Culture Magazine Monday  12/11/2007 G Issue 222
حوار
الأثنين 2 ,ذو القعدة 1428   العدد  222
 

جاسم الصحيح بعد أمير الشعراء
صلاح فضل صدمني.. والتصويت يجب أن يحذف..!

 

 

الثقافية - عبدالمحسن الحقيل

لماذا أقصي بعض الشعراء من الموسوعات الشعرية؟!

مشهدنا الثقافي يعاني من الإقصاء والأحادية

جاسم الصحيح شاعر عذب يتقن العزف على الأوتار المحببة لمتابعيه.. يرسم قصائده بعبارات راقية وصور جميلة وموسيقى آسرة.. شارك مؤخراً في أمير الشعراء وخرج ثالثاً في الوقت الذي توقع متابعوه نتيجة أفضل.

بعد هذه المشاركة المشرقة له كان لنا معه هذا الحوار:

* شاركت مؤخراً في مسابقة أمير الشعراء، فبم خرجت من تلك التجربة سلباً وإيجاباً؟

- بدأت مسابقة أمير الشعراء وانتهت بمطرقتين هوتا على رأسي بعنف حتى أنني لم أفق من وقعهما إلا بعد فترة زمنية من ختام المسابقة ومعرفة أسرارها الخفية.

المطرقة الأولى كانت في التصفيات المبدئية المؤهلة للدخول في المسابقة وذلك بعدما ألقيت قصيدتي (الخلاص) وقال لي أحد أعضاء لجنة التحكيم وهو الناقد المصري المعروف الدكتور صلاح فضل: (أنا لا أجيزك).. فيما أجازني الأعضاء الأربعة الآخرون ودخلت في المسابقة. لم أعرف سبب عدم إجازته لي للدخول في المسابقة، وربما كنت أجامل نفسي كثيراً فاتهمته بارتكاب خطأ سوف يبقى نقطة سوداء في تاريخه، ونسيت في غمرة هذه المجاملة لذاتي أن الرجل له وجهة نظر خاصة يجب احترامها مهما كانت قاسية على شخصي.

أما المطرقة الثانية فقد هوت على رأسي في الحلقة الأخيرة من المسابقة وذلك عندما تم إعلاني ثالثاً بينما كنت أتوقع لنفسي -كما كان يتوقع جميع المتابعين للمسابقة- أن أفوز بأحد المركزين الأول أو الثاني.

وما بين تلك المطرقتين جرت أحداث وقصص وحكايات لا يمكن أن أحصرها في مقابلة صحفية أبداً، إلا أن خلاصة ذلك كله هو أنني راض عن المحصلة النهائية لعلمي أنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان وذلك بسبب شروط المسابقة وخصوصاً التصويت. بصراحة تامة، لم أكن أتخيل قبل الدخول في المسابقة أن شرط التصويت سيكون أخذه بجدية.. وربما لم أتخيل ذلك حتى بعد الجولة الأولى من المسابقة. ولكن حينما وصلنا إلى الجولة الثانية وبدأت الأسماء الكبيرة تغادر المسابقة بسبب ضعف التصويت لها، أدركت أن شرط التصويت يمثل حجر أساس في زوايا المسابقة وأن القادم أخطر وأخطر.

* يرى محبوك أنك لم توفق كثيراً في اختيار قصائدك وأنك تملك الأفضل، فما تعليقك؟

- كان اختيار القصائد المناسبة للمسابقة مع كل جولة أتقدم فيها هو الأمر الأكثر تعقيداً في المسابقة. ولم يكن ذلك خاصاً بي وإنما المتسابقين حيث إن القصيدة المختارة يجب أن تناسب ذوق لجنة التحكيم وذوق الجمهور الحاضر في آن واحد. وإذا ما آمنا أن لجنة التحكيم تمثل ذائقة جمالية نخبوية خصوصاً وأن معظم أعضائها هم أساتذة أدب ونقد في الجامعات، فإن الجمهور الذي حضر في مسرح شاطئ الراحة (خصوصاً في حلقات البرنامج الأولى) في مجمله يميل للشعر المباشر بدلاً من القصائد ذات الشعرية الرمزية.. بالنسبة لي، ربما يكون لدي قصائد أهم فنياً من القصائد التي شاركت بها في المسابقة، ولكن لا أعتقد أنني أملك قصائد تناسب المسابقة أفضل مما قدمت. إضافة إلى ذلك ربما تعجبني بعض قصائدي أكثر من البعض الآخر، وربما يختلف معي الناس المطلعون على قصائدي حسب ذائقتهم فاختلاف الأذواق أمر طبيعي خصوصاً في الشؤون الإبداعية.

* هل اعتماد التصويت بنسبة كبيرة مناسب لمثل هذه المسابقة؟

- في وجهة نظري يجب حذف التصويت تماماً من شروط المسابقة ليكون الإبداع هو الفيصل الأول فيها. ولكن كما يعلم الجميع أن مسألة التصويت مسألة خارجة عن نطاق تصرف المتسابقين فهي معتمدة من قبل (هيئة الثقافة والتراث في أبوظبي) كشرط من شروط المسابقة قبل بدايتها، وليس بوسع المتسابق إلا أن يوافق على هذا الشرط أو أن ينثني عن المشاركة في المسابقة من الأصل. ولكن لو استشارت (الهيئة) كل المتسابقين في شأن التصويت لأجابوا برأي واحد أن الاستغناء عنه سوف يمنح المسابقة دعماً إبداعياً أكبر.

* ارتجلت أبياتاً عن الصحراء في الحلقة الأخيرة من مسابقة أمير الشعراء فما هو رأيك إجمالاً في القصائد المرتجلة؟

- الارتجال ليس دليلاً على الشاعرية، وعدم الارتجال ليس دليلاً على عدم الشاعرية. القصائد المرتجلة عادة لا تتمخض عن شعر حقيقي وإنما عن حالة من النظم، وفي أحسن الأحوال قد تنتج إيقاعاً جميلاً وسبكاً محكماً ولكن من الصعب أن تنجب شعراً عميقاً إلا ما ندر.

* بعيداً عن مسابقة أمير الشعراء، دعنا نعود إلى البدايات ونسأل: هل جاءك الشعر أم جئته؟

- الشعر كأي موهبة أخرى في الحياة عبارة عن بذرة مطمورة في أعماق النفس لا تبدأ بالتململ والحركة في عتمة قاعها إلا إذا جاء من يحركها. وفي هذه الحالة، القراءات الأولى هي التي تدفع بتلك البذرة للتململ داخل النفس حد الخروج من تربتها على شكل برعم وتتفتح عن زهرة الكتابة في نهاية المطاف. أعتقد أن هذا ما حصل لي مع البداية، وأن هذا ما يحصل مع كل الشعراء.

* علاقة الشاعر والجمهور علاقة حميمة ولكن ينتابها الفتور، فمتى تعرض جاسم الصحيح لمثل هذا الفتور؟

- لا أذكر أنني تعرضت لمثل هذا الفتور فهناك دائما معجبون يحتضنون قصائدي حتى تفقس في أرواحهم حبا وشغفا. أنا أكتب للناس ولا أعتمد الغموض في كتاباتي لأن جمالية القصيدة لا تأتي على حساب المأساة الإنسانية. لذلك، كل قصائدي مفهومة عند أبسط الناس على الصعيد المعرفي وهذا ما يجعل الناس في مجملها راضية عن كتاباتي.. ولكنه الأمر ذاته أيضا، الذي يجعل بعض النقاد غير راضين عن ذات الكتابات.

* أيهما أهم لديك: أدبية النص أم وصوله للمتلقي؟

- أنا أعتقد أن سر وصول النص للمتلقي يكمن في أدبية هذا النص.. بمعنى أن أدبية النص تساعد على وصوله للمتلقي ولا تعارض بينهما أبدا. أما أن نكتب بأصابع الغموض وحبر الإبهام لدرجة أن القصيدة تأتي مغلقة الأبواب والنوافذ، ثم نلوم المتلقين على عدم فهمها لأن القصيدة عالية في مستواها الفني.. هذا العمل ليس عملا إبداعيا ولا ينم عن أدبية نص فائقة تحول دون النص والمتلقي.

* أيهما أقرب إلى جاسم الصحيح بوصفه قارئا لا شاعرا: شعر التفعيلة أم الشعر العمودي؟

- صدقني لا يهمني الشكل كثيرا فأنا أنحاز للجمال حيثما أجده سواء كان في الشعر الحر أو حتى في الشعر المنثور. بالنسبة لي، لا يوجد شكل ميت في الشعر فكل أشكاله حية ويمكن أن تبقى خالدة ما دام هناك من يسعى على سقايتها ورعايتها.

* هل الصنعة في الشعر ضرورية لكماله؟

- لا بد للشاعر أن يراجع دفقاته الوجدانية على أضواء شموع الصنعة لأن التدفق الأول للقصيدة يأتي من حالة الوجد التي تمثل مرحلة اللاوعي فيها، ولكن النصف الآخر من القصيدة هو حالة الوعي الذي يقدم حالة فلسفية مثقفة تخفف من طغيان الغياب على المعاني.

* هل ترى أن المشهد الشعري السعودي يبشر بجيل قادم من الشعراء أم ينذر بانتهاء الكبار؟

- الشعر في حد ذاته طائر قادم بالبشارة في كل الأجيال فلا يمكن لهذا الطائر أن يغيب أبدا، ولا يمكن له إلا أن يأتي حاملا بريد التفاؤل من جيل إلى جيل. أنا أعتقد أن المشهد يبشر بجيل قادم ولا ينذر بانهيار الجيل الماضي لأن الجيل الماضي قال كلمته وفصل عبارته على منوال أحلامه وآلامه. المشكلة التي أخشى منها هي مشكلة القطيعة بسبب التعالي والاعتداد المفرط بالنفس. والأخطر من القطيعة مشكلة الإقصاء بسبب التعصب للرأي الأحادي كما هو حاصل في مشهدنا الثقافي حيث يتم إقصاء بعض الشعراء من بعض الموسوعات الشعرية بسبب انتمائهم لشكل من أشكال الشعر دون الانتماء للشكل الآخر.

* من هو الشاعر الذي دائما ما تجده في شعرك وتجدك في شعره؟

- هذا سؤال جميل جدا.. ولكن لا يمكن لي أن أحدد شاعرا بذاته فأنا أدني خليطا من تجارب شعراء كثيرين امتزجت بهم روحيا وأثروا تجربتي على الصعيد المعرفي والإنساني. أعتقد أن كل شاعر يجد نفسه في القصيدة الجميلة لدرجة أنه يتخيل أنه كاتبها ويتيه في صحراء خياله حتى يصاب بالحمى والمرض من فرط الإعجاب. بمعنى أن الإعجاب قد يقاس بدرجة الحرارة في بعض الأحيان!

* ديوانك (رقصة عرفانية) الذي نفدت نسخته من الأسواق بسرعة.. هل يمثل استثناء من بين دواوينك الأخرى.. وإن كان كذلك، فما هو هذا الاستثناء؟

- ديوان (رقصة عرفانية) يمثل مرحلة مفصلية في تجربتي الشعرية على بساطتها (فلا تظن أنني أتحدث عن تاريخ شعري عظيم).. هذه المرحلة عبارة عن خطوة أمامية من الوعي الشعري كما أعتقد، وقد كتب عنه نقاد مهمون في مشهدنا الثقافي مثل الأستاذ محمد العباس والأستاذ محمد الحرز كما تناوله نقاد من خارج المملكة. وقد طبعته بعد فوزي بمسابقة البابطين الشعرية متزامنا مع ما قدمته لي تلك المسابقة من وهج إعلامي خصوصا وأن دورة البابطين ذاك العام كانت عن الشاعر اللبناني الأخطل الصغير وتم عقدها في بيروت.

* عندما تكتب القصيدة، هل ترى خطوطاً حمراء؟

- كثرٌ هم الرقباء الذين يتجسسون على الكاتب حينما يلتقي حبيبته الكتابة، بعضهم يحاول القضاء عليه والبعض الآخر يحاول حمايته، بينما هو هائم في سبحات إغماءة العشق لا يشعر بوجود الجواسيس من حوله إلا حينما يُفيق من تلك الإغماءة، ويقوم بترتيب خواطره على إضاءة شموع الوعي.

فالأعرافُ والتقاليد والقيم والأخلاق والسياسة والدين والتمرد والفن والإبداع وغيرهم كثير.. كل هؤلاء عبارة عن رقباء يزرعون عيونهم وآذانهم في زوايا المكان الذي يلتقي فيه العاشقان داخل الذات العاشقة، غير أن البعض منهم رقيب ناقد يسعى إلى أن تتم طقوس اللقاء على أكمل وجه يطمحُ إليه العشق، بينما البعض الآخر رقيب حاقد يحاول أن يجهض أحلام اللقاء في رحم الموعد. فالرقابة هنا ليست سلبية بالمطلق ولا إيجابية بالمطلق، وإنما أمرٌ بين أمرين، إذ هُناك من الرقباء من يكبح جماح المبدع وهناك من يحرضه على التمادي وهناك من يضع له حدوداً وضوابط.

ومما لا شك فيه أن معظم هؤلاء يمثلون سقوفاً مختلفة الارتفاع تحد من انتصاب قامة الكاتب الذي يحاول بدوره أن يثقب له فرجة في كل سقف يواجهه لانتصاب قامته حتى يصل إلى الوقوف الكامل، فتنحرف الكتابة هنا عن هدفها الرئيس وتتحول إلى فن إبداع الثقوب بدلاً من فن إبداع الجمال. وقد يستمرئ الكاتب هذه اللعبة ويتمادى فيها حتى تنزلق كتاباته في عالم المجردات والضبابية التي تتخبط في الغموض البغيض، حيث ينصب جل اهتمامه على المناورة بالألفاظ وكأن الأدب إنجاز لغوي فقط وليس مشهداً ثقافياً يشكل في الوجدان ويتم تنفيذه داخل اللغة.

إن تسقيف الأبيات الشعرية - مثلاً - يحدُّ من انطلاق الصرخات وتحليق الأحلام في تلك الأبيات، ولكن في الوقت ذاته يحميها من الصواعق والأمطار الوهمية، لذلك إذا ما زعمنا أنه لا سقف للقصيدة غير السماء فإننا قد نفقدها حينما تنداح في المدى المفتوح على المجرات العالية وتضيع في مداراتها، وإذا ما وضعنا لها سقفاً فسوف نُحس بارتطامها حتماً في ذلك السقف ونصحو على ريشها المدمَّى متناثراً من حولنا غارقاً في ابتهالات السكون.

إذن، فالكتابة أشبه بالحياة.. والتورط بالحرية المطلقة فيها أشبه بالتورط في الخضوع المطلق.. إذ كلتا الورطتين تفضيان بالكتابة إلى سوء العاقبة، والحل فيما أعتقد يكمن في الحرية المقيدة بالثوابت المبدئية وهذه تحتاج إلى عملية توفيقية بين العاشق والرقباء، حيث إن العاشق رقيق بطبعه فلا يستطيع أن يجرح حتى مشاعر المتجسسين عليه.

* متى يبرز شاعر القبيلة في (جاسم الصحيح) وهل هو عائق أمام تدفق الشعر؟

- لا يوجد شاعر قبيلة في أعماق (جاسم الصحيح) فهو ينتمي لعائلة صغيرة جداً بحجم ما ينتمي للعائلة البشرية على الصعيد الإنساني. ولكن ربما في بدايتي مع الكتابة - كما هي بداية أي شاعر أحسائي - بوصف الأحساء بيئة ريفية مغلقة، حيث يأخذ الشاعر هويته الشعرية الأولى من المجتمع عبر المشاركة في محافله ومنتدياته، وحيث يتم رسم ملامح هذه الهوية الشعرية بمقدار ما ينتمي الشاعر للمجتمع فيما يكتبه بعيداً عن قدراته الفنية.. أقول ربما في تلك البدايات، كنتُ ترجماناً لأحوال أيديولوجية مجتمعي مثلما كان الشاعر القديم ترجماناً لأحوال قبيلته، فكنت أعيش ذاتي الجماعية بدلاً من ذاتي الفردية. ولكن مع تطور التجربة حاولت قدر الإمكان أن أخرج من المساحة الفكرية الضيقة إلى المساحة الإنسانية الأشمل.

* الصحراء والبحر ضدّان اجتمعا لديك، فأيهما أعمق حضوراً في شعرك؟

- لا يمكن تحديد أيهما أعمق فهما جزء من جغرافية المكان حولي وجغرافية الذات داخلي، لذلك دائماً ما يقفزان في أفق المشهد الشعري حينما أكتب دون أن أخطط لاستحضارهما في القصيدة.

* ماذا عن الرموز التراثية في شعرك؟

- الرموز التاريخية تتسلل إلى شعري عبر هموم مشتركة تثقب غشاء الروح، ويحدث ذلك عندما أكابد ذات الهواجس التي كابدتها الرموز، فمثلاً أبو العلاء المعري وهاجسه الغيبي.. عنترة وهاجس الحرية.. وغيرهم.. فعندما أشعر بأنهم يعيشون معاناتهم داخلي تتسلل آلامهم وأحلامهم إليّ عبر الزمن وتختمر مدة طويلة في مشاعري قبل أن تتبلور في صورة قصيدة.

* كيف تختصر تجربتك الشعرية الطويلة في عدة سطور؟

- على مدى عشرين عاماً ونيف، استطاع الشعر أن يخلقني من جديد على عدة أصعدة خلقاً إنسانياً أعادني إلى ما يشبه ذاتي الأولى التي فطرني الله عليها ولكن شوهتها الحياة، فجاء الشعر ليعمل عملية جراحية لهذه الذات المشوهة ويقتطع معظم تلك التشوهات.. ومازالت العملية الجراحية مستمرة. بعد هذا الاستغراق في الحياة إلى حد الاستشراق وبعد هذا الانتماء إلى العائلة الإنسانية الواحدة، لا أريد أن أرجع القهقرى من مخيلة العالم الكونية إلى ذاكرة الزقاق المدفونة داخلي.. لا أريد أن أعود من هوية التطلع إلى هوية التذكر.. باختصار لا أريد العودة من أفق الخيال إلى قبر الذاكرة.. لقد خلقني الشعر من جديد لصالح كل البشر وخلق كل البشر من جديد في داخلي.. إن ما تبقى لي من أنفاس قد نذرتها للتأمل ولن أهدرها في الجعجعة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة