر العميق الذي يعي ضرورة الحاجة إلى فتح منافذ جديدة أمام النقد الأدبي والبحث الأدبي للخوض في قضايا، قد تبدو ظاهريا بمنأى عن الأدب، ولكنها في العمق من صميم إنتاجاته.

لقد تميز عبدالله الغذامي، تبعا لكل ذلك، في تقديري الشخصي عن العديد من المشتغلين المعاصرين بالأدب العربي بثلاث صفات هي: الذكاء والوضوح والجرأة.

تبدو هذه الصفات الثلاث بجلاء في كتاباته ومداخلاته في الندوات والمؤتمرات.

يبدو الذكاء في اختيار الموضوعات واصطفاء القضايا التي قلما تثير الانتباه، كما يتجلى في كيفية تعامله مع الثقافة الأجنبية التي يتفاعل معها.

إنه يذهب مباشرة إلى الأساسيات من الجوانب النظرية والعملية، ويتعامل معها بحرية ودون تعسف، ويتجاوب معها دون محاكاة أو تقليد.

وتنعكس كل هذه المزايا على كتاباته ومداخلاته فيبدو لنا الوضوح في أعلى مستوياته: من التعبير عن الأشياء التي يفكر فيها إلى الأفكار التي يعتنقها.

إن المطلع على كتاباته يجد رؤية سليمة ومتكاملة إلى الأشياء، لأن الغذامي يوفر لها كل المستلزمات لتبدو في أبهى أشكالها وصورها.

يحضر السجال إلى جانب التحليل، والتفكيك بمحاذاة التأويل.

ولك أن تقتنع بما يكتب أو يقول أو أن تختلف معه وأنت مقدر للمجهودات التي بذلها في الدفاع عن أطروحاته وتسويغ آرائه وتصوراته.

أما الجرأة فتبدو في الإقدام على تناول موضوعات جديدة، وحتى حين يتناول قضايا أدبية أو فكرية قديمة فهو ينبري لها بطرائق جديدة في التحليل والمعالجة.

هذه الصفات، حين تجتمع في ناقد ومفكر، من طراز عبدالله الغذامي، تجعله كما سبق أن قلت مغردا خارج السرب، منفردا بصوته وملامحه الخاصة في التأمل والتفكير والتعبير.

وتلك أهم خاصيات الريادة والعطاء التي لا يمكن أن ينشدها أو يتطلع إلى الاتصاف بها إلا مفكر ناقد يعرف شغله جيدا ويعي ما يرمي إليه.

إن الحديث عن عبدالله الغذامي مثل الحديث عن كبار الشخصيات التي تطبع التاريخ الفكري للأمة وتترك للأجيال مواد للتفكير والبحث والسؤال.

لقد أغنى المكتبة العربية بما قدمه ويقدمه من جليل الأعمال في قضايا الأدب والثقافة وبما تثيره من نقاشات وتدعو إليه من تفكير وتجديد.

وأهم خاصية تميزه كمفكر وباحث متميز من المملكة العربية السعودية، وهذه المسألة في تقديري عميقة الدلالة، وللأسف لا يعيرها الكثيرون ما تستحق من العناية، هو أنه جعل المساهمة الأدبية والنقدية للمملكة العربية السعودية تحتل موقعا متميزا في المشهد الثقافي العربي مع ثلة من المبدعين والنقاد في المملكة.

وكانت لمساهمته في نادي جدة وفي تأسيس مجلة علامات مع عبدالفتاح أبي مدين وسعيد السريحي وغيرهما من الذين يواصلون العمل والاجتهاد سواء في نادي جدة أو غيره من الأندية أكبر الأثر في نقل الاهتمام الثقافي العربي إلى ما تزخر به الطاقات العربية في المملكة، والتي صارت لها مساهماتها في تعميق السؤال الثقافي وتجذير الإبداع الأدبي والفني بكيفية تتساوق مع ما يتحقق في العديد من البلاد العربية، ولاسيما تلك التي كانت تحتل موقعا مركزيا في الثقافة العربية.

عبد الله الغذامي ناقد متبصر ومفكر أصيل.

لعب دورا كبيرا في تجديد النظر إلى الأدب وفي انفتاحه على قضايا تتعداه إلى الثقافة والمجتمع.

ساهم في تجديد السؤال النقدي وفي العمل على طرح أسئلة جديدة عن الثقافة العربية، وفتح المجال للنقاش والحوار والاختلاف لأنه يؤمن، ببساطة، بحرية التفكير، وأهمية الاختلاف وهو يرحب بالاختلاف ويدعو إليه.

لكن الاختلاف الخصب والخلاق الذي يمارسه هو بوابة التفكير في كبرى القضايا التي تهم الأمة، لذلك كانت أعماله تلقى صداها، وتجد من يتجاوب معها، ويعمل على تطويرها.

وتلك هي مسؤولية المثقف العربي الحقيقية: التحفيز على التفكير والدعوة إلى طرح الأسئلة الحقيقية حول الثقافة العربية.

المغرب http://www.y aktine-said.com/


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة