الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 12th April,2004 العدد : 54

الأثنين 22 ,صفر 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي
واللون عن الأوراد غازي القصيبي
56 صفحة من القطع المتوسط

أخي وصديقي ليس نكرة كي أعرضه..إنه أشهر من نار على علم.. كيف لا وقد تملك ناصية الوزارة. والسياسة والفكر عن جدارة يستحقها.. ويحسد عليها.. معرفتي به عمرها قرابة نصف قرن يوم أن كنت موظفا متواضعاً وصغيراً لدى والده طيب الذكر الشيخ عبدالرحمن بن حسن القصيبي يرحمه الله.. أرعى بعضاً من مصالحه التجارية في مدينة الخبر.. يومها كان غازي وشقيقه نبيل النبيل يافعين يطلان على الحياة من خلال نافذة أمل واسعة.. أحدهما أطل واقتحم بوابة الحياة.. وكان أهلا لها.. والآخر استكثرت عليه الحياة اطلالته الباسمة وعاجلته المنية وهو في ريعان شبابه.
(القصيبي) الوزير. والسفير. والناثر. والشاعر. والروائي الى جانب مكانته الاجتماعية وامكانياته المادية يمثل ظاهرة لا تتأتى إلا لنزر قليل من الناس.. مواهب لا تشترى.. إنها استعداد فطري.. وقدرة على التأثر والتأثير في مجرى الأحداث.. وصياغتها من خلال المقدرة على استيعابها ومواجهتها.. هذا مجرد مدخل لاستراحتنا مع شاعرنا في ديوانه (واللون عن الاوراد).. لنتابع القراءة معه:
(الشبق الخريفي يمس الشجرا
ويحبل الآفاق بالريح. بالرعد. وبالسواد..
ويتمادى.. فيذوق البشر)
عملية تزاوج بين عشق الخريف العارم.. ونعومة الربيع الباسم.. حصيلة ولادة ريح هوجاء.. وقصف رعود.. وسواد غيوم داكنة.. يتجاوز في عشقه العاصف حدود الشجر الى حياة البشر ليستلب منها شبابها.. ويحولها الى كهولة يتوكأ شيبها على عكاز ان استطاع.. صورة جميلة لتدرج الحياة بين حب وغضب. وغضب وحب.. نهايته واحدة الصراع الذي لابد منه.. والصراخ الذي لابد منه.. مفردة في أبياته لفتت نظري.. (فيذوق البشر) أليس الأجمل يا صديقي أن تأتي كالآتي:
(فَيُذيق البشر. ما دمنا نتحدث عن الفاعل المشبق الخريفي؟ مجرد وجهة نظر..
لم تنته المعاناة فالهبة عنيفة.. وتداعياتها على حسه ونفسه مخيفة:
(كنت أنا
في الغابة السوداء احدد الضجرا
وارقب الآفاق تنجب الأولاد)
لم يكن وحده ذلك المراقب.. فقد كان بجانبه سيدة يتحاور معها يقاسمها الحديث ويبثها شكواه:
(سيدتي.. سيدتي..
يا موسم الصيف عليَّ انفجرَ
في غيبة الميعاد..
رأيت في عينيك
يالروعة الأضداد)
ماذا رأى..؟ لابد من أن متغيرات استراتيجية طرأت على حياته. وأنسته الخريف بشبقه والتداعيات التي خلفها وراءه.. ماذا ستكون؟
(رأيت بدرا مبحرا
رأيت بدرا مقمرا)
ومع البدر المبحر والمقمر شدته مشاهد أخرى تناهى الى سماعه رجع أغنيات الغوص حيث حصاد اللؤلؤ الذي يعشقه منذ الصغر.. والرعاة.. والشجر.. كلها مرسومة في ذهنه وفي خياله لا تكاد تفارقه ومع هذا تغالبه من جديد أغنيته بآلامها ونشيجها المزعج.. واشتعال نيرانها في الأعواد ليحولها الى رماد.. هكذا جاءت الصورة رمادية تشبه شهقات الملك الضليل، أو صرخات المتنبي وهو يتغنى بالخيل والليل والقرطاس والقلم كشواهد على شموخ كبريائه.. إلا أن شاعرنا في النهاية ينتفض من ركام حزنه.. وقلقه:
(سيدتي.. سيدتي
من الذي ارتجف؟!
من الذي استأجر في جريدة
صفحتها الأولى؟ ولف النعي بالسواد؟
هو الخريف سيد الفصول)
هو الذي رحل.. أجل.. ربيع الحياة أبقى. وخريفها اشقى.. إلا أن البقاء للأصلح مهما كانت قسوة الظروف وقوة الجبروت.. الطغاة الذين يريدون للحياة الموت هم أول ضحاياها مهما تكابروا وتجابروا..
في زمن غابر وبعيد كان الخطاب الشعري تنقله الأيدي على بعد.. أو الأفواه في وجد.. أو الحمائم الزاجلة في ساعات الطوارئ.. كان ايصالها شاقاً ومكلفاً.. ومن حسن حظر شاعرنا أنه ينتمي الى عصر الفاكس والفيميلي حيث المسافات تطوى في لحظات: لقد وظف الفاكس أداة لايصال رسالته:
(أنتِ لا تنشقين شذا النار
إن أنتِ راقبتها من بعيد
أو عبير الفؤاد. إذا أنتِ
امسكته في قميص الحديد)
إنه يعطي لها من تجربته دورساً لا تقبل المساومة ولا التراخي ولا التراضي.. كل الأشياء لا يمكن الأخذ بها ولا الاستحواذ عليها من الجانب الأضعف.. هو يستحثها على أخذ الحيطة والحذر فكأنما يريد أن يقول لها ما قاله الشاعر من قبل:
فظن شرا. وكن منه على حذر
اتجاوز قصيدة الحفيد فهد رغم رقتها كي لا اكشف سر عمر شاعرنا الزمني.. واخاله لا يخافه فالأعمار أعمال.. السنوات لا تحدد لها المقاسات بالطول أو العرض.. أو بالكثرة والقصر.. وإنما بمحصلة حياة.. وثمرة جهد خلاق يودع خزينة الحياة.. ويبقى خالدا يذكر بصاحبه كذكريات..
(في شارعه القديم) هذه المرة يطبع خطواته.. ويستغرق تأملاته.. ويرسم انطباعاته.. ماذا؟
(نعود إليه.
الى شارع كان منزلنا ذات يوم يطل عليه..
ونسأله عن سنين هوانا
فيأتلق الشوق في شفتيه
ونسأله عن سنين صبانا
فيحترق الدمع في ناظريه)
الشارع يتذكر أهله.. يشتاق اليهم ويبكي عليهم لحظة رحيل لأنه بدونهم لا شرع له في عقيدة أصالته..
(مضى ربع قرن. وأكثر
تغير ذاك الفتى. وتغير
لقد كان انقى. وأبهى. واشعر)
ومثل شاعره.. شارعه.. كلاهما يملك الحنين الى الواحد.. الشارع صامد دون بيت.. والشاعر صامد بذكرياته وحنينه يسترجع من حقبة الماضي صورة حيطان احتضنته على صغره.. وتهاوت على كبر.. وكأنما كان يغني لها على وجع اشتياقه والتصاقه هذه الأبيات مذكراً فيها نفسه.. متذكراً بها أهله..
أحن الى الديار ديار سلمى
أقبل ذا الجدار.. وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
نسمع كثيراً عن المهرجانات.. وعن المناسبات التي تقام من أجلها.. بعضها يستحق الاحتفاء وبعضها يستحق الجفاء.. إلا مهرجانا اقامه شاعرنا القصيبي اختصرت شخوصه على علامات استفهام كثيرة تتطلب منه مهرجان اجابات بنفس عدد الشخوص.. وتعداد الأسئلة:
(وعود في شفاهِك أم وعيد؟
وتبخل وهي تهمس! أم تجود؟
وحين ضحكت. هل حيَّا لهيب
فداكِ الجمر أم شهقت ورود؟)
يستغرق الى درجة الغرق في أسئلته وهو حر. أليس صاحب المهرجان والمتكفل بأتعابه ومصاريفه؟!
بلى..! ليس من حق أحد أن يحتج.. ولا أن ينتظر اجابة غير مسموح بها.. إلا أنه في خطوة تالية طرح سؤالاً واحداً متفرداً عن (ماذا يقول؟)
(أتعود يا زمن الطفولة؟!
أتعود للصب الذي ناداك
وهو يجوز آثام الشباب الى حماقات الكهول
متأرجح الخطوات. ما بين السلامة
والندامة. والصعوبة. والسهولة).
كلنا يدري. وشاعرنا القصيبي أدرى بنفسه.. وبطرح سؤاله.. انه على يقين يدرك أن زمن الطفولة لا يعود.. وعصر الشباب لا يعود.. دورة الزمن لا ترجع الى الوراء ثانية ولو لثانية.. يبقى له من الماضي استرجاعه.. أفراحه وأوجاعه.. وتمنيات يصفعها المحال وتقتلها طبيعة الحال.
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيب
ونحن الشياب نعرف ماذا فعل.. وهن.. واشتعال الرأس شيباً.. وتقوس ظهر.. وعكاز لمن يستطيع المشي..
(في أصابع الخمسين) خاتم وقار يذكره.. وينهره.. ويسترجع معه صباباته لكي يعود اليها.. وإنما يتمثلها في طفلة شهية في عمر الورد منتصبة أمامه يتغزل في حسنها.. وفي ظفائر شعرها المسترسلة كغابة سوداء.
(كنتُ يا طفلتي الشهية يوما
سيد المغرمين والعاشقينا
كنت إذ تلمس الصغيرة قلبي
يهطل الشعر فوقها ياسمينا)
والآن الصورة اختلفت في شكلها وإن لم تختلف في مضامينها:
(من رأى بسمة رأت نصف قرن
فأعادته من جديد جنينا)
لا نصدق يا شاعرنا إلا من خلال مشاعرنا في مجاملة.. أو في مجادلة لا تنتهي
الشباب والمستحيل.. كالصقر والمستحيل لا يجتمعان.. الحلم وحده القاسم المشترك الأعظم ولكن دون علم..
(كالحلم جئتِ. وكالحلم غبتِ
وأصبحت أنفض منك اليدا
فما كان أغربه ملتقى
وما كان أقصره موعدا)
رأيتك. والجمع ما بيننا
فلم أر غيرك عبر المدى)
ويسترسل شاعرنا في رسم صورة لفينوس خياله باقتدار ورومانسية لا تخلو من واقعية في نهايتها:
( أيا ابنة كل اخضرار المروج
أنا ابن الجفاف. وما استولدا
ويا ابنة كل مياه الغمام
أنا طفل كل قرون الصدى
ويا كل أفراح كل الطيور
أنا كل أحزان من قيدا
دموع الجموع على ناظري
وذل اليتامى. وخوف العدى)
هل تريدون أكثر من هذا توصيفا للحالة، وتوظيفا للمفردات بين حالتين متضادتين إلا أنهما ضروريتان للتكامل كي يقتل الربيع الجفاف، والماء العطش. والفرح الحزن. حيث لا دموع ولا ذل. ولا خوف مع الحب الحياة..
وداعية الصيف بعد أن أجهدها الشتاء القارس.. وطاف بها حنين العودة الى فصل الحرارة والدفء..
(أشح بوجهك. لا تظهر لها الألما
واكتم دموعك أغلى الدمع ما كتما
ان الحبيبة إن ودَّعت مكتئبا
غير الحبيبة إن ودَّعت مبتسما
دع الأسى لليالي بعد فرقتها
لا ترتجي قمرا فيها.. ولا حلما)
لوحة ابداعية ذات الوان قزحية تجسد التجربة من خلال مواقف متباينة.. الايجابية منها والسلبية ..القصيدة طويلة وجميلة في جرسها وايقاعها تقول أبياتها الأخيرة:
(اني خلعت على عينيك سحرهما
وإنني قلت في عينيك قافية
ما استوطنت ورقاً لولاي أو قلما)
نعم.. بمعيار الخصوصية لا أحد غيرك يفجر لها بحور الشعر كي تمتطي موجته لأنها حبيبتك.. ولغيرك أيضا يا شاعرنا المبدع بحوره ومجاديفه.. وعشاقه ومعشوقاته.. كلهم يبحرون بخصوصياتهم التي لا يقوى أحد على استيطانها لولاهم..
(أينما عاد سالما) مرثية معبرة مليئة بالشجون والشجن والذكريات بتجاوزها بعيدا عن الأحزان الى حيث (البحر والنسيم)
(أتدرين كيف يمر النسيم
على وجنة البحر ثم يغيب
ولا يذكر البحر شيئاً
ففي مهجة البحر تسكن كل الزوابع
كل الأعاصير
كيف سيذكر وهو المدجج بالريح
لثم النسيم..
فيا أنتِ!. هل كنت حين مررت عليَّ
النسيم.. أم البحر)
هنا مربط فرس شاعرنا.. وهنا تكمن تساؤلاته بين خياراته واختبار حياته.. الجواب من فمها لم يفرج عنه.. بل ظل معلقاً.. مفاتيحه مغلقة.. وأبوابه الموصدة.. أعان الله شاعرنا على مرارة الانتظار الذي هو أشد من القتل.. مع يقيني أنه حزم أمره دون أن يتوسل الاجابة أو يتسولها لأنه يؤمن بأن الحب القوي بجذوره ابقى وأنقى من حب ضعيف ومن جانب آخر لا تكافؤ فيه.. ولا ايثار معه.. ولا مشاركة في تحمل تبعاته..
وبعد يا أخي الدكتور الشاعر.. ديوانك مختصر الصفحات أثرى الرحيلة بقدر ما تحتاجه من زاد.. ومزاد لا يخضع للابتزاز.. إنما للمساومة والمساءلة المشروعة.. كنت أنت خصمها وحكمها في ذات الوقت.

+++++

الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved