الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 12th July,2004 العدد : 67

الأثنين 24 ,جمادى الاولى 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي
لا تقولي وداعاً
عيسى بن علي جرابا
95 صفحة من القطع المتوسط

كأني بشاعرنا يقول (ولكن إلى لقاء).. ولكن أي وداع انتهى.؟ وأي لقاء منتظر؟ ولمن؟
أسئلة لا تحتمل الانتظار.. هل غير معشوقته... وفتاة أحلامه يصبح الانتظار أحر من الجمر؟ لن أستبق مشاعر حبه تجاه حبيبته سأدعها تعيش تجربة الحب بما لها وما عليها دون إضافة ولا استضافة.. فأمانة الحرف أن لا أتعجل أن لا أحكم بالتخمين فالخطاب الشعري الشعوري وحده هو الذي سيقول.. وقوله الفصل..
بداية أشعرنا للوهلة الأولى أنها راحلة:
سافري عذبة الوصال بعيدا
واعزفي للأنام لحنا فريدا
عبري عن مشاعري وابعثيها
نغما يعبر المدى والحدودا
بهذه العاطفة الصادقة المتوهجة.. وبهذه الشحنة من الود كانت البداية الواثقة دون قلق.. ودون هواجس تقض مضجعه.. لعلها رحلة تاريخ.. رحلة فكر.. رحلة شعر أراد لها أن تعبر فضاءات الحياة من حوله مستغرقة جماليات الكون والحياة..
وارسمي للجمال في كل قلب..
لوحة تفتن الحليم الرشيدا
وامنحي العاشقين لحظة دفء
وامنحي البائسين فألا سعيدا
سافري وامتطي الأصالة كوني
قوة تكسر الهوى والقيودا
صوري كل موقف وتغني
بالبطولات واستثيري الركودا
أسرجي الصبر في الرياجي سراجا
واجعلي الجد والثبات وقودا
وإنها لكذلك.. هذا ما أفصح عنه شاعرنا في بيته الأخير من قصيدته الأولى
سافري يا قصيدتي دون خوف
واذكريني. ولا تخوني العهودا
القصيدة يا صديقي أبداً لا تخون.. إنها صدى لصاحبها تموت بخيانته.. وتعيش بأمانته.. لا خوف عليها من ضمير يقظ يحاسبها وتحاسبه.. والشاعر من خلال المرآة العاكسة في داخله يرى نفسه قبل أن يراه الآخرون.. ويطرح التساؤلات على نفسه قبل أن تطرح عليه:
لمن تكتب الشعر؟ قل لي: لمن؟
لنفسك؟ للناس؟ أم للزمن؟
أتكتب للفجر أضواءه؟
تمزق ستر الظلام الأجن
وللبدر أيضاً. وللذكريات. وللغيث. وللبحر. وللربى. وللكون.. يسائل الشاعر نفسه حتى ثقافة البكاء. والفرح. والحلم. والعشق كلها مطروحة على بساط تساؤله:
لمن تكتب الشعر بالله يا
رقيق المشاعر قل لي: لمن؟
ويأتي الجواب أمام منصة الحساب:
فقال: أنا من تخذت المدى
هزارا وشعريَ أحلى فن
أقضي الحياة جهادا. ولي
طموح تحير فيه البدن
أنا شاعركم يذوب رضا
لتحيا العقيدة. ثم الوطن
شعرك يا صديقي شهادة بأنك شاعر تطرح مشاعر ذات بعد إنساني متأصل في الجذور.. ولكن الشعر وحده لا يكفي إذا لم تفتح له أذان صم.. وألسنة بُكم.. وبوابة أمل وعمل تعمق مضامينه الحية في دنيا الناس.. وهذا لا يضيرك فقد عبَّرت.. وعبَرت بخيالك المجنح بحيرة الركود الذهني.. أنت شاعر..
ولأن الاشتياق أحد أدوات الشعر كانت له وقفة مع ليلة مشتاق:
بات في صمته. وفي اصغائه
والمآسي تبيت تحت ردائه
غرقت مقلتاه في الدمع لما
شرب الحزن من يدي بلوائه
ضحك الهم حين أبصره يبكي
ويمشي في دربه وهو تائه
توصيف للصورة الدرامية.. وتوظيف للمفردات بلغت حد الجودة والإبداع.. اقرأوا معي هذا البيت.. وفكروا فيه:
ألبسته الأيام ثوباً عتيقاً
نسجه كان من خيوط شقائه
ما أروع شاعرنا عيسى جرابا وهو يرسم بريشته الشاعرة لوحة اشتياق قزحية الألوان يخلص منها في النهاية إلى قلب المشتاق:
هو قلب المشتاق ياليت شعري
أي قلب من الهوى غير تائه
والقلب أحياناً يا صديقي بشوقه يهتدي إلى ليلاه حتى ولو كان الليل معتماً.. عزيمة الحب أحياناً لا تقبل الهزيمة..
كل قصائد الديوان اجتذبتني إليها ولكن الركب مسافر.. ومساحة السفر لا تتسع لكل المحطات.. ومرغماً لا بطلاً أتجاوز بحنين وشوق مقطوعاته (الركب المسافر)، (بوح القوافي)، (حدثيني)، (اليتيم والعيد)، حيث لا يلتقيان.. واقف مع قصيدته الأم (لا تقولي وداعاً).
يا منى الروح كفكفي عبراتي
واذكري ما مضى من الذكريات
أثقلت قلبي الهموم فأمسى
في قيود الأنين والحسرات
كل عهد مضى إذا ما توارى
ظل يبكي عهوده الماضيات
بهذه اللوعة.. وبهذه النبرة الخائفة جاء مشهد وداعه على غير اعتياد.. كان خوفه على فراق حبه أقوى من أن تتحمله كلمات التجلد..
يا منى الروح لا تقولي وداعا
ليس تحلو بعد الوداع حياتي
إنه يستعطفها كما يستعطف الطفل من يأنس به:
أو لا تذكرين؟ يا ويح قلبي
من حبيب يتيه عن ذكرياتي
يا منى الروح لا تقولي وداعا
وأقيلي ما كان من عثراتي
وامنحيني بعض الوداد وردي
لفؤادي بعض الرؤى الحالمات
وارحميني من وحدتي وظنوني
وشجوني. وحرقتي. وشكاتي
لقد كسر مجاديف قوته أمام بحرها.. في ضعف ما كان له أن ينتهي إلى توسل.. الحب القوي هو ذلك الذي تحترمه حواء وتتمسك به.. وتعود إليه بعد وداع مفتعل.. كن قويا ولكن في رحمة تشعرها بأنك رجل تملك حبا وقلبا كبيرا حتى في شعرك..
هكذا الحب الذي أريده.. ماذا عن الحب الذي تريده وأفصحت عنه في مقطوعتك (هكذا الحب):
أظلم الليل ثم غارت نجومه
وطواني من العذاب اليمه
امتطي صهوة التذكر حتى
تتوارى عن الفؤاد همومه
قد جفاه النديم من غير أي ذنب
أو يسلو من قد جناه نديمه؟
ها هم العاشقون مثل السكارى
والهوى صابر الفؤاد حليمه
بت في حيرة أسائل نفسي
أجحيم الغرام ذا أم نعيمه
هكذا الحب جذوة من لهيب
قد تساوى جديده وقديمه
نعم الحب جذوة من لهيب لا من جفوة من غير ذنب.. الجفوة بغير ذنب ليست حباً إنها عملية استعلاء وجحود لا يستحق التباكي عليها ونثر أوراق العتب اللذيذ على أعتابها.. هذا يا شاعرنا ما لا أستطيبه حتى ولو كان للشعر مذاق الشهد.. ومن سهد جفوة الحب إلى وعد بلفور يأخذنا الشاعر معه مسترجعا خطيئة الماضي وتداعيات الحاضر.. وتخوفات المستقبل بنبرة التياع ودمعة ارتياع..
اعذروني إن جاء لحني حزينا
فأنا هكذا رضعت الأنينا
أمضع الهم منذ عشرين عاما
صابرا أمتطي الردى والمنونا
خمسون عاما وأكثر وليس العشرين عمر المأساة.. أما الهم فقد مضغناه وهنا لا صبرا.. وعجزا لا تحملا.. الكوارث تحدد بصمات مفرداتها الأقرب إلى التوصيف.. الصبر طاقة تحمل لما يصح تحمله.. فعل في مأساة الحرية ومصادرة الحق. واحتلال الأرض ما يجوز الصبر عليه؟!
شاعرنا مضغ الهم. ودارى جرحه. ومضى في طريق الأسى يناجي السنين:
كل ما لاح لي من الأمس عهد
ذبت شوقا ولهفة وحنينا
يبدو أن نغمة تراجع أطلت من بين ثنايا أبياته تعتذر عن بكائية الصبر..
اعذروني ما جئت أذرف دمعا
لا ولا أشتكي غراما دفينا
انا ما جئت استحث القوافي
عبثا لا ولا أهيم جنونا
اعذروني ما جئت ابعث هما
قد نسيناه أو أثير شجونا
أو اغني ليعرف الناس عني
انني شاعر ملكت اللحونا
ويسترسل في تراجعه اليقظ مكفرا عن ذنب الصبر.. رغم أن الصبر حالة من حالات التجلد في مواقع تستطيب الصرب على حد مقولة الشاعر العربي القديم وأخاله (المتنبي):
وتجلدي للشامتين اريهموا
أني لريب الدهر لا أتزعزع
.. (أو أتضعضع سيان) في مقطوعة شاعرنا الرائعة عن الوعد المشؤوم يقرع بوابة أسماعنا كي لا ننسى.. وهل لنا أن ننسى مستقبل وطن ومصير أمة؟
جئتكم أشعل النفوس حماسا
وأقوي بها الهدى واليقينا
قواك الله.. فقد قلت ما عليك.. وغيرك ننتظر قوله لا بالكلام وإنما بما هو أمضى من الكلمات والأمنيات..
سهم الهوى جارع.. هكذا عودنا شعراء الحب أنهم يبكون ويتباكون.. ويبقى الحب وحده هو الضحية.. بأي حال وبأية طريقة ألقى شاعرنا الجرابا سهمه في معركة الهوى؟!
لسان قلبي دائم الحسرة
وحرف شعري دائم العبرة
وفجر انسي لم يبن وجهه
وليل حزني حالك الظلمة
ونار شوقي أضرمت والأسى
رياحه كم قوضت خيمتي
كالعادة التي ألفناها بكائية تمزق الأحشاء.. المهزوم فيها جانب واحد.. يتسول الحب ويتوسل للحبيبة في معركة خاسرة لم يستخدم فيها سهمه.. ماذا ينتظر؟! حاولت أن أجد للسهم كلاما يحسم آهات الشكوى.. يبدو أن طاش..
علقتها ولم أزل هائما
فيها وقلبي صار كالجمرة
باتت كليلى حسنها مفرد
وبت كالمجنون في اللوعة
مجانين الحب لا عتب عليهم لأن لا شيء لديهم إلا الانتظار أو الانتحار.. أو الأشعار.. (جدار الصدود) (ذكريات وعبرات) محطتان من محطات الرحلة تم تجاوزهما لما بعدهما حيث علامات الاستفهام أو التعجب قائمة.. وقائلة (من هؤلاء)؟!
ناموا على فرش الهوى وأفاقوا
وتسابقوا وعدوهم سبَّاق
خدعتهم الدنيا بزيف جمالها
فتواثبوا وكأنهم عشاق
لبسوا ثياب الذل مذ غربت لهم
شمس الشموخ وما لها إشراق
قتل الطموح لديهموا فقلوبهم
فيها يعيش تملق ونفاق
فلهم على باب الصلاح تفرق
ولهم على باب الفساد وفاق
من هؤلاء؟! وما حقيقة أمرهم؟!
أقر ما لهم في العالمين خلاق؟!
أسئلة مطروحة بنبرة مجروحة تبحث عن عالم تسكنه اليقظة لا السبات، العزة لا المهانة.. الوحدة لا الفرقة.. العدل لا الظلم.. تبحث عن مجتمع فاضل يعمر كوكبه الأرضي في وئام وسلام.. شاعرنا طرح السؤال.. وترك الإجابة مفتوحة لأن دائرة الاتهام أوسع من أن تحدد في عالم مسكون بتوحشه وعدوانيته.. العهد وعد. معادلة محسوبة محسومة في حسابات التعامل الإنساني عليها تقوم أسس العلاقات.. وعلى ثوابتها تبنى العلاقات.. وعهد الحب ووعد الحب ربط بين اثنين الإخلال بهما يرقى إلى درجة العقوق والخيانة.. وشاعرنا تذكر عهد حبه ولكن بوعد انتظار..
ما حال مضنى الحب بعدك؟
جرعته بيديك صدك
ألبسته ثوب الأسى
فكأنه ما ذاق شهدك
منيته ووعدت أن
تبقي له فنسيت وعدك
على هذا النسق من التذكير تدور الأسطوانة المشروخة دون أن تتوقف.. النجوى البائسة اليائسة لمعشوقته وحدها هي التي تتكلم دون هي أن تتكلم.
ويكون ردك بالفراق
فما أشد اليوم ردك
خلص شاعرنا من ليلاه ليدلف إلى ليل حياته شاخصاً بمشاعره إلى وجهها:
أمر هذي الحياة أمر عجيب
يذهل المرء عندها ويشيب
داهمتني الخطوب في كل حين
ولكم تعجز الآلام الخطوب
كل يوم أرى الأماني صرعى
أتمنى ما فات وهو صعيب
يبدو أن شاعرنا فاتته مقولة شاعرنا العربي الحكيم:
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
إذاً لأراح قلبه وانتصر لعقله.. ولكن يظل الشاعر أسير مشاعره ومزاجيته وتلونات زمنه.. إنه يرفض الصمت والحياة تتلاعب به كالدمية.. تذيقه المر. وتطبطب على أكتافه بما هو أحلى كي يتعود.. ملامح الصور في مخيلة الشاعر تأبى إلا أن تتحرك كشريط يختزن المرئيات من حوله.. هكذا تحدث:
فقريب أراه وهو بعيد
وبعيد أراه وهو قريب
وغريب عن أهله كمقيم
ومقيم في الأهل وهو غريب
وصحيح سعى إليه اعتدال
عجز اليوم عن دواه الطبيب
وحياة تطيب للبعض أح
يانا ولكن لبعضهم لا تطيب
وغناء الطيور ليس سرورا
لو تحققت قلت هذا نحيب
وزهور ندية قد علاها
من جديب الحياة هذا الشحوب
وأرى الناس والمقادير تثرى
بين راض وجازع لا يشوب
لكل هذه الصور المتداخلة والمتقاطعة في وجه الحياة خلص شاعرنا إلى رؤية شفافة رغم سوداوية بعضها أحسبه أحس رسم ملامحها وأجاد في تشخيصها.. ومن وجه الحياة وشخوصها إلى السلام الذي يسأل عنه وينشد له:
لي فؤاد معذب مستهام
ولسان يفر منه الكلام
وسؤال يغتالني من عذول
غاب عنه الإدراك والإلهام
أيها الشاعر الحزين لماذا
لا تغني؟ وأين منك الغرام؟
قلت والحزن في الحشا مستبدا
دع فؤادي فما عليه سلام
لو تأملت يا عذولي قليلا
لاستباحت فؤادك الآلام
كيف أسلو وللحوادث ناب
من شباه تمزق الأجسام؟
كيف أسلو؟ أليس عندي قلب
تتسامى به المعاني العظام
ارقب النجم والدجى مدلهم
وهمومي تئن منها العظام
أيسمى عيش المذلة عيشا
رب عيش أخف منه الحمام
رائع أنت بقصيدك وبقصدك وبغوصك في أعماق الفكر الإنساني تتعامل معه وتتفاعل معه وتلك رسالة المفكر التي اصطفيتها وأجدتها بكل اقتدار.. قدرة شاعرنا في توصيفه للأخيلة من حوله ليست أروع من باقة استقبال وبطاقة فرح لعرس عاشه كأب يوم أن أطل على حياته مولوده (هاني)..
وهجت احرفي وحار بياني
حينما شع في سمائي (هاني)
غمرتني سعادة تاه قلبي
في مداها فلجَّ في الخانقان
وتمنيت أن أوقع لحنا
أبويا مضمنا بالحنان
وتلهفت أن اسطر بعضا
من شعوري فما استطاع بناني
هذا العجز الذي قلته ليس عجزاً.. هكذا يأتي صدى المفاجأة الضخمة.. إن الحروف تموت في فم صاحبها فما يقوى على الكلام.. الصمت حينها هو أقوى وسائل التعبير.. ألسنا نقول لمن أحسن إلى الواحد منا (عاجزين عن الشكر) انه العجز الإيجابي فلا تعتذر عنه..
ولدي يا قصيدة كل بيت
صغته من دمي ومن شرياني
أنت إطلالة الصباح تجلت
بعد ليل مسهد الأجفان
كان بالنسبة إليه نبض حياة، وأنشودة زمن، وغرسة حب، وغيث، وروح هل تطلبون أكثر من هذا..
(هاني) في حياة والده حياة وجوده كأي طفل يولد.. وكأية طفلة تأتي.. يا أبا (هاني) أهنئك دون ملق.. لقد توسمت في شعرك مشاعر شاعر يملك إبداعية الفكرة.. وسلاسة الديباجة.. وذكاء التوظيف لمفرداتك.. وتلك؟ مزايا تمثل العمود الفقري.. أو لأقل القاسم المشترك الأعظم لمن يحاول الإبحار في بحر الشعر دون أن يخشى الغرق.. لك تحياتي.. والمزيد من هذا العطاء الجيد..

الرياض 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved