Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

في سَبيلِ حَرَكَةٍ نَقْديَّةٍ لا تَهابُ (الكائِن) ولا تُهْمِلُ (الكامِن)
مريد البرغوثي

 

 

لا يلام شاعر على خصومة مفترضة مع عبدالله الغذامي المبادر إلى ذم الشعر والشعراء كلما قال أو كتب، لكنني أعدُّ نفسي صديقاً لكثير مما يقول ويكتب، وأرحب بجوهر مسعاه كظاهرة وإشارة. فمنذ متى كان التطابق الكامل المطلق في الآراء والرؤى شرطاً للإصغاء والنظر بين طرفين في هذا العالم؟ ومن يدعي مثلي أنه شخص ذو معمار ديمقراطي داخليّ لا يملك إلا الإقرار بحق الاجتهاد مهما كان صادماً. لكن الأهم من كل ما تقدم هو ما استقر في وجداني وعقلي منذ فترة طويلة من أن الجهد النقدي العربي في مجمله إما غائب أو خائب/ دعك من الملاحق الثقافية ومراجعاتها النقدية المسلوقة التي تتناول الشعر والرواية والمسرح والفن التشكيلي والسينما، دعك من الكتّاب الذين هم أشبه بالباعة الجوالين يروّجون لكتبهم في أسواق الناس. ودعك من المقدمات والتذييلات الطنانة احتفاء بشاعر أو كتاب، فكل هذا ليس من النقد في شيء. الحقيقة هي أننا لا نمتلك (حركة نقدية عربية) الآن، ولن نمتلكها في المستقبل القريب، لماذا؟ لأن مجتمعاتنا ليست حرة. ولأنه (لا وجود لحركة نقدية في غياب حرية المجتمع). وسأحاول أن أفسر هذه النقطة بالتوقف عندها قليلاً:

تستطيع الفنون الأخرى أن تعيش في ظل القمع والتهديد والإسكات، الشعر يكتب في الزنزانة وفى سرير الموت وفي المنفى، وينطبق الحال على الرسم والرواية والمسرحية والموسيقى. أما النقد فهو مهنة الانتقال من بلادة اليقين إلى بهاء الشك، مهنة زعزعة الاستقرار وتحطيم الرموز والأصنام، والإشارة إلى جهات جديدة وطرق لم تكن متبعة وهذا ما فعلته الحركات النقدية المعروفة في العالم كله حين هدمت نظريات كانت تبدو شديدة التماسك والرسوخ وقلبت موازين كانت، لثباتها، تبدو كأنها محفورة في الرخام. وهذا مما لا يسمح به (الاستقرار) العربي، ولا المنطق القبائلي العشائري المتغلغل في نسيجنا الاجتماعي من ناحية وما لا نتوقعه من احزاب المعارضة يساراً ويميناً من ناحية ثانية. فهذه الأحزاب ذاتها قتلت الحياة الديمقراطية داخلها، ونفاقها الظاهر للثقافة والمثقفين لا يخفي ازدراءها لهم، وهو ازدراء أصيل لا شفاء منه فيما يبدو.

تقع كتابات الغذامي في مساحة لا بد أن يرحب بها كل من يصبو إلى نقد قادر على إعادة النظر في المسلمات، ومن يصبو لتزايد الجهود من أجل بناء حركة نقدية مستقلة في بلادنا. لنلاحظ هنا مفردة (حركة) التي هي نقيض الركود والاستنقاع والاستقرار الآسن. حركة لا تهاب الكائن ولا تهمل الكامن. قد يتفق معه البعض ويخالفه البعض الآخر، ولا ينبغي لهذا التفاوت أن يزعج احداً، إذ ليس مطلوباً منك ان تصل معه كل مرة إلى حيث يصل، بل يكفيك أن تعترف بطرقاته وبحقه في السير عليها وأن تنظر من النوافذ التي يقترحها، ولك بعد ذلك أن تصدق ما تراه بعينيك أنت، لأن هذا الاعتراف هو أول الحرية. إن الهواء والضوء لن يدخلا من نافذة مغلقة أبداً. قد تختلف معه في مفهومه عن الأنساق أو الفحولة أو تأنيث الكتابة أو مكانة الشعر والنثر أو تختلف معه في جوهر النقد الثقافي من حيث تاريخ نشأة المفهوم والتعديلات الطارئة عليه وقد تكون معجباً بشعراء لا يعجبونه، لكن ذلك كله لا يحتم أن ترفض التفكير في حججه وحتى إن رفضت الحجج ذاتها يجب أن ترحب بتحريكه مياهاً راكدة وكسره أقفالاً تتدلى على أبواب ثقافتنا منذ سنين.

إن ما يروقني في عمل الغذامي هو بالتحديد ما يسوء خصومه. ولو كانت مجتمعاتنا تنعم بالحرية لكان الجدل معه وحوله أقل عدوانية وفجاجة مما يفعل أولئك المستاؤون. ففي المجتمعات الحرة تتجاور الآراء وتتحاور مهما كانت شراستها ومهما كان تهافتها بينما نتوهم في بلادنا العربية أن المجتمع رأس دبوس لا يحمل إلا شخصا واحدا يعتليه، سواء كان هذا الشخص فكرة أو حزباً أو زعيماً أو راقصة. وهذا المفهوم هو ما ينتج الذعر من كل جديد أولاً و كره الأسئلة ثانياً وضحالة الإجابات ثالثاً وهي علامات على تدهور الحال في بلاد العرب على كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والابداعية.

النافذة التي فتحها عبد الله الغذامي أدخلت هواء نظيفاً إلى مشهدنا الثقافي، وأدخلت ضوءاً يساعد على تلمس موجودات مكاننا. هذه النافذة ليست الوحيدة وهذا مصدر حقيقي لبعض الأمل الذي نحتاج إليه. لكن الطريق ما زال طويلاً والمخاطر التي تمتد على جانبيه هي بعض صفاتنا نحن وبعض صفات أعدائنا معاً. وأعلم أن الدكتور عبدالله الغذامي بعثر أوراقاً كثيرة ليعيد ترتيبها. وهل يكون النقد إلا هكذا؟

www.mouridbarghouti.net فلسطين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة