الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 13th February,2006 العدد : 140

الأثنين 14 ,محرم 1427

قراءة في حوارات عبدالله باشراحيل

لا أرغب في مهاجمة الأستاذ عبدالله محمد باشراحيل، أو الوقوف في طابور الأندية الأدبية أو مع منتقديه، بقدر ما أريد أن أقرأ وضعاً أدبياً، من خلال تلك الزوبعة التي بدأها (باشراحيل) بانتقاده للأندية الأدبية، وحالة الأدب في المملكة، في حواره الصارخ في مجلة الجزيرة (الثقافية)، (25-11-26هـ)، مع الصحفي الأستاذ عبدالله السمطي، وانتهاءً بتصريحه في مجلة (الأربعاء)، (25-12- 25هـ)، بأنه الشاعر الثالث بعد امرئ القيس وأبي الطيب المتنبي، فهو إذن ثالث اثنين، من عمقالة الشعر العربي...
في البداية، لا أحد ينكر أن عبدالله باشراحيل من طليعة شعراء المملكة، ومن أفضلهم، ومن الأدباء الذين سعوا حثيثاً نحو العالمية، وعلاوة على هذا، فهو صاحب صالون أدبي شهير، وله مساعٍ أدبية، وحاضن وناشر للثقافة والأدب والمواهب. لكن الذي ننكره عليه، ممارسته للنقد، ونقد ذاته، وتقييمها، حسب معيارية مضحكة، منطلقة من (الأنا)، ومعلوم: (أن للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم - النقد - كسائر الصناعات...)(1)، فالنقد - إذن - له علمه ورجاله، وليس كل شاعر ناقداً، إن ثمة ثنائية فاصلة بين الإبداع والنقد، فالقدرة على الخلق الإبداعي لا تمنح صلاحية لنقد الإبداع، في شتى الفنون، وقد لفتت القضية بال (سقراط) فقال عن الشعراء: (هم طائفة من الناس تنطق بالكلام البليغ، من دون أن تعرف ماذا تقول، ودون أن تستطيع الإجابة عما تعنيه بقولها)(2)، فضلاً عن أن ينقد الشاعر ذاته، والشاعر الذي يحق له النقد هو كائن مزدوج، استطاع الإبداع، وأتقن سر الصناعة الأخرى (النقد)، وعرف تركيبته الخفية، وفي كلا الحالتين ينفصل عن الآخر... ولا يمكن بأية حال أن ينقد نفسه، وتحت أي ظرف... وفي تحت أي لواء يمكن أن يصنف هذا النوع من النقد، هل ضمن النقد الموضوعي أم النقد الذاتي - التأثري؟!!
يقول (جورج صيدح): (على الشعراء أن يؤدوا رسالتهم للشعب دون التحدث العريض عنها)(3)، وخير من ذلك كله، القاعدة الأخلاقية من قوله تعالى {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}.
وإذا ردَّ الأستاذ باشراحيل كلامنا، ونظرتنا في القضية، ورأى أحقية في اقتحام حلبة النقد، فنهمس في أذنه: إن النقد قائم على الذوق، وحتى وإن تمترسنا بمقاييس نقدية صارمة، فلن تصدق، لأن هذه المقاييس نتاج تراكمي لقراءتنا الأدبية والنقدية، وحصيلة للثقافة المكتسبة، ثم إن المقاييس والحدود لا تنضبط في العمل النقدي، والأدب والفن بشكل عام، بخلاف العلوم الطبيعية والبحتة التي تكون أكثر ثباتاً بها..
في مسيرة الأستاذ باشراحيل الأدبية، تتبدى وشائج قربى، وتشابه بينه وبين بعض الشعراء القدامى، في الوعي بمهمة النقد الأدبي، ولمن تكون صلاحيته، وفي التعاطي مع النقاد،.. والشبه واضح بينه وبين (ابن الرومي) الذي يضيق صدراً بالنقاد، ومنهجهم في النقد، فهم عنده قاصرون عن فهم الشعر، ناهيك عن نقده. يقول:
قَصُرْت بالشعر حين تعرضه
على مبين العمى إذا انتقده
ما قال شعراً، ولا رواه، فلا
ثعلبه كان، لا، ولا أسده
فابن الرومي يصدر عن نظرة توجسية من النقاد، وشك وتربص، لذلك كان لا بد من القسوة عليهم، واستلاب حقهم من المعرفة والفهم، وليس ابن الرومي وحده من تعامل مع النقاد من هذا المبدأ، أي أن منهجهم هو: (طلب العيوب)، فهناك الفرزدق الذي هجا عنبسة الفيل، عبدالله الحضرمي، وهما من علماء اللغة، وكذلك بشار بن برد هجا سيبويه، لأنه استدرك عليه... وباشراحيل، استلهم ذلك الفكر القديم، وتعامل به مع النقاد في العصر الحديث، عصر التنوير والحضارة، وعصر التخصصات الدقيقة، يقول راداً على أحد النقاد بذات اللغة العتيقة:
الشعرُ ديوانُ العرب
إن كنت تعرف ما الأدب
ويبدو التداخل الفكري، والنفسي والشعوري، بينه وبين المتنبي واضح لدرجة بعيدة، وخاصة في قصيدته الأخيرة (لا أبالي بحسادي)، التي قصف فيها النقاد والأدباء الذين نقدوا الدراسة النقدية التي قام فيها الدكتور محمد المريسي، بدراسة شعره، واعتبروا الدراسة مجاملة مفضوحة لتجربة شعرية محدودة. يقول:
أذقتهم عذب شعري سائغاً عطرا
قد استطابوه لكن الحقود أبى
إن الذي يحمل الإبداع موهبة
لا كالذي يحمل الأسفار والحطبا
إن مضامين هذه القصيدة، ولغتها الصارخة، تذكرنا بصوت المتنبي، حيث عقدة الحساد مسيطرة على الشاعر، والأنا المتفردة بالإبداع والتميز، وصراعها مع الأدعياء (المتشاعرين)، وفي النهاية تكون هي المنتصرة، لأنها هي دون سواها تحمل مقومات النصر والمجد. يقول المتنبي:
إني وإن لمتُ حاسدي فما
أنكرُ أني عقوبة لهم
ويقول:
أرى المتشاعرين غروا بذمي
فمن ذا يحمد الداء العضالا
ومن يك ذا فم مرٍ مريض
يجد مراً به الماء الزلالا
وقوله:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصمُ
رجع الصدى بين شعر المتنبي، وعبدالله باشراحيل، ملموس، وهذه ومضات لتوضيح الصورة فقط، وإلا فإن التشابه والتناص بينهما من هذه الزاوية كثير، والمقارنة بين شعرهما، سيعطيك توضيحاً أكثر. ويبدو أن تبني باشراحيل، لمثل هذه القناعات، والنظرة القديمة لدور النقاد، وهي أنهم طالبو عيبٍ، ونقص، جعلته يدخل في صراع مع النقاد أو مَنْ لا يروق لهم شعره، لذلك كان طبيعياً، والحالة هذه أن نراه، يعظم نفسه، ويقدسها، ويجعل نفسه أشعر شعراء الأرض بعد زميليه، امرئ القيس وأبي الطيب المتنبي، أو أن ذلك نتيجة حتمية وردة فعل أكيدة لتجاهل النقاد لشعره، وعدم دراسته، وتهميشه عمداً، وتحطيمه، وهذه تهمة لا نبرأ نقادنا في المملكة منها (4)، فتعاظم نفسه، كرد فعل، وأيضاً ليقول للنقاد: أنا هنا.
وصحيح أن الأستاذ باشراحيل أطاح بجماجم كثير من الشعراء، بنظرته، (الثالوثية)، على امتداد الخريطة الزمانية والمكانية للأدب العربي، مما يعني بالضرورة تمزيق تلك الكتب الصفراء أو حرقها، التي تتغنى بأشعار الأعشى، أو اعتذاريات النابغة الذبياني، أو تطرب لحكمة زهير، وأطلال طرْفَة بن العبد، ونقائض جرير والفرزدق والأخطل، وزهديات أبي العتاهية وفلسفة أبي العلا المعري، وغزل ابن أبي ربيعة... بكلمات أخرى: أصبح الأدب بحاجة للكتابة من جديد، بدءاً بامرئ القيس ومسحاً لما بعده حتى نصل إلى المتنبي ثم نواصل المسيرة إلى أن نصل إلى الشاعر عبدالله باشراحيل، حسب انقلابه الشعري الأبيض على أمراء الشعر العربي.
إحالات:
1 - ابن سلام الجمحي.
2 - الحداثة في النقد الأدبي المعاصر، عبدالمجيد زراقط، ص 65.
3 - نفسه، ص 92.
4 - مثلاً، في كتاب نظرات في الأدب السعودي لراضي صدوق، لم يُدرس ضمن أدباء المملكة، رغم أن الكتاب ترجم لشعراء أقل موهبة منه.


عبدالوهاب حسن نجمي
wahab2@gawab.com


***
«الثقافية»: (سبق أن أوضح الشاعر باشراحيل في ردّ نشر بالثقافية ، أنه لم يَدّعِ هذا الفضل، وهذه الزوبعة مصدرها مكالمة هاتفية عابرة قال فيها لمهاتفه: إنني فخور بانحداري من كندة التي أنجبت امرء القيس والمتنبي..)
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved